المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم



الهزبر
2008-06-04, 02:36 PM
السلام عليكم


الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم
من جهود الدراسات الاستشراقية للنص القرآني
( مدرسة نولدكه )

فضيلة الدكتور: عباس أرحيلة – حفظه الله-

تمهيد:

لفظ الاستشراق له إطلاقان : الأول يُراد به البحث في تراث الشرق عامة، والثاني يُطلق على البحث في تراث الإسلام بشكل خاص. وعادة ما يراد بالاستشراق الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي. والاستشراق ظاهرة ارتبطت بالعلاقات التاريخية الحضارية بين الشرق والغرب منذ كان الصدام بينهما إثر الفتوحات الإسلامية. فحينما انتشر الإسلام بسرعة أحس العالم المسيحي بالخطر، وحين فشلت الحروب الصليبية؛ ازداد الخوف من التيار الإسلامي؛ فبدأ التفكير في وقف ذلك التيار، والشروع في محاولات تشويه الإسلام والتشكيك فيه بتقديم صورة كريهة عنه، والبدء في عمليات التنصير. ومن هنا ارتبط الاستشراق في بداية تكوُّنه بالكنيسة ، وبالحركة الصليبية عموماً، واعتبر المستشرقون الأوائل عملَهم نوعاً من الكفاح ضداً على العروبة والإسلام، وأصبح المراد بالاستشراق محاربة الإسلام.
وأكد المستشرق الألماني رودي باريت ( Rudi Paret 1901 - 1982) أن الهدف الرئيس من جهود المستشرقين في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية هو التنصير، وعرَّفه بأنه إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى النصرانية (1).
ومنذ سنة 1412م أخذت حركة الاستشراق طابعها الرسمي بصدور قرار مجمع فيينا الكنسي القاضي بإنشاء كراسي للغة العربية في عدد من الجامعات الأوربية .
وبحلول العصور الحديثة اصطرعت في الدراسات الاستشراقية العوامل الدينية القائمة على التنصير والتبشير بالعوامل الاقتصادية الاستعمارية ، واصطَبغ ذلك كله بالمظاهر السياسية المتأثرة بالبحوث العلمية. وهكذا امتدت ظاهرة الاستشراق وأخذت أبعاداَ وخلفيات، في المعاهد والجامعات الغربية، وهي وإن تأثرت بالدراسات اللاهوتية في مراحلها الأولى؛فإن ضغوط الكنيسة بدأت تتقلص وتحل محلها الإديولوجيات الحديثة ، وبدأت الدراسات الاستشراقية تتأثر بالمعارف المستحدثة . ومن هنا عرف الاستشراق تحولات ومنجزات في حقول المعرفة عامة، وفي حقول المعارف الإسلامية خاصة. و أثبتت الظاهرة الاستشراقية فاعليتها وحضورها المعرفي في أكثر البلدان الأوربية، وأصبح الاستشراق مادة علمية ممثلة بكرسي في كل جامعة.
وكان القرآن محط أنظار المستشرقين عموماً؛ لأنه هو مصدر القوة في حياة المسلمين، وهو منبع الرؤية في حضارة الإسلام. فهو الموجه لحركة الحياة عند المسلمين، ولمناحي التفكير لديهم، وهو الأصل الأول في معرفة حقيقة الإسلام. وهو الذي يُحدد علاقة الإسلام بالديانات السابقة، إذ هيمن على الكتب السابقة، واستصفى مقاصدها في رسالات السماء إلى أهل الأرض. وكما وقف مشركو قريش من القرآن، واعتبروه شعراً مرة، وسحراً أخرى، وكهانة مرة، وأساطير الأولين مرات، وكما رموا صاحب الرسالة بالافتراء والكذب تارة، وبالجنون تارة أخرى ، وبحثوا له عن مصدر في الأرض؛ كانت جهود الاستشراق لا تخرج عن هذه التوجهات والتوجيهات التي استفاد منها كثير من العلمانيين في عالمنا العربي طيلة القرن العشرين، وما يزال بعضهم تشكل لديه منطلقات فكرية و" منهجية " . وباختصار ظل مشركو مكة والمستشرقون، ومن تتبعهم من أهل الإلحاد يعتبرون القرآن من تأليف محمد ( صلى الله عليه وسلم ). والملاحظ أن العداء التاريخي للإسلام ظل مترسبا في العقول ، وأن نيرانه ظلت متقدة إلى اليوم . وسعت جهود الاستشراق في معالجتها لموضوع القرآن أن تطمس مقولة الوحي فيه ، وأن تُثبت بشريته ليتسنى لها أن تُطفئ نوره بين سكان المعمور، ولم يتحقق شيء من ذلك.
وفي هذا التكريم لرجل سكنت لغة القرآن قلبه ؛ فشغف بها وجعلها منتزها لفكره ووجدانه، في تكريم الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال، اخترت أن أتعرض لعناية المدرسة الألمانية بالقرآن لسببين : أولهما : أن البحوث الألمانية تحتل دور القيادة في صيرورة الدراسات الإسلامية في الغرب ؛ إذ حققت جهودهم تأثيراً واسعاً في جل البحوث اللاحقة في الدراسات الاستشراقية ، وعلى امتداد تاريخ الاستشراق المعاصر . وثانيهما لأن تلك البحوث قد أصبحت مرجعاً وعمدة في كل ما يتعلق بشؤون القرآن؛ توثيقاً وتأريخاً ومعرفة بعلومه . ( وبلغني أن الأستاذ أحمد الشرقاوي كان قد ألقى محاضرة سنة 1967 بعنوان : جهود المستشرقين في خدمة التراث الإسلامي ) .
وموضوع كلمتي يتعلق بالمستشرق تيودور نولدكه ( Theodor Noldeke 1836 – 1931) ؛ شيخ المدرسة الألمانية التي عُنيت بالقرآن، وما كان لتلامذته من جهود في مجالات العناية بالقرآن الكريم.

