المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كبوة " سيبويه"!



الصفحات : [1] 2

دفاع
2009-10-14, 07:55 PM
بقلم د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية




ليسمح لي الأستاذ شريف الشوباشي -الذي أكن له كل تقدير لدماثة خلقه من تعاملاتي معه كفنانة تشكيلية- أن أوضح عدة نقاط أساسية حول كتابه الجديد، من خلال تجربتي مع ترجمة معاني القرآن الكريم بالفرنسية، ومن خلال متابعتي لموقف الغرب من الإسلام الذي أفردت له أكثر من عشرة مؤلفات..



وإن كان المثل يقول إن لكل حصان كبوة، فمن المؤسف أن نبدأ بقول إن كبوة المطالبة بسقوط سيبويه هي كبوة فادحة، أو إن شئنا الحق فإنها ضربة ناسفة لثوابت الأمة العربية ووجودها! ولا أفهم كيف لم يدرك الأستاذ شوباشي -مع اتساع ثقافته- أن الكتاب برمته يندرج تحت منظومة "اقتلاع الإسلام" التي حددوا لها هذا العقد الأول من الألفية الثالثة لإتمامها، فقد أطلقوا عليه عقد "اقتلاع الشر" الذي هو الإسلام في نظرهم.. وأن الكتاب تكرار ممجوج لمطالب المستشرقين لاقتلاع لغة القرآن، ويزخر بالعديد من التناقضات والمعلومات المبتورة التي تؤدي إلى عرض غير موضوعي للقضية التي هي هنا: حال اللغة العربية وما آلت إليه..



من المعروف أن اللغة العربية من اللغات السامية، وأنها تختلف عن اللغات اللاتينية، وأنها تنعم بمرونة فائقة وذلك لأنها تتضمن إمكانية شاسعة للاشتقاقات. والفرق بين الاصطلاح العربي وأي اصطلاح غربي يكمن في تلك الإمكانية الشاسعة للغة العربية، فالجذر عادة ما يعطي قرابة 80 اشتقاقا وأحيانا يصل إلى 220 أو أكثر! كما أن اللغة العربية تتضمن إضافة إلى ذلك سهولة كبرى في صيغ النحو ومرونة متناهية في القواعد، ترجع إلى نظام خاص لجذور الأفعال ومرونتها، وتنوع لاشتقاقات متعددة، الأمر الذي يسمح بثراء لا مثيل له في المفردات، وبرهافة موضوعية في الفوارق التي لا يمكن ترجمتها الترجمة الدقيقة إلا باللجوء إلى اشتقاق كلمات جديدة في اللغة المترجم إليها.



إن جذور اللغة العربية وهيكل الاشتقاق منها ثرية بصورة كاملة وتامة، حتى أن الجذر الواحد يشتق من مصدره: اسم المصدر والفعل بصيغه المختلفة ودلالات كل صيغة واسم الفاعل والمفعول والصفة الشبيهة.. إلى آخر ما هنالك من تصريف تجعل اللغة العربية تعلو ولا يعلو عليها.



كما يجب أن نأخذ في الاعتبار أن كل واحد من هذه الاشتقاقات يتضمن اختلافا في المعنى أو في الدرجة، وليست مجرد مزايدة في عدد المترادفات.. الأمر الذي يوضح مدى اتساع اللغة العربية ومرونتها ودقتها من جهة، وأهمية مراعاة التشكيل من جهة أخرى، حتى تكون الترجمة دقيقة ولا تخل بالمعنى. فلا يعقل أن نرمي بكل هذا الثراء اللغوي لمجرد محاكاة الغرب أو الانصياع لأوامره!



وكم كانت فجيعتي عندما صدمت بالفرق الشاسع بين اختلاف وعاء اللغتين (العربية والفرنسية)، إذ إن مميزات اللغة العربية تسمح لها بأن تكون أكثر اتساعا بعشرات المرات من اللغة الفرنسية. بل وكم كانت دهشتي عندما صدمت بأن اللغة الفرنسية كثيرا ما لا نجد بها صيغة الفعل، أو الصفة، أو أنها لا تعرف المثنى ولا المؤنث لبعض صيغ التصريف كفعل الأمر وغيرها، وكلها من أساسيات اللغة!



