ساجدة لله
2010-10-31, 04:36 AM
ثانياً: من نهاية القرن الحادي عشر الميلادي حتى بداية عصر النهضة في الغرب:
تتسم هذه الفترة من العصور الوسطى بتدهور أحوال اليهود. ويمكن اعتبار حروب الفرنجة التي تُعرَف اصطلاحاً باسم «الحروب الصليبية» نقطةً حاسمة في تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية، لا لأنها قامت بالهجوم عليهم ولكن لأنها تزامنت مع تحوُّل اقتصادي عميق في المجتمعات الغربية. وقد كانت هذه الحروب تعبيراً عن التحول المتمثل في ظهور القوى الاقتصادية المسيحية، مثل اللومبارد في إيطاليا والكوهارسين في جنوب فرنسا وفرسان الهيكل في فرنسا وغيرها من مناطق أوربا، والمتمثل أيضاً في ظهور جماعات رجال المال المحليين. لقد حلت هذه القوى الجديدة محل اليهود في التجارة الدولية أو في تجارة الجملة، وفي مجالات ونشاطات اقتصادية أخرى مثل إقراض المبالغ الكبيرة، الأمر الذي دفع اليهود إلى العمل في الربا والتجارة الصغيرة البدائية. واستمر هذا التيار في التَزايُد، وتبلور في القرن الثالث عشر الميلادي، واستمر حتى القرن الخامس عشر الميلادي، حتى أصبحت كلمة «يهودي» تعني «مرابي». وشهد هذا القرن أيضاً ظهور الملكيات القومية القوية التي بدأت تستقل بنفوذها عن الكنيسة وأصبحت لها مشروعاتها السياسية والاقتصادية المستقلة. وأدَّى هذا الوضع إلى ازدياد احتياج بعض هذه الدول إلى أعضاء الجماعة اليهودية لفترة من الزمن ثم إلى استغنائها عنهم في مرحلة لاحقة. وساهمت حركات الهرطقة في جنوب فرنسا، من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي، في تدهور وضع أعضاء الجماعات اليهودية حين اضطرت الكنيسة إلى اتخاذ موقف متشدد ونشطت محاكم التفتيش.
ويُعَدُّ يهود إنجلترا مثلاً جيداً على صعود اليهود وتدهور حالهم ثم طردهم وتَحوُّلهم من التجارة إلى الربا ومن اعتماد الطبقة الحاكمة عليهم إلى استغنائها عنهم. فهم لم يتأثروا كثيراً بحروب الفرنجة وإن شنت بعض الهجمات عليهم، ولكنهم تأثروا بظهور القوى المالية غير اليهودية، مثل اللومبارد والكوهارسين، الأمر الذي أدَّى إلى إفقارهم. وقد أصدر إدوارد الأول عام 1274 أمراً بمنع اليهود من الاشتغال بالأعمال المالية، وفتح لهم أبواب الزراعة والحرف والتجارة، ولكنه لم يُوفَّق في مساعيه فطردهم عام 1290. والظاهرة نفسها يمكن ملاحظتها بين يهود فرنسا الذين طُردوا من التجارة، حتى بلغ تدهورهم حداً كبيراً تحت حكم لويس التاسع (1226 ـ 1270) ثم تم طردهم عام 1306.
ويتسم وضع يهود إسبانيا في تلك المرحلة بأنه أكثر تركيباً بسبب وضع إسبانيا الخاص. فبعد فترة ازدهرت فيها التجارة اليهودية، أقيمت محاكم التفتيش عام 1478، وانتهى الأمر بطرد اليهود من إسبانيا عام 1492 بقرار من فرديناند وإيزابيلا، كما تم طردهم من البرتغال عام 1497. وبلغ عدد اليهود الذين طُردوا نحو مائة وخمسين ألف يهودي، لجأت أعداد كبيرة منهم إلى العالم الإسلامي في شمال أفريقيا والدولة العثمانية، وهاجر بعضهم إلى فرنسا وهولندا. أما يهود ألمانيا، فكان من الصعب طردهم من بلادهم بصورة كاملة، لأن ألمانيا كانت مقسَّمة إلى عدة إمارات صغيرة ولم تكن بها دولة مركزية قوية. وقد ضمن هذا الوضع استمرارهم إذ كانوا حينما يُطرَدون من إمارة يلجأون إلى أخرى كما كان الحال في إيطاليا، وعلى عكس ما حدث في فرنسا وإنجلترا وإسبانيا حيث كانت توجد سلطة مركزية قوية نسبياً.