أولا : الاستشراق الألماني وما تميز به عن غيره

بدأت عناية المستشرقين الألمان بحضارة الإسلام منذ أن اتصلت ألمانيا ببلاد الإسلام إثر الحملة الصليبية الثانية في عام 1147م، وخاصة بعد أن بدأ رجال الدين بترجمة الكتب العربية. فعندما تمت أول ترجمة للقرآن بين عامي 1141 – 1143م إلى اللغة اللاتينية، نجد أن هِرمان الدلماشي ( الألماني H.Alemanus ) قد أسهم في هذه الترجمة إلى جانب كل من ( روبرت الرتيني ) وراهب إسباني عربي، وإن لم تُنشر هذه الترجمة لمعاني القرآن إلا بعد أربعة قرون (2).
وقبل القرن الثاني عشر تبادل ( أتو الكبير) إمبراطور ألمانيا مع عبد الرحمن الناصر بالأندلس السفراء، وكان ذلك عام 956م . ويبدو أن الغاية من هذه السفارة هي معرفة اللغة العربية لعلها تساعد على ترجمة التوراة؛ لاشتراك العربية والعبرية في السامية (3).
وبدأت محاولة تدريس العربية مع العالم الألماني يعقوب كريستمان ( 1554 – 1613) ؛ الذي وضع فهرساً موجزاً لبعض المخطوطات العربية، ووضع كرَّاساً لتعليم كتابة الحروف العربية. وترجم أجزاء من الإنجيل إلى العربية للتمرن على القراءة . وقد أعد بنفسه الحروف العربية في قوالب من الخشب للمطبعة التي كان غوتنبورغ قد اكتشفها حديثاً . وفي عام 1585 عُين كريستمان أستاذاً في جامعة هايدلبرجHeidelherg ، واقترح إنشاء كرسي للدراسات العربية بها بغية نقل الفلسفة والطب من مصادرها العربية ... ومات كرستمان دون أن يتحقق مشروعه.
وكان المستشرقون الألمان في مطلع القرن الثامن عشر يقصدون هولندا لتعلم اللغات الشرقية ومن ضمنها العربية، وبعد عودتهم أخرجوا الدراسات من جامعاتهم من نطاق التوراة إلى ميدان الثقافة العامة . وفي مطلع القرن التاسع عشر انتقلوا صوب فرنسا حيث كان دي ساسي Silvestre de Sacy ( 1758 – 1838) أستاذ العربية والفارسية في مدرسة اللغات الشرقية يُدرس بباريس ؛ فتتلمذ له الألمان ، وتأثروا به، ومن أشهرهم : فلايشر (1801 – 1888 ) وإفالد ( 1803 – 1875 ) ، فعُدا من مؤسسي الدراسات العربية في ألمانيا (4).
ويلاحظ أن الاستشراق الألماني وضع نفسه خلال القرن الثامن عشر في خدمة اللاهوت المسيحي.
وكان يوهان جاكوب رايسكه Johann Jakob Reiske ( 1716 – 1774 ) أبرز مستشرق ألماني أسس الدراسات العربية في ألمانيا، وهو أول مستشرق ألماني وقف حياته على دراسة العربية والحضارة الإسلامية، ورأى أن اللغة العربية يمكن أن تُدرس لذاتها، في فترة لم يكن أحدٌ يهتم بالدراسات العربية . وكان له اهتمام واسع بالشعر العربي . وقد اعتبر نفسه شهيد الأدب العربي. وجاء في ترجمة حياته متحدثا عن المخطوطات " ليس عندي أولاد، ولكن أولادي يتامى بدون أب؛ وأعني بهم المخطوطات " (5).
وهو يرى " أن ظهور ( النبي) محمد وانتصار دينه هما من أحداث التاريخ التي لا يستطيع العقل الإنساني إدراك مداها، ويرى في ذلك برهاناً على تدبير قوة إلهية قديرة " (6).
ولعل المستشرق رايسكه أول من واجه علماء اللاهوت ودعا إلى دراسة العربية بصورة مستقلة ، ووقف في وجه ما أشاعه المستشرق الهولاندي أدرينوس غولَندوس المتوفى في عام 1718 من كون اللغة العربية لهجة عبرية ، وتابعه في رأيه هذا المستشرق الهولاندي ألبير شولتنسAlbert Schlntens ( 1686 – 1750 ) .
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، حاول الاستشراق اكتساب صفة " العلمية "، وبدأ يتحلى بالموضوعية، ولو بصورة نسبية، عندما تحول إلى علم قائم على النقد التاريخي ، فلم تعد غايته البرهنة على ضعة العالم العربي الإسلامي؛ وإنما حاول أن يطبق المعيار النقدي على تاريخ الإسلام كما يطبقه على تاريخ فكره الخاص. ولاحظ المستشرق الألماني " رودي باريت " أنه لم تتأتَّ له هذه العلمية " إلا عندما تأكد استعداد الناس للانصراف عن الآراء المسبقة، وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتي، وللاعتراف لعالَم الشرق بكيانه الخاص الذي تحكمه نظمه الخاصة، وعندما اجتهدوا في نقل صورة موضوعية له ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا " (7) .
وقد تميز الاستشراق الألماني بجمع المخطوطات ونشرها وفهرستها. مع اهتمام خاص بالجانب الفيلولوجي والصوفي والأدبي، وعناية بوضع معاجم في اللغة العربية، ودراسته لجوانب الفكر العربي الإسلامي في القديم خاصة. وكان الانشغال بالنص القرآني مما تميزت به جهود الألماني عن باقي جهود المستشرقين الآخرين. وذكر د. عبد الرحمن بدوي أن أقدم ترجمة ألمانية عن النص العربي مباشرة هي ترجمة دافيد فريدرش ميجرلن، الأستاذ في جامعة فرنكفورت ، وظهرت سنة1772 (8).
وعدد ترجمات معاني القرآن إلى الألمانية تصل إلى حوالي اثنتين وأربعين ترجمة . لعل آخرها ترجمة رودي باريت ( 1966 ) ، وقد اعتبرت أحسن ترجمة للقرآن الكريم .
ويلاحظ أن الاستشراق الألماني تميز بحضور كثير من أعلامه بجامعة القاهرة خاصة : برجتراسرBergstrasser ( 1886 – 1933 ) – إنو ليتمانE Littman ( 1875 – 1958 ) – جوزيف شاختJoseph Schart ( 1902 - 1969). وفي أواخر الثلاثينيات وأوائل الأبعينيات من القرن العشرين كان من الوافدين اليهود على القاهرة الفارين من النازية الألمانية : بول كراوسPaul Kraus ( 1904 – 1944 ) – وماكس مايرهوفMax Meyerhof (1874 – 1945 ) ، وكانت لهما عناية بالفلسفة والعلوم الإسلامية .
وعُين إلى جانب هؤلاء في مجمعي اللغة العربية بالقاهرة ودمشق : كل من هارتمان Hartmann ( 1851 – 1918 )- أوجست فيشرAugust Fisher( 1865 – 1949) – وكارل بروكلمان Carl Brockelmann ( 1868 – 1956 ) – وهلموت ريترHellmut Ritter ( 1892 – 1971 )... وقد تولى المستشرق الألماني فيلهيلم شبتاW.Spitta ( 1853 – 1883 ) سنة 1875 إدارة دار الكتب المصرية ، وفهرس مخطوطاتها في نحو أربعين صفحة .
وقد لاحظ بعض المتتبعين لحركة الاستشراق الألماني أنه تميز يما يأتي :
1 – حياد نسبي عن الغايات السياسية أو الاستعمارية أو الدينية. فهو في عمومه لا ينطلق من خلفيات إديولوجية استعمارية. فألمانيا لم تكن لها مستعمرات في البلدان العربية أو الإسلامية. كما أنها لم تُعنَ بنشر المسيحية، أو بالأحرى لم يترك الفرنسيون والإنجليز للألمان حرية العمل في هذا الحقل . ومع هذا، يصعب وصف الجهود الألمانية بالحياد المطلق، والموضوعية النزيهة. فهذا المستشرق الألماني رودي بارت المتوفى سنة 1982، يؤكد بموضوعية أنه " من التعسف أن يظن المرء أن في إمكانه أن يُعالج جهود الألمان على أنها مطلقة، وأن يَفصلها عن ارتباطها بالأوشاج والأربطة العالمية " (9).
فهذا المستشرق الأماني بيكر ( كارل هينريخ Bekker Karl Heinrch: 1867 – 1933 ) ، مؤسس مجلة إسلام ، قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في إفريقية ، وقد ذكر نجيب العقيقي أنه قد استُعين به في وزاراة الخارجية (1916) ، واختير وزيراً لها (10) .
2 – روحه المسالمة الخالية من العدائية للعنصر العربي، وغلبة الروح العلمية التي تبتعد عن الأغراض، وتتقصى الحقائق بتجرد وموضوعية؛ حيث إن المستشرقين الألمان لم يتعمدوا تشويه الحضارة الإسلامية العربية، بل كثيراً ما نجدهم يُقدرون التراث الإسلامي العربي، ويُبدون إعجابَهم به.
3 – اهتمامه بالقديم والتركيز على دراسة التراث الإسلامي العربي وتاريخ الحضارة الإسلامية. وإذا كان الإسلام قد استقطب اهتمام المستشرقين؛ فإن ما ميز الاستشراق الألماني أيضاً هو أنه أصبح مصدراً وعمدة في الدراسات القرآنية لدى المستشرقين الأوربيين عامة (11).

ثانيا : تيودور نولدكه ( 1836 – 1931) : لمحة عن حياته وآثاره

نولدكه هو أحد أقطاب الاستشراق الألماني، وشيخ الألمان بدون منازع، به انتهت الحقبة الزاهية للاستشراق الألماني. وقد جعل مدينة ستراسبورغ في نهاية حياته مركزاً للاستشراق الأوربي. وحصيلة جهوده في مجال دراسة النص القرآني؛ أصبحت عمدةً ومنطلقاً للدراسات القرآنية في أوربا، وأصبحت تنبني عليها أخطر النتائج في مجالات الدراسات الإسلامية. فقد كان أكبر متخصص في علوم القرآن في أوربا كلها.
أ – مسيرته العلمية:
ولد ثيودور نولدكه في هاربورغ سنة 1836 في أسرة شغل أفرادُها مناصب علمية وإدارية. درس اليونانية واللاتينية على والده. وتمكن من اطلاع واسع على الآداب اليونانية . تسجل في كلية غوتنجن Gottingenسنة 1853 ، فأتقن ثلاث لغات سامية هي : العبرية، والسريانبة، والعربية. كما تعلم اللغة الفارسية والتركية والسنسكرتية على أستاذ اللغات الشرقية : هانيريش إفالد H. Ewald ( 1803 – 1875) ؛ ليصبح مستشرقاً.
وحصل على الدكتوراه سنة 1856 برسالة له باللاتينية تناول فيها " أصل القرآن وتركيب سوره "، وهو في سن العشرين. وفي سنة 1860 ، ترجم رسالته هذه إلى الألمانية بعد تنقيحها ووضع لها عنوان " تاريخ القرآن "، وهذه الطبعة توسع فيها جدا فيما بعد بالتعاون مع تلميذه شفالي. ثم بدأت رحلاته العلمية إلى ليبزيج وفيينا وليدن وبرلين؛ وذلك لاستكمال دراسته والوقوف على المخطوطات :
كانت له زيارة إلى فيينا (1856 – 1857) ، تمكن خلالها من الاطلاع على المخطوطات العربية ، وبعد ذلك كان له اتصال بكثير من المستشرقين الهولنديين : رينهارت دوزيReinhart Dozy ( 1820- 1883 ) ويونبولJnynboll ( 1832 – 1890) ...
وببرلين ( 1858 – 1860 ) اشتغل مساعداً بمكتبة برلين . وكُلِّف بوضع فهرست للمخطوطات التركية هناك.
وفي سنة 1961 عُيِّن مُعيداً في جامعة جوتنجن فكلَّفه إفالد بإلقاء دروس في التفسير للعهد القديم ودروس في نحو اللغة العربية .
وسمي أستاذ كرسي للغات السامية والسنسكرتية في جامعة كييل ( 1864 – 1872 ).
ثم عُين أستاذاً للغات الشرقية في جامعة ستراسبورغ بين 1873 و 1920 فجعلها مركز للدراسات الشرقية في ألمانيا . وبالرغم من أن المدينة أصبحت فرنسية بعد الحرب العالمية الأولى؛ فإن أحداً لم يجرؤ على طرده منها؛ لكونه جعل من ستراسبورغ مركز الاستشراق الأوربي في تلك الحقبة. وفي سنة 1920 انتقل إلى مدينة كارلسرويه ( منطقة الرين الأعلى ) وقضي هناك سنواته الأخيرة عند ابنه الذي كان آنذاك مديراً للسكك الحديدية، إلى أن توفي سنة 25 ديسمبر 1930 (12).
ب – أعمال نولدكه وآثاره :
ترك في عمره المديد ( 94 سنة ) حوالي سبعمائة بحث فضلا عن أربعة وعشرين كتابا. وقد وضع المستشرق بيكر فهرسا كاملا عن أعمال نولدكه. ويحتوي على أكثر من 700 عنوان في مجلة الإسلام : 1932 . ولعل من أهم الأسباب التي مكنت نولدكه من بلوغ تلك المكانة العلمية، وتلك الشهرة التي حظي بها في حياته وبعد مماته؛ اطلاعه الواسع على أهم المخطوطات في اللغات السامية، وانكبابه على دراسة القرآن في ضوء تعمقه لتلك اللغات وعلى دراسته للشعر العربي القديم، وعنايته باللغة والنحو العربيين، مع التزامه بمنهج صارم طغى على تعامله مع الحقائق. " وقد طبق منهجا تحليلا على العهد القديم أثار عليه ضجة داخل أروقة جامعة كييل "(13).
وإلى جانب رسوخه في علوم القرآن، وإسهامه في وضع أسس البحث العلمي للدراسات القرآنية التي جاءت بعده؛ فقد كانت له مشاركة فعالة في حقول قريبة من مجال القرآن الكريم.