إن اللغة العربية تمتلك العديد من المصطلحات لتحديد الفرق الدقيق بين الحالات المختلفة التي لا مقابل لها في اللغات الأخرى خاصة الفرنسية، الأمر الذي يضع المترجم أمام ثلاثة اختيارات: ترجمة الكلمة بتركيبة تعبيرية أو بجملة تفسيرية، أو الكتابة الصوتية للكلمة، أو البحث عن اشتقاق جديد. والاشتقاق الجديد يمثل بالفعل إحدى المشكلات الكبرى في مجال الترجمة. ومن المعروف أنه لتلافي هذا النقص الشديد للمفردات في اللغة الفرنسية فإنه يتم رسميا اشتقاق حوالي ألفي مصطلح كل عام. وإن دل هذا الجهد الوطني على شيء فإنما يدل على مدى اهتمام أصحاب اللغة الفرنسية بترسيخها وزيادة مفرداتها لجعلها تواكب التقدم العلمي، وليس تقويضها بزعم تبسيطها..



ولا أخال الأستاذ شوباشي يجهل المعارك التي يقودها علماء اللغة في فرنسا للحفاظ على لغتهم وحمايتها من أي تدخلات لكلمات أجنبية، وكم يحاربون إقحام بعض العبارات التي تتسلل عبر ممارسات الحياة اليومية ومختلف وسائل الإعلام.



والفرنسية ليست "طيعة وسهلة ومباشرة" بالبساطة التي يطرحها الأستاذ شوباشي في كتابه، فالمئات -إن لم يكن الآلاف- من الكلمات الفرنسية لها أكثر من معنى أساسي واحد، إضافة إلى المعاني الناجمة عن وضعها في الجملة أو ما يلحق بها من كلمة أو كلمات، فعلى سبيل المثال: كلمة (pied) وتعنى: رجل، وقدم، ووحدة قياس (33 سم)، وأحد أوزان الشعر، ويفهم أي معنى من هذه المعاني الأساسية من سياق الجملة أو الموضوع. وإذا ما أضيفت لها كلمة أو كلمات تكون عبارة واحدة أو تركيبة لغوية فإنها تصل إلى 57 معنى مختلفا!



وكلمة (acte) تعنى: فصل من مسرحية، وعمل، وفعل، وصيغ، وتصرف، وحكم، وقرار، ومرسوم، وعقد، وكلها معان أساسية لنفس الكلمة نطقا وكتابة، بخلاف ما تعطيه من معان وفقا لما يضاف إليها من كلمات لتصل إلى 27 معنى مختلفا!



وكلمة (composition) تعنى: تركيب، وتكوين، ومزج، وخلط، وموسيقى، وموضوع إنشاء، وكلها معان أساسية بخلاف ما يضاف إليها من معان لا تفهم إلا من سياق الحديث ومن معرفة التراكيب اللغوية.



وهو ما يندرج تحت مشكلات ما يسمى بالـ (homonyme) والـ (synonyme) أي المتجانس لفظا والمترادف، فالمتجانس لفظا هنا هي الكلمة التي تحمل نفس الشكل كتابة لكلمة أخرى ولا تحمل نفس المعنى، مثال كلمة: sonتعني صوت، وsonتعني ضمير ملكية للغائب، وsonتعني نخالة القمح (الردة).. بل نفس كلمة sonبمعنى صوت تشير إلى مجال أي حقل صوتي ناجم عن موجة صوتية ما، وإلى أي ذبذبة صوتية من حيث درجة الحدة، وإلى درجة ارتفاع أو انخفاض كثافة الصوت، وإلى مجمل تقنيات التسجيل والنسخ خاصة في مجال السينما والإذاعة والتليفزيون ومنها نشأت وظيفة "مهندس الصوت"، إضافة إلى المعاني التي تكتسبها نفس الكلمة إذا ما دخلت في تركيبة لغوية مثال (tache de son) وتعني النمش والذي يقال له أيضا (tache de rousseur).. وكل هذه الاختلافات في المعنى لا تفهم إلا من سياق الكلام أو من موضع الكلمة في الجملة..



والمترادف هو الكلمة التي تتقارب في المعنى ولا تحمل نفس الشكل كتابة مثال: (rompre-casser-Briser) وتعني: يكسر.