ومع ذلك، يمكننا أن نقول إن معظم المدن الألمانية طردت اليهود في نهاية الأمر. ومع القرن السادس عشر الميلادي، لم تكن هناك جماعات يهودية إلا في ورمز وفرانكفورت، وكانت تُوجَد جيوب يهودية صغيرة متناثرة داخل الإمارات المختلفة. ونتيجة حروب الفرنجة، ولأسباب أخرى أيضاً، بدأ التجار اليهود بدعوة من الملوك البولنديين يسـتوطنون بولندا في القرن الثالث عشـر الميلادي، وذلك لتشـجيع التجارة. وقد كانت هناك عوامل تؤدي إلى تَناقُص عدد أعضاء الجماعات اليهودية من بينها عمليات الطرد، ولكن أهم هذه العوامل كان الاندماج والتنصر الطوعي، كما يقرر إسحق أبرابانيل (الكاتب الأسباني اليهودي في العصر الوسيط). ولكن، ورغم هذه العوامل، فقد زاد عدد يهود أوربا الكلي بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بسـبب الارتفاع النسـبي لمسـتواهم المعيـشي أو بسـبب هجرة يهود الخزر، حسب نظرية آرثر كوستلر، أو لمركب من هذه الأسباب جميعاً. ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، كانت أغلبية يهود العالم تعيش في أوربا. وقد تعرَّض كثير من الجماعات اليهودية في غرب أوربا للهجمات الشعبية أثناء وباء الطاعون أو الموت الأسود إذ أُلقي باللوم على اليهود ووُجِّهت إليهم تهمة نشر الوباء. وقامت الكنيسة ومعها الملوك بمحاولة حماية أعضاء الجماعات اليهودية من غضب الثورات الشعبية.
وكان التركيب الاجتماعي لأعضاء الجماعات اليهودية في أوائل العصور الوسطى الغربية هرمياً. وقد شغل أعضاء سبع أسر من مينز وورمز كل المناصب المهمة في فرنسا وألمانيا، فكان منهم قادة الجماعة اليهودية ورؤساء المدارس التلمودية ومعلمو التوراة. وظل الانتماء الأسري لليهودي أمراً مهماً جداً في تحديد مكانته الاجتماعية داخل الجماعة اليهودية، تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى المسيحي في المجتمع الإقطاعي الغربي، وظل هذا الوضع حتى القرن الثاني عشر الميلادي. ولكن، مع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، زاد نفوذ أثرياء اليهود، وأصبح بالإمكان إحراز المكانة من خلال الثروة خارج نطاق الوراثة. وتمتع أعضاء الجماعات في الغرب حتى القرن التاسع عشر الميلادي، شأنهم شأن الفئات والطوائف الأخرى، بما نسميه «الإدارة الذاتية»، وذلك في الشئون الخاصة بهم كطائفة دينية، أي فيما يتعلق بالمحاكم والمدارس وشئون الزواج والدفن. وقد قوَّى هذا هيمنة النخبة اليهودية على أعضاء الجماعة الذين كانوا يشكلون حلقة الوصل بين أعضاء الجماعة والسلطة الحاكمة في عملية جمع الضرائب وغيرها من الأمور.
ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات الغربية الوسيطة جماعة وظيفية وسيطة تشكل جسماً غريباً بمعنى الكلمة وتعيش على هامش المجتمع أو في مسامه، تؤمن بدين معاد للديانة الرسمية بل تقف منها موقف النقيض، فاليهود قتلة المسيح وفق التصور المسيحي وهم يقرأون نفس الكتاب المقدَّس (العهد القديم) دون أن يعـوا مضمونه، وهم بحســب القول المسـيحي: " أغبياء يحملون كتباً ذكية "، كما أنهم يرجعون لكتاب ضخم من كتب التفسير يُسمَّى التلمود الذي هو موضع شك العالم المسيحي، ويرتدون أزياء خاصة بهم، ويتسمون بأسماء يهودية، ويتحدثون برطَانَات غريبة وأحياناً بلغة غير لغة أهل البلاد مثل الفرنسية في إنجلترا والألمانية في بولندا، ويعملون في وظائف هامشية مثل التجارة والربا. وقد أخذت عزلتهم تتزايد حتى تبلورت تماماً داخل الجيتو خلال القرن الخامس عشر الميلادي. ويبدو أن استبعاد اليهود إلى هذا الحد هو الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهور المسائل اليهودية المختلفة في غرب أوربا ووسطها وشرقها. ولم تكن مؤسسات يهود أوربا الإدارية والتنظيمية في العصور الوسطى تمتلك بيروقراطية محترفة معترفاً بها من قبَل الدولة المركزية، ولم يكن هناك نظير لرأس الجالوت (المنفى) أو رئيس اليهود (نجيد)، فكان لكل قهال قوانينه الخاصة به (تاقانوت) التي يحدد فيها حقوقه وامتيازاته ويدافع عنها ضد يهود المدن المجاورة. وكانت المحكمة التابعة لكل قهال مستقلة تباشر نفوذها من خلال التهديد بالطرد من الجماعة (حيريم). وانقسام القهالات على هذا النحو كان تعبيراً عن اللامركزية التي كانت تسم النظام الإقطاعي في أوربا (ويختلف وضع الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب في كـثير من الوجـوه عنه في العـالم الإســلامي في الفترة نفسها. ففي العالم الإسلامي، اندمج اليهودي في مجتمعه على المستوى الوظيفي والاقتصادي والحضاري. كما أنه، باعتباره عضواً في جماعة دينية، لم يكن فريداً بل كان ضمن أقليات دينية أخرى).
ومن الصعب تحديد عدد اليهود في كل من أوربا والعالم في ذلك الوقـت. ويبدو أن من العسـير أيضاً الوصـول إلى تقـديرات تقريبية. ولذا، فإن الأرقام أقرب إلى التخمينات التي تستند إلى كم هائل من الوثائق المتضاربة، بل إن الأرقام الخاصة بالعصور الوسطى قد تكون أقل دقة من تلك الخاصة بالعالم القديم حيث كان يُوجَد جهاز إداري تابع للإمبراطورية (الرومانية على سبيل المثال) التي كانت تقوم بحصر سكانها وفرض الضرائب عليهم. ويبدو أن عدد يهود العالم كان يبلغ في القرن الثاني عشر الميلادي مليوناً معظمهم في العالم الإسلامي. ولكن، مع القرن الثالث عشر الميلادي، بدأ عددهم يزداد تدريجياً ليصل إلى مليون ونصف مليون، منهم عدد كبير في أوربا. وفيما يلي بيان تقريبي بعدد يهود أوربا خلال الفترة من عام 1300 إلى عام 1490:
الدولــــة / عام 1300 عدد اليهود /عدد السكان / عام 1490 عدد اليهود / عدد السكان
فرنسا /100.000 / 14 مليوناً / 20.000 / 20 مليوناً
الإمبراطورية الرومانية المقدسة
وضمن ذلك سويسرا وهولندا / 100.000 / 12 مليوناً / 80.000 / 12 مليوناً
إيطاليا / 50.000 / 11 مليوناً / 120.000 / 12 مليوناً
إسبانيا / 150.000 / 5.5 مليون / 250.000 / 7 ملايين
البرتغال / 40.000 / 600 ألف / 80.000 / مليون واحد
بولندا / 5.000 / 500 ألف / 30.000 / مليون واحد
المجر / 5.000 / 400 ألف / 20.000 / 800 ألف
المجموع / 450.000 / 44 مليوناً / 60.000 / 53 مليوناً
ولم يكن حجم أية جماعة يهودية في أية مدينة يزيد على ألفين. وكانت الجماعة المكونة من عدة مئات تُعتبَر مهمة وكبيرة. ويُلاحَظ أيضاً خلو إنجلترا من اليهود بعد أن كان قد تم طردهم. أما يهود فرنسا، فكانوا يوجدون أساساً في الإمارات البابوية. ويُلاحَظ أن أغلبية يهود العالم كانت لا تزال في العالم العربي الإسلامي، وأن الجماعات اليهودية كانت لا تزال متركزة في حوض البحر الأبيض المتوسط.