(1) في مجال المعجم العربي:
سجل نولدكه على نسخته الخاصة من معجم فرايتاخG. Fretag ( 1788 – 1861) [ وهو معجم لاتيني في أربعة أجزاء نشره في هاله : 1830 – 1837 ] أمثلة كثيرة جدا نتيجة اشتغاله بالنصوص العربية. وقام يورج كريمرJ. Kraemer ( 1917 - 1961 ) ببحث المواد التي سجلها نولدكه ، ونشرها في " معجم استشهادات للغة العربية الفصحى : إعداد نولدكه " 1952 - 1954 – (14).

(2) في مجال الشعر العربي:
إن المتتبع لجهود المستشرقين في دراساتهم للتراث العربي تُلفته عناية المستشرقين بالشعر العربي القديم، لمكانة ذلك الشعر في نفوس العرب وتاريخهم. ولما له من أهمية في فهم الذهنية العربية، وما له من خطورة في فهم التراث العربي القديم عموماً، وإدراك خفايا القرآن الكريم على وجه الخصوص.
لقد أدرك المشتغلون بتراث الشرق الإسلامي أن تاريخ الشعب المسلم العربي، في صيرورته التاريخية وتطلعاته المستقبلية؛ مشدود إلى قطبين أساسيين، يُحركان وجودَه، ويًحددان مصيره؛ هما : القرآن ولغة هذا القرآن.
وكتابه " مختارات من الشعر العربي " جمع فيه باقة من ديوان الشعر العربي حتى نهاية العصر الأموي؛ لاستعمالها في أغراض الدرس . وذكر المستشرق الألماني رودي بارت أن الكتاب ما يزال معتمداً في الجامعات يدرس فيه الطلاب المتخصصون [ طبع سنة 1890 ، وأعيد طبعه سنة 1933 ، 1965 ، وقد زوده أغست مولّرAugust Muller(1847 – 1892 ) بمعجم ] (15) .
أما ثمرة دراساته للشعر القديم ، فقد أودعها في كتابه " أبحاث لمعرفة شعر العرب القدماء " : 1864 ؛ وهو يتألف من عدة مقالات وترجمات . وقد ترجم الفصل الأول منه د, عبد الرحمن بدوي في كتابه : " دراسة المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي " [ بين ص17 – 40 ] ، وهو يحمل عنوان : " من تاريخ الشعر العربي ونقده " . وقد ختم نولدكه هذا الفصل بفقرة جديرة بالتأمل والانتباه ، عبر فيها عن تفاعله مع الشعر العربي الجاهلي حين وجده عظيما وجميلا في نطاق حدوده ؛ " وتسري فيه روح الرجولة والقوة ، روح تهزنا هزا مزدوجا إذا ما قارناه بروح العبودية والاستخذاء التي نجدها في كثير من الشعوب الأسيوية الأخرى :
سأغسِلً عني العارَ بالسيف جالباً عليَّ قضاءُ الله ما كان جالبا
بهذه الكلمات يمضي العربي الحر إلى ساحة القتال ولقاء الموت . هذه الروح الرجولية التي تتجلى في قصائد الأعراب القدماء ساكني الصحراء ، يُمكن أيضا أن تكون قدوة نحتذي نحن به . والآن يبرز أمام الشعب الألماني السؤال عما إذا كان قد عقد العزم على أن يغسل بدمه العار القديم " (16) .
وقد ترجم وشرح قصائد عروة بن الورد 1963 ، وترجم وشرح خمساً من المعلقات : 1899 – 1901 .
(3) في مجال النحو العربي:
أسهم نولدكه في النحو العربي بدراسات قيمة ، خاصة بالدراسة التي ظهرت في مذكرات أكاديمية فيينا عام 1897 : " في نحو اللغة العربية الفصحى " وقد حدد فيه الأمثلة ووضع القواعد وما شذ عنها . كما تميز بمجموعة هائلة من النصوص التي انتخبها وأثبتها في مذكراته لأهميتها النحوية ( أعيد طبع الدراسة سنة 1963 ) (17) .

(4) في مجال السيرة النبوية وتاريخ الإسلام:
كتب في مجال السيرة المحمدية كتاب : " حياة محمد عرض مبسط مستمد من المصادر " سنة 1863 ، واعتُبِر الكتاب نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه عرض تاريخي علمي معتمد على المصادر وفي متناول القراء .
وفي مجال تاريخ الإسلام اضطلع بالجزء الخاص بالساسانيين عند إخراج طبعة ليدن النموذجية لتاريخ الطبري ، وأشفعها بترجمة ألمانية هي " تاريخ الفرس والعرب في عصر الساسانيين " عام 1879 .

ثالثا : نولدكه والنص القرآني

(1) العناية بالقرآن قبل نولدكه : تتميز أقسام الدراسات الشرقية في الجامعات الألمانية بقراءة النصوص القرآنية ؛ إذ تُتاحُ لكل طالب فرصة اختيار نصوص من القرآن.
ولابأس من الإشارة إلى الدراسات القرآنية السابقة والمعاصرة لنولدكه :
أ - وفي سنة 1746 نقلت ترجمة القرآن من الإنجليزية إلى الألمانية ، وصاحب الترجمة الإنجليزية هو المستشرق الإنجليزي جورج سيلGeorge Sale (1697 – 1736) ، وقد صارت ترجمته عمدة في تاريخ الدراسات القرآنية ، وراجت رواجا عظيما خلال القرن الثتامن عشر .
ب - فريدريك روكتFriedrich Ruckert ( 1788 – 1866)، ترجم قسماً من القرآن الكريم إلى الألمانية، طبعه بعد وفاته المستشرق الألماني أوغست مولّر، فرنكفورت، 1888 ، وقد قيل : إن هذه الترجمة أقرب إلى بلاغة القرآن من سائر الترجمات الأخرى (18).
ج - غستاف فلوجلGustav Flugel ( 1802 – 1870 ) ، وضع طبعةً للنص العربي للقرآن ( ليبزيج Leipzig : 1834 – ط2 ، 1842 ، ط3 ، 1885 ) صارت هي المعتمدة عند المستشرقين من ذلك الوقت إلى اليوم ، على الأقل في ترقيم آيات القرآن، كما وضع أول معجم مفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، مع ذكر رقم السورة والآية التي ترد فيها ، وأسماه " نجوم الفرقان في أطراف القرآن " في مدينة ليبزيج عام 1934 ، وقد أسدى من خلاله خدمة جلى للباحثين عموما ( وقد اعتمده فؤاد عبد الباقي في كتابه " المعجم المفهرس للقرآن الكريم " ، وتعقب عليه ما فاته ) . [ وفلوجل هو ناشر كتاب الفهرست لابن النديم وكشف الظنون في أسماء الكتب والفنون لحاجي خليفة ] –
د - غوستاف فايلGustav weil ( 1808 – 1889 ) وضع الأساس لعلوم الإسلام في القرن التاسع عشر، وذلك في كتاب " النبي محمد : حياته وتعاليمه " ( اشتوتجر 1843 )، وذكر د. عبد الرحمن بدوي أن كتابه هذا كان أشد الكتب تحاملا على النبي، وبعداً عن الموضوعية العلمية والدقة التاريخية. وكتابه " مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن " (1844) ، قسم فيه القرآن إلى ثلاث مراحل بالإضافة إلى مرحلة مدنية ( وقد بنى نولدكه هذا التقسيم )، وزعم فايل وهو يهودي الديانة ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة (19).
(2) أطروحة نولدكه : " تاريخ النص القرآن "
كان موضوع أطروحته هو " أصل القرآن وترتيب سوره " ، قدمها سنة 1858 . ولما أعلنت أكاديمية باريس عن جائزة ، لبحث يكتب في موضوع القرآن ؛ رحل في طلب المزيد من المصادر لرسالته ، وتوسع فيها ، ثم أرسل مساهمته بعنوان " تاريخ القرآن " إلى مسابقة تلك الأكاديمية ( مجمع الكتابات والآداب في باريس ) . فنال الجائزة سنة1858 ( تقاسم الجائزة هو وشبرنجر( Spenger : 1813 – 1893) ، والمستشرق الإيطالي وميكليه أماري ( Michele Amari : 1806 – 1889) عن بحثه " الترتيب الزمني لآيات القرآن "Memoire sur la Cronologie du Coran . وبعد أن أعاد نولدكه النظر في تلك الرسالة ، ترجمها إلى الألمانية ، ونشرها بعنوان : " تاريخ النص القرآني " سنة 1960 .
وظهرت الطبعة الثانية من الكتاب وقد زيدت ثلاث مجلدات في عام 1909 و 1919 و 1938 . وقد أسهم في إنجاز كل من تلميذه المستشرق شفالّيSCHWALLY الذي أصدر في مجلدين ( ليبزيج 1909 – 1919 ) ، فلما مات قام برجتستريسر وبريتسل بإخراج الجزء الثالث منه بعنوان " تاريخ النص القرآني " . وسأخص تلامذة نولدكه هؤلاء بكلمة قصيرة ، بعد تقديم " تاريخ القرآن " والتنبيه على مدى ما كان له من أثر في توجيه أفكار كثير المستشرقين .
وكتاب " تاريخ النص القرآن " عبارة عن عرض تاريخي مفصل لكل ما يتصل بالقرآن منذ نزول الوحي حتى آخر طبعة ظهرت في القرن التاسع عشر . خصص الجزء الأول للسور المكية والمدنية . وتطبيقاً للمنهج التاريخي تابع نولدكه " فايل " في تقسيمه للسور زمنيا إلى ثلاث فترات مكية وفترة مدنية ( وهو تقسيم لقي استحساناً عند كثير من الباحثين ) ، كما حدَّد في هذا الجزء مميزات السور المكية والمدنية ؛من حيث الأسلوب والمضمون . أما الجزء الثالث فقد خصصه لمعالجة تاريخ القرآن (21) . وبذلك أعاد نولدكه ترتيب القرآن زمنيا على غير الطريقة الإسلامية ، فأصبح الترتيب الذي انتهجه نولدكه يشغل أذهان المستشرقين جميعاً ، ويُعلقون عليه أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية (24) .
فالبحث في تاريخ القرآن هو بحث في توثيق النص القرآني : ملابسات نزوله ، جمعه وتدوينه ، قراءاته ... والغاية ربطه بمناخه العام ؛ لإثبات بشريته .
ويعتبر هذا الكتاب أخطر كتاب أنتجه الغرب في تاريخه مع تعامله مع النص القرآني ، ويكفي هذا الكتاب شهرة ومكانه أنه أصبح عمدة في فرع تخصص " قرآن " ، وأنه أصبح ملاذا للمستشرقين ، وعلى من يريد الاشتغال علميا بالقرآن على أي نحو من الأنحاء . وذكر د. ميشال جحا أنه أصبح راسخ القدم في العلوم القرآنية ، وأنه وضع أسس البحث العلمي للدراسات القرآنية التي جاءت من بعده (20).
وكتاب نولدكه يعتبره أبو عبد الله الزنجاني في كتابه " تاريخ القرآن " من أهم ما ألفه الإفرنج في تاريخ القرآن ؛ إذ بحث فيه صاحبه بتضلع عميق . وحاول أن يكون موضوعيا بقدر الإمكان . وقد تناول البحث حقيقة الوحي والنبوة وما بينهما من علاقة ، وحاول ربط السيرة النبوية بتاريخ السور مكيها ومدنيها ، كما تناول حكمة نزول القرآن وأسباب نزول الآيات وغيرها من الموضوعات (22).
وأما بلاشيرREGIS BLACHERE ( المستشرق الفرنسي 1900 – 1973 ) فيرى أنه بفضل نولدكه ومدرسته أصبح ممكنا من الآن فصاعدا أن نوضح للقارئ غير المطلع ما يجب أن يعرفه عن القرآن ؛ ليفهمه بتوعية ، وليتخطى القلق الذي ينتابه عند اطلاعه على نص يغلب عليه الغموض (23).
يبدو أن عناية نولدكه بالنص القرآني كانت وراء شهرته ، ولا شك أن جهوده في حقل الدراسات القرآنية ظلت معلمة بارزة في أعمال المستشرقين على الإطلاق . وإن القارئ لدائرة المعارف الإسلامية يُثير انتباهه حقا مكانة نولدكه عند كتاب مواد الدائرة ؛ إذ تراهم يعتبرونه عمدة وحجة في كل ما يتعلق بقضايا النص القرآن . وقد اتضح لي أن كتابه " تاريخ القرآن " هو أخطر بحث أُنجز في الدراسات الألمانية في بابه ؛ لما كان له من تأثير وإشعاع ، وحضور دائم في كل الدراسات التي تعرضت بعده للنص القرآني . وقد أشرت إلى أن موضوع أطروحته ، كان " أصل القرآن وترتيب سوره " (1858) .
كان المستشرق الألماني غوستاف فلوجل ( 1802 – 1870) أول مًن وضع فهرسا أبجديا لمفردات القرآن مع ذكر رقم السورة ورقم الآية التي ترد فيها . وأسماه " نجوم الفرقان في أطراف القرآن " ( وقد كان نواة صالحة اعتمدها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في وضع " المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم " تعقب عليه ما فاته ، واستدرك فيه ما خفي عليه من وجه الصواب ) . ومما يتمم كتابه " تاريخ النص القرآن " دراسته " في لغة القرآن" التي نشرت في مجموعة " مقالات جديدة في علم اللغات السامية " 1910 . وقد ضمت تلك الدراسة المواضيع الآتية : " القرآن والعربية : خصائص أسلوبية ، وخصائص تكوين الجمل في لغة القرآن " و " كلمات أجنبية مستعملة عن عمد وعن غير عمد في القرآن " .
وفي " موضوع " القرآن والعربية " نقد نولدكه ما روَّج كارل فولرسK. Vollers ( 1850 – 1909 ) في كتابه " لغة الكتابة واللغة الشعبية في بلاد العرب قديما " . فقال إن النص الأصلي للقرآن كان مؤلفا بلهجة من اللهجات كانت سائدة في الحجاز وكانت خالية من الإعراب . وقد أذاع فولرس أن القرآن كان في بادئ الأمر بلسان عامة قريش وأن القرآن قد عُدِّل وهُذب حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار اللغة العربية (25) .
ومما يُلاحظ أن كُتاب دائرة المعارف الإسلامية من المستشرقين اعتمدوه ، كما اعتمده كُتَّاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض اللغات الأجنبية ، وهناك نقول من كتاب نولدكه استفاد منها الباحثون عامة في مجالات الدرس القرآني . ولا يخفى أن أهم ما بحثه المستشرقون في الدراسات القرآنية هو موضوع تاريخ القرآن : لغته ، نزوله ، تدوينه ، قراءته ... وينبغي التذكير بأن المنهج التاريخاني الاستشراقي وجد ضالته خلال القرن التاسع عشر في محاولات إعادة ترتيب السور القرآنية في ضوء الظروف والمناسبات التي مرَّت منها الدعوة الإسلامية ... فذهب البحث يرصد أخبار تدوين القرآن ، ويتتبع تحركات الوحي ، ويُفتش في أسباب النزول ؛ وهو مشدود إلى الأرض يبحث عن ظاهرة يُؤكد بها بشرية القرآن .