تتسم هذه الفترة من العصور الوسطى بتدهور أحوال اليهود. ويمكن اعتبار حروب الفرنجة التي تُعرَف اصطلاحاً باسم «الحروب الصليبية» نقطةً حاسمة في تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية، لا لأنها قامت بالهجوم عليهم ولكن لأنها تزامنت مع تحوُّل اقتصادي عميق في المجتمعات الغربية. وقد كانت هذه الحروب تعبيراً عن التحول المتمثل في ظهور القوى الاقتصادية المسيحية، مثل اللومبارد في إيطاليا والكوهارسين في جنوب فرنسا وفرسان الهيكل في فرنسا وغيرها من مناطق أوربا، والمتمثل أيضاً في ظهور جماعات رجال المال المحليين. لقد حلت هذه القوى الجديدة محل اليهود في التجارة الدولية أو في تجارة الجملة، وفي مجالات ونشاطات اقتصادية أخرى مثل إقراض المبالغ الكبيرة، الأمر الذي دفع اليهود إلى العمل في الربا والتجارة الصغيرة البدائية. واستمر هذا التيار في التَزايُد، وتبلور في القرن الثالث عشر الميلادي، واستمر حتى القرن الخامس عشر الميلادي، حتى أصبحت كلمة «يهودي» تعني «مرابي». وشهد هذا القرن أيضاً ظهور الملكيات القومية القوية التي بدأت تستقل بنفوذها عن الكنيسة وأصبحت لها مشروعاتها السياسية والاقتصادية المستقلة. وأدَّى هذا الوضع إلى ازدياد احتياج بعض هذه الدول إلى أعضاء الجماعة اليهودية لفترة من الزمن ثم إلى استغنائها عنهم في مرحلة لاحقة. وساهمت حركات الهرطقة في جنوب فرنسا، من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي، في تدهور وضع أعضاء الجماعات اليهودية حين اضطرت الكنيسة إلى اتخاذ موقف متشدد ونشطت محاكم التفتيش.
ويُعَدُّ يهود إنجلترا مثلاً جيداً على صعود اليهود وتدهور حالهم ثم طردهم وتَحوُّلهم من التجارة إلى الربا ومن اعتماد الطبقة الحاكمة عليهم إلى استغنائها عنهم. فهم لم يتأثروا كثيراً بحروب الفرنجة وإن شنت بعض الهجمات عليهم، ولكنهم تأثروا بظهور القوى المالية غير اليهودية، مثل اللومبارد والكوهارسين، الأمر الذي أدَّى إلى إفقارهم. وقد أصدر إدوارد الأول عام 1274 أمراً بمنع اليهود من الاشتغال بالأعمال المالية، وفتح لهم أبواب الزراعة والحرف والتجارة، ولكنه لم يُوفَّق في مساعيه فطردهم عام 1290. والظاهرة نفسها يمكن ملاحظتها بين يهود فرنسا الذين طُردوا من التجارة، حتى بلغ تدهورهم حداً كبيراً تحت حكم لويس التاسع (1226 ـ 1270) ثم تم طردهم عام 1306.
ويتسم وضع يهود إسبانيا في تلك المرحلة بأنه أكثر تركيباً بسبب وضع إسبانيا الخاص. فبعد فترة ازدهرت فيها التجارة اليهودية، أقيمت محاكم التفتيش عام 1478، وانتهى الأمر بطرد اليهود من إسبانيا عام 1492 بقرار من فرديناند وإيزابيلا، كما تم طردهم من البرتغال عام 1497. وبلغ عدد اليهود الذين طُردوا نحو مائة وخمسين ألف يهودي، لجأت أعداد كبيرة منهم إلى العالم الإسلامي في شمال أفريقيا والدولة العثمانية، وهاجر بعضهم إلى فرنسا وهولندا. أما يهود ألمانيا، فكان من الصعب طردهم من بلادهم بصورة كاملة، لأن ألمانيا كانت مقسَّمة إلى عدة إمارات صغيرة ولم تكن بها دولة مركزية قوية. وقد ضمن هذا الوضع استمرارهم إذ كانوا حينما يُطرَدون من إمارة يلجأون إلى أخرى كما كان الحال في إيطاليا، وعلى عكس ما حدث في فرنسا وإنجلترا وإسبانيا حيث كانت توجد سلطة مركزية قوية نسبياً.