رابعا : دعاوى وأوهام في آراء نولدكه

الهزبر
2008-06-04, 02:38 PM
السلام عليكم


(1) تناقضه في شأن دقة النص القرآني
حول توثيق النص القرآني ، يلاحظ أن موقفه لا يخلو من تناقض واضطراب ، فهو قد لمح إلى وجود التحريف في القرآن في كتابه " تاريخ النص القرآني " ؛ وذلك حين كتب فصلا بعنوان : " الوحي الذي نزل على محمد ولم يُحفَظ في القرآن " ، ثم نجده يًصرح بالتحريف في مادة " قرآن " بدائرة المعارف الإسلامية ، حين يقول : " إنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات في القرآن ضاعت " ، وفي مادة " قرآن " في دائرة المعارف البريطانية يُقرر مسألة التحريف في القرآن فيقول : " إن القرآن غير كامل الأجزاء " .
وتناقض نولدكه يبدو في موقفه من المستشرق الألماني " فولرس " الذي زعم أن القرآن مؤلف بلهجة قريش ، وأنه عُدِّل حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار الحضارة العربية ؛ فانبرى إليه نولدكه يرد عليه موضحاً أن كلامه عارٍ من الصحة والتحقيق العلميين (26) .
ويبدو أن نولدكه أسهم بشكل قوي في ترسيخ مسألة التحريف في الفكر الاستشراقي ؛ فقد فتح الطريق أمام تحريف القرآن .
ويجد الباحث أصداء تلك الدعوى في أعمال المستشرقين ، ومن خلالها انتقلت إلى أذهان كثير من الأوربيين . ويتضح فيما كتبه المستشرق "بول " في دائرة المعارف الإسلامية الألمانية ( مادة " تحريف ) . وقد اعتبر " بول " التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة ، وأن الأمر الذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة هو ما جاء بالقرآن من آيات اتهم فيها محمد صلى الله عليه وسلم اليهود بتغيير ما أنزل إليهم من كتب ، وبخاصة التوراة . ولكن عرضه للوقائع والشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراك خاطئ أثار عليه النقد والسخرية من جانب اليهود ، فكان في نظرهم مبطلا .
وقد أثار الكاتب دعاوى لم يستطع أن يُدلِّل على صحَّة واحدة منها على الإطلاق ... وصاحبه في بحثه انحرافٌ وإسرافٌ لا يَمتّان إلى استكناه الحقيقة بصلة ، وقد تفضَّل بالرد على أغلب هفواته الأستاذ أمين الخولي في هوامش دائرة المعارف الإسلامية .
(2) فواتح السور : ومما يَغمِزُ به نولدكه دقة النص القرآني ؛ ادعاؤه الغريب أن أوائل السور دخيلة على هذا النص . ففي الطبعة الأولى في كتابه "ّ تاريخ القرآن " بالاشتراك مع شافلي ، تظهر- لأول مرة فكرة في تاريخ الدراسات القرآنية - فكرة لا ترى في أوائل السور إلا حروفا أولى أو أخيرة مأخوذة من أسماء بعض الصحابة الذين كانت عندهم نُسَخ من سور قرآنية معينة . فالسين من سعد بن أبي وقاص ، والميم من المغيرة ، والنون من عثمان بن عفان ، والهاء من أبي هريرة ، وهكذا . فهي- عنده – إشارات لمن كانوا يملكون تلك الصحف ، وقد تُركت في مواضعها سهواً ، وبمضي الزمان أُلحقت بالقرآن .
ويبدو أن نولدكه شعر بخطأ فكرته فرجع عنها ، وأن شافلي أهملها وأغفل ذكرها فيما بعد في الطبعة الثانية ، لكن المستشرقين " بُهُل " و" هرسفيلد" قد تحمَّسا لها من جديد وتبَنَّيَها مُتغافليْن عن مدى بُعدها عن المنطق السليم (27) .
تجنيه على الأسلوب القصصي في القرآن
نولدكه يُبدي إعجابَه بالإعجاز البياني للقرآن ، ونجد ه دقيقاً وعميقاً ، يأخذك الإعجاب بموضوعيته ومنهجيته ، واطلاعه الواسع ، ثم سرعان ما يتغيَّر؛ فيسعى إلى التدليس والتجريح، وأنت في غمرة الإعجاب... وتتبدى لك بضاعته في تذوق أساليب القرآن، وتحس بالسموم الاستشراقية الدفينة تجري في كيانه، وترى المنهجية والموضوعية تتهاوى وتتساقط .من ذلك انه وجد في قصص القرآن انقطاعا وبترا يفسدان ترتيب الأخبار وتسلسلها، ويعرضها إلى الغموض. وهو موقف نابع من تشبع وجدانه بأسلوب القصة في التوراة، ونابع من جهله بخصوصيات القصة القرآنية، وتناغم أسلوب الوحي مع مقاصد السماء والأرض.وقد راجعه أنيس المقدسي، فرد عليه قائلا:" ولا يجوز مقابلة هذا الأسلوب بأسلوب القصة في التوراة لاختلاف الغرض فيهما. ففي التوراة عدا أسفار الأنبياء والأمثال والأناشيد الروحية، حوادث تاريخية منظمة تجري الأخبار مجراها الواضح العادي. أما القرآن فإنه يشير إلى الحوادث التاريخية بوثبات ومجملات روحية خطابية لا يقصد بها تسلسل الخبر، بل يقصد بها إلى التذكير والتهويل. ولذلك ترد مرارا بحسب ما يقتضيه الكلام، وكثيرا ما ترد على سبيل الإشارة والتلميح. والنسق الخطابي يقتضي التكرير كما هو معروف " (28) .
كما انتقد نولديكه اضطراب الأسلوب القصصي في القرآن، انتقد تكرير بعض الألفاظ والعبارات تكريرا لا مسوغ له في رأيه، وأشار إلى كثرة انتقال القرآن في خطاباته من صيغة إلى أخرى، ومن حال إلى حال؛ فمن غيبة إلى خطاب، ومن ظاهر إلى مضمر، وبالعكس، واعتبر ذلك مجالا للتجريح.
الحق أن للرجل ثغرات تبعد صاحبها عن التمعن والتدقيق وروح الإنصاف وتجعله متطرفا " ومرده في هذا – مع حسن الظن - إلى عدم تمرسه بضروب البلاغة العربية... ولعل في آرائه مزيجا بين الهراء والدس الذي لا يحمد عليه اسم مثله. ومتى كان العالم جانبيا في التفكير، أو هامشيا في التعليق، أو سطحيا في الاستنتاج، أخذت عليه هذه المآخذ الفجة " (29) .
لا ننسى أن نولدكيه تتلمذ لهنريخ إيفالد 1803-1875 وهو لاهوتي في تكوينه، كرس أعماله الأولى لترجمة العهد القديم، وحاول توسيع أفق اللاهوت عن طريق اللغات. ونولدكه طبع بتربيته، وطبق في أحد كتبه مناهج التحليل حول العهد القديم، وهي تحاليل أثارت ضجة في الجامعة. والغريب أن ايفالد يعيب على نولدكيه منهجه التأملي (30) .
وعلى أي فإن جهود الاستشراق تضاءلت أمام بلاغة القرآن ، فقد أضاع المستشرقون المفاتيح البيانية للدخول إلى رحاب القرآن يوم قالوا ببشريته ؛ مما أنساهم قدس الوحي وربانيته ، فراحوا يبحثون في سيرة الرسول الكريم لعلهم يعثرون عن مصدر للقرآن ...
ولا عجب أن بتسرب القوم إلى أدق خفايا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى أدق خفايا تاريخ الإسلام . وتقوم جماعة من المستشرقين ، في طليعتها سخاوSachau ( 1845 – 1930 ) بنشر كتاب الطبقات لابن سعد ؛ الذي يُعد مرجعاً هاماً للعصور الأولى من التاريخ الإسلامي (31) .
ومن الرسائل الجامعية المقدمة في ألمانيا أذكر :
- رسالة غوستاف فايل (1808 – 1889) بعنوان " مدخل تاريخي نقدي للقرآن "
- رسالة فرانكيل (1855 – 1909 ) " الكلمات الأجنبية في القرآن " ، ليدن 1878 .
- رسالة برجشترسير " حروف النفي في القرآن " ، ورسالته للأستاذية " معجم قراء القرآن وترجماتهم " .
ويمكن الإشارة إلى بعض الجهود الألمانية في مجال الدراسات القرآنية :
فرايتاخ ( 1788 – 1861 ) حقق أسرار التأويل وأنوار التنزيل للبيضاوي ، ليبزيج 1845 .
– يوزوف هورفيتش ( 1874 – 1931 ) من أعماله : الأسماء والأعلام في القرآن ، مشتقاتها – الأسماء والأعلام في القرآن – اشتقاق لفظة قرآن – النبوة في القرآن .
المهم أن كتاب نولدكه " تاريخ القرآن " قد مهّد الطريق للغرب لمعرفة القرآن وخلق مدرسة ، وأصلت البحث في التأريخ للقرآن ، وآراء هذه المدرسة تناقلتها أقلام المستشرقين والمستعربين على السواء . ويلاحظ في هذا الصدد أن المستشرق الفرنسي بلاشير قد تبنى كثيراً من آراء هذه المدرسة ، وأشاع نتائجها بحوثها . وقد أشرت إلى القول بلاشير " إنه بفضل نولدكه ومدرسته أصبح ممكناً من الآن فصاعداً ، أن نوضح للقارئ غير المطلع ما يجب أن يعرفه عن القرآن ".
ويلاحظ أن هذا الكتاب لم يُترجم إلى العربية بالرغم محاولة من الأزهر .

خامسا : مدرسة نولدكه والقرآن

تلامذة نولدكه هم فطالحة المستشرقين الألمان ، أذكر على سبيل المثال لا الحصر:
- إدوارد سخاو ( 1836 – 1930 ) ، مؤسس معهد اللغات الشرقية ، برلين 1888 ، ويرجع إليه الفضل في تعريف الغرب بالبيروني ( حقق الآثار الباقية من القرون الخالية مع ترجمة إنجليزية ، لند 1879 ، وترجمة فرنسية ، ليبسيج 1923 بمساعدة فستنفيلد (Ferdinand Wuestenfeld 1808 – 1899) . كما حقق ماللهند من مقولة 1887، وترجمه إلى الإنجليزية (32) .
- جيورج يعقوب ( George Jacob : 1862 – 1937 ) ، عني بعلاقة العربية لغةً وحضارة بلغات أوربا الشمالية والشرقية . وأطروحته " تجارة العرب الشمالية البلطيقية " ونال شهادة الأستاذية حول الشعر الجاهلي حقق فيها أسماء النباتات المذكورة في الأشعار( 1892 ) ، وله أثر الشرق في الغرب ولا سيما في العصر الوسيط (1924) ، ولقد نقله إلى العربية فؤاد حسنين علي (33) .
- بروكلمان (1868 – 1956 )عرض لتاريخ القرآن ولمسألة الوحي في الجزء الأول من كتابه " تاريخ الأدب العربي " ، وخص بالذكر تلامذة أسهموا إلى جانب شيخهم في بناء تاريخ القرآن ، وركزوا جهودهم العلمية على توثيق النص القرآني ، مع ما يتطلبه ذلك من جمع النصوص وتحقيقها وفهرستها . وبروكلمان أوضح من تناول القرآن فرفع عنه قداسته الدينية ؛ فاعتبره مرحلة من مراحل الأدب العربي ، وقارن بين القرآن وسجع الكهان فقال : " ولكن محمداً التاجر المكي هو الذي ساقته ضرورة دينية أعز وأقوى إلى أن يُعلن صلتَه بالله ... واستخدم محمد في دعوته أساليب الكاهن ... كان محمد في أقدم مراحل دعوته الدينية يُطلق ما يدور بخلده ، وهو صادق الاستغراق والغيبوبة ، في جُمَلٍ مؤثرة يغلب عليها التقطع والإيجاز وتأخذ طابع سجع الكهان " (34) .
- شفالي ( 1863 – 1919) ، تخرج باللغات الشرقية على نولدكه ، وأعاد طبع " تاريخ القرآن " لنولدكه في مجلدين ( 1909 – 1919 )، وقدم دراسة حول القرآن بمناسبة تكريم سخاو 1915 (35) .
- جوتهلف برجشترسير( 1886 – 1933) ، متخصص في اللغات السامية والدراسات الإسلامية . ومنذ أن عُين أستاذاً في جامعة منشن ، وضع مشروعا لنشر المؤلفات الأساسية في قراءات القرآن تولت الإنفاق عليه ورعايته أكادمية بافاريا للعلوم . حصل على الدكتوراه في موضوع " أدوات النفي والاستفهام في القرآن " 1914 ، على يد أوجست فيشر، ونهض بعد وفاة شفالي وأخذ الأستاذية بكتاب " معجم قراء القرآن وترجمهم " . باستكمال تعديل كتاب نولدكه " تاريخ النص القرآني " ، وبإعادة كتاب الجزء الثالث من الكتاب على نوع جديد . ومات قبل أن ينشره ، فنشرة بريتسلOtto Pretzl .
وقدِم برجشتريسر مصرَ أُستاذاً زائرا ( 1931 – 1932 )ً وألقى في جامعاتها في مطلع الثلاثينيات سلسلة محاضرات في تطور النحو العربي ، ومحاضرات في قواعد نشر النصوص العربية ( أعدها للنشر أحمد البكري وخليل عساكر ، وهما في تلاميذه الذين ألقيت عليهم هذه المحاضرة ، ونشرها في الأخير د. أحمد البكري سنة 1967 ) . وفي القاهرة استمع برجشترسير إلى القرآن الكريم من قارئ مشهور ، فذهب إليه ودون أنغامه بالنوتة . وكتب برجشترسير في موضوع القرآن في إسلاميكا ( 1929 ) . ومن مقالاته " قراءة الحسن البصري " سنة 1936 ، ونشر تاريخ قراءات القرآن 1929 ، وحقق القراءات الشاذة في كتاب المحتسب لابن جني سنة 1933 . وعُني بـ " غاية النهاية في طبقات القرآن " لابن الجزري 833هـ، في مجلدين سنة 1832 . ونُشِر بعد وفاته كتاب ابن خالويه " مختصر شواذ القراءات " سنة 1934 بفهارس من إعداد بريتسل . وقد أنشأ للقرآن متحفاً في ميونيخ Munchen، وذلك بعد أن قرر المجمع العلمي البافاري في ميونيخ جمع المصادر الخاصة بالقرآن الكريم وعلومه ، وضبط قراءاته لنشرها ، فتولى برجشترسير هذه المهمة الفريدة . وقد جُمعت في ذلك المعهد آلاف النسخ من القرآن الكريم مطبوعاً أو مخطوطاً أو مصوراً .
وهكذا ضم المتحف الصور الشمسية لسائر مخطوطات القرآن في أرجاء العالم .
كما ضم آلاف المخطوطات باليد من جميع العصور ، حتى ولو كانت ورقة واحدة .
- وكذا المطبوعات الخاصة بتفسير القرآن وعلومه ، وجعل لكل آية منه علبة خاصة يوضع فيها تفسير كل مفسر لها من عصر الصحابة إلى اليوم (36) .
وكان الهدف من كل ذلك أن يُقارنوا بين نصوص القرآن الكريم في مختلف نسخه المخطوطة بين بلد وآخر ، وناسخ وآخر ... ولهذه الغاية تمَّّ تدوين كل آية في لوح خاص مع ما عُثر على كل رسم لها في مختلف المصاحف ، وبيان قراءتها وتفاسيرها المتعددة .
وقد بُذلت جهود كبيرة ، وأُنفِقت أموال طائلة في تحضير هذا المعهد أو المتحف القرآني ، وكان هذا المتحف يضم : أهم المراجع العربية التي تتناول التفسير والقراءات وعلوم القرآن وصوراً من المخطوطات التي تتناول هذا الموضوع من جميع المكتبات في العالم ، وصوراً من النسخ المخطوطة من القرآن الكريم من مختلف العصور ؛ من القرن الهجري الأول حتى القرن العشرين .
وبعد وفاة برجشترسير المبكرة إثر سقوطه في الجبال سنة 1933 ، انتدب المجمع المذكور بريتسل لاستكمال هذا المشروع (37) .
- أوتو بريتسل( 1893 – 1941) أستاذ اللغات السامية في جامعة ميونيخ ، تخصصه الأول كان في علم العهد القديم من الكتاب المقدس ، وأصبح من المتخصصين في الدراسات الإسلامية . وعضو المجمع العلمي البافاري ، وعضو في جمعية المستشرقين الألمان . وقد ارتبط اسمه بالدراسات الخاصة بقراءات القرآن. لاحظنا أنه اشترك مع برجشترسير في نشر الجزء الثالث من " تاريخ النص القرآني " لنولدكه . وبعد أن انتدبه المجمع البافاري بادر إلى إنجاز المكتبة القرآنية وتتميم مهامها ، وانجلت هذه المهمة عن نشر طائفة من مصادر القراءة وعلوم القرآن ، منها :
كتاب التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو بن سعيد الداني ( 444هـ) استانبول 1930 .
كتاب المقنع في رسم مصاحف الأمصار من كتاب النقط للداني .
كتاب الإيضاح في الوقف والابتداء لأبي بكر الأنباري ، إسلاميكا ( 6 ، 224) ، ثم طبع بالقاهرة ( المكتبة الإسلامية) . وله أيضا في مجلة إسلاميكا :
كتاب معاني القرآن لابن منظور ( 6 ، 16 ) .
كتاب تعليل القراءات السبع للشيرازي ( 6 ، 17 ) .
كتاب المشتبه في القرآن للكسائي ( 6 ، 241 ) .
وأصول علم القراءة ( 6 ، 1934 ) .
ونشر بمعاونة إيزين : فضائل القرآن وآدابه لأبي عبيد القاسم بن سلام ( 26 ، 243 ) (38) .
ومن الغريب حقا أن يتعرض هذا المعهد الذي خصصت له الجامعة جهودا مادية وعلمية ، ووفرت له جميع الوثائق اللازمة لمحاكمة النص أن يُدمر أثناء الحرب العالمية الثانية فيذهب هباء منثورا .
وأخيراً نتساءل ما سر هذا الاهتمام بدراسة القرآن الكريم ونشر ما يتعلق بآثاره ؟ ما هي الغاية من توثيق النص القرآني ، وجمع المصاحف من أرجاء الأرض وتصويرها تصويراً شمسياً في عدة نسخ ، لتيسير الاطلاع عليها والحصول على صور منها ؟ لماذا هذه العناية بجمع القراءات وتدوينها ؟ فهل وجدوا فروقا وتبايناً بين أقدم نسخة وأحدثها ؟ إلى أي شيء هدتهم المقارنات بين المخطوطات والقراءات ؟ لاشك أن الآية التاسعة من سورة الحجر تُطل على القوم من بين ركام المخطوطات ، ويتردد قول الله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
ووجدت د. محمد حميد الله يذكر السبب الذي من أجله عنيت جامعة ميونيخ بالنص القرآني ، ففي القرن الماضي جمع بعض كبار قسيسي ألمانيا جميع مخطوطات الإنجيل باليونانية ( وهو الأصل عندهم كالعربية للقرآن ) ، من العالم كله ، وقارنوا سطراً سطراً ، وحرفا حرفا ، فوجدوا " تقريباً مائتي ألف اختلاف في الرواية ، فلما رأوا هذا ، أسسوا معهد البحوث القرآنية في جامعة ميونيخ ، وجعلوا يجمعون نُسخ القرآن من جميع أنحاء العالم ، وهذا لثلاثة أجيال متوالية ، أثناء قيامه بمهمة تصوير مخطوطات القرآن في المكتبة الأهلية بباريس ، وأخبره قائلا : " عندنا في هذا الوقت اثنان وأربعون ألفاً من مخطوطات القرآن ، كاملة وجزئية ، وعمل المقارنة جار .
وأطلت النازية ، وتسلمت الحكم في ألمانيا سنة 1933 ( سنة وفاة برجشتريسر) ، وانتكست الدراسات الشرقية في ألمانيا ، وتشتت المستشرقون الألمان في أنحاء الأرض. مَن كان من أصل يهودي هاجر إلى فلسطين وإلى الولايات المتحدة خاصة ، وترك بعضهم ألمانيا ؛ احتجاجا على الحكم النازي ، أما مَن بقيَ منهم فقد عاش في جو من الإرهاب الفكري ، كما هلك بعضهم في الحرب التي عانت فيها ألمانيا الكثير من الخراب والدمار (39) .
ونُسف المعهد أثناء الحرب بقنبلة أمريكية ... لكن الأصول موجودة ، فإذا كان عند أحد مال وَشَوْق ، فليحاول جمعها من جديد ليصل إن شاء الله إلى النتيجة نفسها .