ومع ذلك، يمكننا أن نقول إن معظم المدن الألمانية طردت اليهود في نهاية الأمر. ومع القرن السادس عشر الميلادي، لم تكن هناك جماعات يهودية إلا في ورمز وفرانكفورت، وكانت تُوجَد جيوب يهودية صغيرة متناثرة داخل الإمارات المختلفة. ونتيجة حروب الفرنجة، ولأسباب أخرى أيضاً، بدأ التجار اليهود بدعوة من الملوك البولنديين يسـتوطنون بولندا في القرن الثالث عشـر الميلادي، وذلك لتشـجيع التجارة. وقد كانت هناك عوامل تؤدي إلى تَناقُص عدد أعضاء الجماعات اليهودية من بينها عمليات الطرد، ولكن أهم هذه العوامل كان الاندماج والتنصر الطوعي، كما يقرر إسحق أبرابانيل (الكاتب الأسباني اليهودي في العصر الوسيط). ولكن، ورغم هذه العوامل، فقد زاد عدد يهود أوربا الكلي بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بسـبب الارتفاع النسـبي لمسـتواهم المعيـشي أو بسـبب هجرة يهود الخزر، حسب نظرية آرثر كوستلر، أو لمركب من هذه الأسباب جميعاً. ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، كانت أغلبية يهود العالم تعيش في أوربا. وقد تعرَّض كثير من الجماعات اليهودية في غرب أوربا للهجمات الشعبية أثناء وباء الطاعون أو الموت الأسود إذ أُلقي باللوم على اليهود ووُجِّهت إليهم تهمة نشر الوباء. وقامت الكنيسة ومعها الملوك بمحاولة حماية أعضاء الجماعات اليهودية من غضب الثورات الشعبية.
وكان التركيب الاجتماعي لأعضاء الجماعات اليهودية في أوائل العصور الوسطى الغربية هرمياً. وقد شغل أعضاء سبع أسر من مينز وورمز كل المناصب المهمة في فرنسا وألمانيا، فكان منهم قادة الجماعة اليهودية ورؤساء المدارس التلمودية ومعلمو التوراة. وظل الانتماء الأسري لليهودي أمراً مهماً جداً في تحديد مكانته الاجتماعية داخل الجماعة اليهودية، تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى المسيحي في المجتمع الإقطاعي الغربي، وظل هذا الوضع حتى القرن الثاني عشر الميلادي. ولكن، مع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، زاد نفوذ أثرياء اليهود، وأصبح بالإمكان إحراز المكانة من خلال الثروة خارج نطاق الوراثة. وتمتع أعضاء الجماعات في الغرب حتى القرن التاسع عشر الميلادي، شأنهم شأن الفئات والطوائف الأخرى، بما نسميه «الإدارة الذاتية»، وذلك في الشئون الخاصة بهم كطائفة دينية، أي فيما يتعلق بالمحاكم والمدارس وشئون الزواج والدفن. وقد قوَّى هذا هيمنة النخبة اليهودية على أعضاء الجماعة الذين كانوا يشكلون حلقة الوصل بين أعضاء الجماعة والسلطة الحاكمة في عملية جمع الضرائب وغيرها من الأمور.
ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات الغربية الوسيطة جماعة وظيفية وسيطة تشكل جسماً غريباً بمعنى الكلمة وتعيش على هامش المجتمع أو في مسامه، تؤمن بدين معاد للديانة الرسمية بل تقف منها موقف النقيض، فاليهود قتلة المسيح وفق التصور المسيحي وهم يقرأون نفس الكتاب المقدَّس (العهد القديم) دون أن يعـوا مضمونه، وهم بحســب القول المسـيحي: " أغبياء يحملون كتباً ذكية "، كما أنهم يرجعون لكتاب ضخم من كتب التفسير يُسمَّى التلمود الذي هو موضع شك العالم المسيحي، ويرتدون أزياء خاصة بهم، ويتسمون بأسماء يهودية، ويتحدثون برطَانَات غريبة وأحياناً بلغة غير لغة أهل البلاد مثل الفرنسية في إنجلترا والألمانية في بولندا، ويعملون في وظائف هامشية مثل التجارة والربا. وقد أخذت عزلتهم تتزايد حتى تبلورت تماماً داخل الجيتو خلال القرن الخامس عشر الميلادي. ويبدو أن استبعاد اليهود إلى هذا الحد هو الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهور المسائل اليهودية المختلفة في غرب أوربا ووسطها وشرقها. ولم تكن مؤسسات يهود أوربا الإدارية والتنظيمية في العصور الوسطى تمتلك بيروقراطية محترفة معترفاً بها من قبَل الدولة المركزية، ولم يكن هناك نظير لرأس الجالوت (المنفى) أو رئيس اليهود (نجيد)، فكان لكل قهال قوانينه الخاصة به (تاقانوت) التي يحدد فيها حقوقه وامتيازاته ويدافع عنها ضد يهود المدن المجاورة. وكانت المحكمة التابعة لكل قهال مستقلة تباشر نفوذها من خلال التهديد بالطرد من الجماعة (حيريم). وانقسام القهالات على هذا النحو كان تعبيراً عن اللامركزية التي كانت تسم النظام الإقطاعي في أوربا (ويختلف وضع الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب في كـثير من الوجـوه عنه في العـالم الإســلامي في الفترة نفسها. ففي العالم الإسلامي، اندمج اليهودي في مجتمعه على المستوى الوظيفي والاقتصادي والحضاري. كما أنه، باعتباره عضواً في جماعة دينية، لم يكن فريداً بل كان ضمن أقليات دينية أخرى).
ومن الصعب تحديد عدد اليهود في كل من أوربا والعالم في ذلك الوقـت. ويبدو أن من العسـير أيضاً الوصـول إلى تقـديرات تقريبية. ولذا، فإن الأرقام أقرب إلى التخمينات التي تستند إلى كم هائل من الوثائق المتضاربة، بل إن الأرقام الخاصة بالعصور الوسطى قد تكون أقل دقة من تلك الخاصة بالعالم القديم حيث كان يُوجَد جهاز إداري تابع للإمبراطورية (الرومانية على سبيل المثال) التي كانت تقوم بحصر سكانها وفرض الضرائب عليهم. ويبدو أن عدد يهود العالم كان يبلغ في القرن الثاني عشر الميلادي مليوناً معظمهم في العالم الإسلامي. ولكن، مع القرن الثالث عشر الميلادي، بدأ عددهم يزداد تدريجياً ليصل إلى مليون ونصف مليون، منهم عدد كبير في أوربا. وفيما يلي بيان تقريبي بعدد يهود أوربا خلال الفترة من عام 1300 إلى عام 1490:
الدولــــة / عام 1300 عدد اليهود /عدد السكان / عام 1490 عدد اليهود / عدد السكان
فرنسا /100.000 / 14 مليوناً / 20.000 / 20 مليوناً
الإمبراطورية الرومانية المقدسة
وضمن ذلك سويسرا وهولندا / 100.000 / 12 مليوناً / 80.000 / 12 مليوناً
إيطاليا / 50.000 / 11 مليوناً / 120.000 / 12 مليوناً
إسبانيا / 150.000 / 5.5 مليون / 250.000 / 7 ملايين
البرتغال / 40.000 / 600 ألف / 80.000 / مليون واحد
بولندا / 5.000 / 500 ألف / 30.000 / مليون واحد
المجر / 5.000 / 400 ألف / 20.000 / 800 ألف
المجموع / 450.000 / 44 مليوناً / 60.000 / 53 مليوناً
ولم يكن حجم أية جماعة يهودية في أية مدينة يزيد على ألفين. وكانت الجماعة المكونة من عدة مئات تُعتبَر مهمة وكبيرة. ويُلاحَظ أيضاً خلو إنجلترا من اليهود بعد أن كان قد تم طردهم. أما يهود فرنسا، فكانوا يوجدون أساساً في الإمارات البابوية. ويُلاحَظ أن أغلبية يهود العالم كانت لا تزال في العالم العربي الإسلامي، وأن الجماعات اليهودية كانت لا تزال متركزة في حوض البحر الأبيض المتوسط.