سادساً : خلاصات واستنتاجات

إن جهود مدرسة نولدكه لم تخرج عن الأطر المعرفية للاستشراق ، فهي بدورها أنكرت سماوية القرآن ونبوة الرسول عليه الصلاة والسلام . فما هو الجديد عند شيخ المستشرقين ؟ قيل هو المنهج الذي صار قدوة للمعجبين الذي جعلوه ملكا علميا مشاعا بينهم . وأي منهج يقود إلى ما قاله مشركو قريش منذ قرون . ولست أدري كيف نقبل قول د. ميشال جحا من أن نولدكه " حاول في كل ما كتب أن يكون مثال العالم المتجرد العقلاني ، فلم يتجن في أبحاثه على الإسلام ، ولم يحاول أن يدَّعيَ معرفة أشياء لم يكن يعرفها ، ولهذا جاءت آراؤه واضحة جلية وخاضعة لصفة التجرد بعيدة عن الهوى والتضليل " (40) .
وعلى أي ، ينبغي ألا ننخدع ببريق المنهج الاستشراقي ، ونتناسى ما يبغيه من عنايته بالقرآن . إن غاية القوم هي نسف النص من أساسه وإشاعة الشك في توثيقه ، وبالتالي تشكيك شعوب الأرض – ومن بينهم المسلمون – بحقيقة الوحي . وهي حقيقة تعذَّر على العالم الغربي أن يُقربها فحاول أن ينسف علاقة القرآن بالسماء ؛ لأن الفكر الغربي مشدود إلى المادة . وكتاب " تاريخ النص القرآني " على ما يدعيه له بعضهم من دقة وموضوعية ومنهجية ؛ فإنه من تلك الجهود التي طمست حقيقة الوحي في الذهنية الغربية . فلم يستطع أن يتمثل حقيقة الوحي الالهي فظل مشدودا إلى الأرض يبحث عن مصدر للقرآن فيها . وقد أشاعت كتبه ومقالاته داخل دوائر المعارف أوهما تشكك غير المسلمين وبعض المسلمين في حقيقة الوحي .
وخطورة المدرسة الألمانية في مجال الدراسات القرآنية أن نتائجها تسربت إلى دوائر المعارف بلغات العالم ، وأسهمت في طمس حقيقة الإسلام في قلوب كثير من الخلائق ، في العالم الغربي خاصة ، وتحاملت على الوحي لنفي ألوهيته وإشاعة بشريته .
وحقيقة الوحي حُجبت عن عقول المستشرقين نتيجة عوامل أهمها :
- تعصب ديني أعمى كثيراً من العقول ، وكان ذلك من نتائج نزعة لاهوتية حاقدة على الإسلام والشرق .
- نزعة استعلائية ترى حضارة العرب بركة صغيرة بلغها شيء من الماء من نهر اليونان العظيم الخالد .
- شيوع عقلانية شدت أنظار المستشرقين إلى العوامل المادية .
- تاريخانية كبَّلت تلك العقلانية في الزمان وقهرتها بالدهرية ؛ فهي مشدودة للشرط التاريخي تتحرك بحركته .
- علمانية تتعقلن في دهريتها ، تستبعد اللألوهية ، وتعتبر منتهاها في دنياها .
- إمبريالية تريد أن تُعربد بأموال غيرها ، وأن تفرض غرورها على المستضعفين في الأرض . يقول محمد الغزالي : " إن الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث ؛ وهي أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتجرد . وجمهرة المستشرقين مستأجرون لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه " (41) .

ومما أفسدت على المستشرقين التعاملَ مع القرآن الكريم نذكر :
- استغراقهم في الكيد للإسلام ، وهو كيد غذته الكنيسة منذ اتصل العالم الغربي بالعالم الشرقي ، تشبعوا به في دراساتهم اللاهوتية للتلمود والآناجيل .
- قراءة القرآن بنزعة لاهوتية يطبعها التعصب ، وقلب الحقائق ، والتشكيك ، والاستعانة بالأقوال الشاذة .
و تعاملوا مع القرآن كما يتعاملون مع كتبهم الدينية ؛ فهم كما بحثوا في كتبهم عن التحريف الذي طرأ على العهد القديم والجديد لدى اليهود والنصارى ؛ بحثوا في القرآن عن التحريف ، وهم كما تناولوا الأساطير في كتبهم ؛ ذهبوا يدرسون القرآن وكأنه من الأساطير والأسفار الشعرية ، فهم " ينظرون إلى الكتاب المقدس ؛ بعهديه القديم والجديد ؛ باعتباره وثيقة تاريخية هي نتاج مراحل تاريخية معينة ؛ يخضع للنقاش والنقد مثل الوثائق الأخرى القديمة والحديثة . وفي القرن التاسع عشر كانت دراسة " الكتاب المقدس " قد أصبحت علماً قائماً بذاته لا علاقة له تقريباً بمشاعر الناس الدينية ؛ مثل التاريخ الإغريقي القديم ... " (42) . فهم يُخضعون معطيات الكتاب المقدس لطبائع الأدب البشري وخصائصه .
- و" منطلقهم المنهجي" في كل ذلك اعتبار القرآن من وضع النبي عليه الصلاة والسلام ، ؛ فتخبطوا كثيرا في تفسير ظاهرة الوحي ، كما تخبطوا في تحديد مصدر القرآن ؛ فكان عند أغلبهم تلفيق بين اليهودية والمسيحية . وقبلهم بقرون قال مشركو قريش : { وقال الذين كفروا إنْ هذا إلاَّ إفْكٌ افتراهُ وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزوراً . وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا . قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً} [ الفرقان : 4 – 6 ] .
" وأكثر المستشرقين لم يتوصلوا إلى تكوين فكرة صحيحة عن مصدر القرآن ، ولا عن الوحي الذي أنزل عليه " (43)
فالقرآن في تقديرهم يُمثل مرحلة تأتي بعد الأدب الجاهلي . ومن ثم فهم يدرسونه باعتباره ظاهرة أدبية ؛ تُقوَّمُ بمقاييس النقد الأدبي .
ومن نتائج ما خلفته هذه الجهود في دراسة القرآن :
-لم تنقل أقلام المستشرقين حقيقة الإسلام إلى ملايين الأوربيين ، وحجبوا أنواره عن نفوسهم ؛ وتركوا حول القرآن أباطيل وترهات فظلت صورة الإسلام مشوهة إلى الآن.
– ركزوا على الجوانب القاتمة من تاريخ الإسلام وأولوا اهتماما خاصاً بالحركات الباطنية .
كان من آثار جهود الاستشراق تبني أهل التنوير من العرب لطروحاته ؛ فظلوا يُشيعون التخاذل في نفوس بعض المسلمين إلى الآن . ولكن هل استطاعت تلك الجهود أن تُطفئ نور الحق في العالم ؟ أما أهل التنوير بين أهل الإسلام فقد استحبوا العمى ؛ فهم في التيه يعمهون ، وفي قيود التقليد يرسفون .
و في الأخير ، أعود إلى سورة الحجر لأقرأ :
" الر تلك آياتُ الكتابِ وقرآن مبين رُبَما يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذَرْهُمْ يأكلوا ويتمتعوا ويُلْهِهِمُ الأملُ فسوف يعلمون " [ الحجر : 1 –3 ]
وإلى جزء من هذه الآية من سورة النساء : 89 { وَدُّوا لو تكفروا كما كفروا فتكونون سواء ... } صدق الله العظيم .
وعلى كل فإن المؤسسات الاستشراقية كانت تحركها نوازع أرضية . ودهاقنة الاستعمار يتسربون إلى خيرات أرض المستضعفين وفي ركابهم مستشرقون يفتشون في ماضي أولئك المستضعفين ، يُشهرون العقلانية والتاريخانية والفيلولوجية ، وغايتهم بتر الصلة بين السماء والأرض ، وجَعْل المستضعفين مشدودين إلى الأرض ؛ قصد إفراغهم من محتوياتهم ، وإطفاء نور الله تعالى في نفوسهم ، وتركهم في العراء يتخبطون في القلق والضياع .

هوامش:

( 1) ينظر : الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ( المستشرقون الألمان منذ نولدكة ): رودي بارت : 1901 – 1982 ، ترجمة : مصطفى ماهر - ط1 ، القاهرة ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، 1967 ، ص 11 – وذكر د. عبد اللطيف الطيباوي أن خلفاء البيزنطيين في القرون الوسطى ، فاقوا البيزنطيي في تنمية العداء والتحامل على الإسلام ن وبث المعلومات المشوهة عنه ." وهكذا كان الإسلام بالنسبة لهم من " عمل الشيطان " وكان القرآن " نسيجاً من السخافات " ، وأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) " نبي كذاب " . أما المسلمون فهم ليسوا سوى نوع من المتوحشين لا يكاد يحظى بأية ميزة إنسانية " ( المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ، دراسة نقدية ، ترجمة : د. قاسم السامرائي ، السعودية ، جامعة الإمام محمد بن سعود 1991 ، ص19 ) .
(2) المستشرقون : نجيب العقيقي : 1/124 (ط4) – الموسوعة الميسرة [ مادة : قرآن ] : إشراف محمد شفيق غربال – د.ط ، القاهرة ، مؤسسة فركلين للطباعة والنشر – الاستشراق والمستشرقون : عدنان محمد وزان – سلسة دعوة الحق ، السنة 3 ، العدد 24 ، يناير 1984 ، ص107
(3) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا – ط1 ، بيروت ، معهد الإنماء العربي ،1982 ، ص 185
(4) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا : 186 – المستشرقون : نجيب العقيقي : : 2/341
(5) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، ص 190
(6) موسوعة المستشرقين : د. أحمد بدوي – ط2 ، بيروت ، دار العلم للملايين ، ، 1989 ، ص : 205
(7) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ( المستشرقون الألمان منذ نولدكة ، ص17
(8) موسوعة المستشرقين : د. عبد الرحمن بدوي ، ص 310
(9) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ( المستشرقون الألمان منذ نولدكة ): رودي بارت : 1901
(10) المستشرقون : العقيقي : 2/418 – وقال أولريش هارمان ( مدير معهد غوته ببيروت من 1978 - 1980 ): " كانت الدراسات الألمانية حول العالم الإسلامي قبل عام 1919 أقل براءةً وصفاء نية ، فقد كان كارل هاينريش بيكر ، وهو من كبار مستشرقينا منغمسا في النشاطات السياسية ، حتى أصبح في عام 1914 شديد الحماس لمخطط استخدام الإسلام في إفريقيا والهند كدرع سياسة في وجه البريطانيين . وقد أعرب فيما بعد عن أسفه لتورطه في هذا الموضوع ( الإشراق الألماني ، منجزات ومراجعة ومواقف - مجلة الباحث ، السنة 5 ، العدد الخامس والعشرون ، كانون الثاني 1983 ، ص145 ) .
(11) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ( المستشرقون الألمان منذ نولدكة ): رودي بارت :20 - الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، 187
(12) تنظر ترجمته في : المستشرقون : نجيب العقيقي : 2/379 – 382 - موسوعة المستشرقين : د. أحمد بدوي ، ص 417 – 418 - خصص له عبد الرحمن بدوي ترجمة في كتابه " دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الحاهلي ، ص 307 – 312 - الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، ص 195 – المستشرقون والدراسات القرآنية : محمد حسين علي الصغير – ط1 ، بيروت ، المؤسسة للدراسات والنشر والتوزيع ،1983 ، ص 28 -
(13) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ( المستشرقون الألمان منذ نولدكة )، ص62
(14) المستشرقون : نجيب العقيقي : 2/466
(15) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية رودي باريت)، ص62
(16) دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي : بدوي ن ص40
(17) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ( المستشرقون الألمان منذ نولدكة ): رودي بارت ، ص 58
(18) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، ص 192
(19) موسوعة المستشرقين : د. عبد الرحمن بدوي ، ص 286 - 287

(20) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، ص 198
(21) نفسه : 195
(22) المستشرقون والدراسات القرآنية ، ص88
(23) القرآن : نزوله ، تدوينه وترجمته : بلاشير ، ترجمة رضا سعاة – بيروت ، دار الكتاب العربي ، ص21.
(24) مباحث في علوم القرآن : صبحي الصالج : 176 .
(25) المستشرقون والدراسات القرآنية : 30 ( نقلا عن الدراسات العربية في ألمانيا : ألبرت ديتريش ، ص 14 ) – وينظر " القراءات واللهجات : عبد الوهاب حمودة ، القاهرة ، مطبعة السعادة ، 1948 ، ص 77
(26) المستشرقون والدراسات القرآنية : 30 - تنظر : مادة : تحريف ، في دائرة المعارف الإسلامية .
(27)ينظر : نظرات استشراقية في الإسلام : محمد غلاب - ط القاهرة ، دار الكتاب العربي ، ص 42
(28) الأساليب العربية في الأدب العربي : أنيس المقدسي – ط5 ، بيروت ، دار العلم للملايين ، ص 61
(29) المستشرقون والدراسات القرآنية " 31
(30) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، ص 193 ؟؟؟؟
(31) اشترك في إخراج كتاب الطبقات كل من سخاو وهورفيتش 1931 وليبّرت 1911 وبروكلمان 1956 وميتفوخ 1942 وشفالي 1919 : تسعة مجلدات ، ليدن : 1904 – 1907 ، المجلد التاسع 1921 – 1928 ) . المستشرقون " 2/339
(32) المستشرقون :2/388 - 389
(33) نفسه : 2/407 – 408
(34) تاريخ الأدب العربي: بروكلمان – ط3 ، القاهرة ، دار المعارف ـ ترجمة د.عبد الحليم النجار : 1/134
(35 المستشرقون : 2/410
(36) المستشرقون3 : 3/535
(37) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، ص200 ؟؟؟
(39) المستشرقون وترجمة القرآن : د. محمد صالح البُنداق- ط1 ، بيروت ، دار الآفاق الجديدة ، ص24
(40) الدراسات العربية والإسلامية في أوربا : ميشال جحا ، ص 188
(41) دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين : محمد الغزالي - ط1 ، القاهرة ، دار الكتب الحديثة ، 1965 ، ص19 – 20
(42) في نقد المستشرقين : فرانسوا دي بلوا ( ضمن الفكر العربي المعاصر : الاستشراق : التاريخ والمنهج والصورة ، السنة الخامسة ، العدد 32 ، 1983 ، ص 150
(43) القرآن والمستشرقون : د. التهامي نقرة ( مقال ضمن كتاب : مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية – الجزْ الأول – تونس : المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، 1995 ، ص 32

الهزبر
2008-06-04, 02:40 PM
السلام عليكم.

قمت برفع هذه الدراسة على هذا الرابط. لمن يريد تحميلها.

في شكل ملف وورد.

لم يعمل الرابط. ساحملها على موقع اخر باذن الله.

او احاول ارفاقها بالمشاركة

أسد الجهاد
2008-07-04, 04:49 AM
فحينما انتشر الإسلام بسرعة أحس العالم المسيحي بالخطر،
ويستمر شعورهم بالخطر و يستمر إنتشار الاسلام بفضل الله
جزاك الله خيرا أخي الهزبر
بارك الله فيك

ذو الفقار
2008-07-12, 10:55 PM
وقد اعتبر نفسه شهيد الأدب العربي.

وأي شهيد هو !!!

من وجهة نظري أرى أن الفكر الإستشراقي كان سبباً في انتشار الإسلام وإن كانت أفكارهم كانت تحمل غير هذا الهدف .. ورب ضارة نافعة

جزاك اله خيراً على الموضوع الرائع أخي الهزبر