وهناك العديد من القواميس المتخصصة فقط في كلمتي الجناس والمترادفات. ولا أبالغ إن قلت إن هناك في اللغة الفرنسية من الصعوبات اللغوية التي لا يمكن لعقل أن يستوعبها كلها لدرجة أنه توجد قواميس متعددة لهذه الصعوبات ومن أشهرها القاموس المعنون "Pièges et difficultés de la langue française"أي "فخاخ وصعوبات اللغة الفرنسية" الصادر عام 1981 عن دار بورداس، وهي من كبرى دور الموسوعات العلمية اللغوية، ويقع في تسعمائة صفحة.. وهناك العديد من المراجع المتخصصة في كيفية تفادي الأخطاء الإملائية، ولا ننسى الإشارة إلى صعوبات الشكلة أو ما يطلقون عليها الـ accentوهي علامة توضع على بعض الأحرف المتحركة في العديد من الكلمات وتغير تماما من معناها مثال كلمة pêcher وتعني صيد السمك، وpécher وتعني يأثم أو يخطئ، وكل من العلامتين ê وéتفتح الحرف في النطق مثل علامة الفتحة في اللغة العربية وإن كان التفاوت في المعنى شاسعا.. ومن الواضح أنه لولا صعوبة اللغة الفرنسية وتعقيداتها الحقيقية لما أفرد لها العلماء هذا الكم من المراجع البحثية اللغوية لمعاونة أبنائها على إجادتها وليس على مسخها أو طمس معالمها من الوجود مراضاة لأغراض غير أمينة..



كما أن اللغة الفرنسية لها لغتها العامية الدارجة "argot"، بل ولكل مهنة من المهن عاميتها ولا أقول شيئا عن عامية الطلبة في المدارس والجامعات..



وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ناهيك من صعوبة الهجاء، والأحرف التي تكتب ولا تنطق، وتصريفات الأفعال العادية والشاذة والاستثناءات..



فكل لغة من لغات العالم لها مميزاتها ومشكلاتها، ولم نر أي مسؤول في أي دولة من دول العالم يفرط في أساسيات لغته وثوابت تراثه بل ودينه مثلما يفعل هذا الكتاب!



أما من ناحية موقف الغرب المسيحي المتعصب من الإسلام، فلقد كانت اللغة العربية ولا تزال هدفا من الأهداف الأساسية لهجوم المستشرقين والمبشرين، وقد بذلوا جهودا مستميتة لإثبات صحة ما يقولونه من فريات حول اللغة العربية من قبيل اتهامها بالقصور والعجز والتعقيد، كما حاولوا محاربتها بتدعيم تعليم اللهجات المحلية أو العامية وإحلالها محل الفصحى، وتشجيع كتابة الأدب والشعر بالعامية، والحث على عمل المسابقات وإنشاء الجوائز والإسهاب في دعمها بالمقالات المؤيدة، وما أكثر الكتب التي صدرت عن هيئات أجنبية أو كنسية وغيرها لتعليم العامية وتدريس هذه اللهجات المحلية في الجامعات على نطاق لافت للنظر بهدف زعزعة الفصحى لغة القرآن الكريم.



ولا يمكن للغرب المسيحي الذي مر بتجربة مغايرة تماما مع نصوصه المقدسة التي لا تكف عن التغيير والتبديل مع كل طبعة تقريبا، ولا نذكر هنا على سبيل المثال إلا محاولات البابا يوحنا بولس الثاني "تبديل وتعديل" سبعين آية من آيات الأناجيل المعتمدة لكي يحقق وحدة الكنائس التي يجاهد من أجلها حتى "يتصدوا للمد الإسلامي" كما يقول (راجع كتاب الجغرافيا السياسية للفاتيكان).. إن مثل هذا الغرب لا يمكنه أن يدرك مدى تمسك المسلمين بالقرآن ولغته التي يتعلمون منها دينهم وتعاليم حياتهم الدنيوية والأخروية، كما أنه لا يمكن أن يدرك ذلك الإجلال الراسخ الذي يخصونه به.



ولا ندري كيف فات أو غاب عن الأستاذ شريف الشوباشي أنه في هذا الكتاب يعيد نفس مطالب المستشرقين المتعصبين، من خلال أسانيد مبتورة أو مغلوطة، ومنها: تكرار التذرع بصعوبة اللغة العربية الأمر الذي أدى إلى تهميشها على الصعيد العالمي، لكنه أغفل ذكر أن منظمة اليونسكو قد أدرجتها في النصف الثاني من القرن العشرين ضمن لغاتها الرسمية التي تتعامل بها أسوة بالإنجليزية والفرنسية؟!



والاستشهاد بأن فيكتور هيجو قد تجرأ على التغيير والتحديث، وأغفل ذكر أنه لم يمس قواعد اللغة الفرنسية وأجروميتها، فمعركة "هرناني" نقلت استلهام قواعد المسرح من قدامى اليونان والرومان إلى أرض الواقع المعاصر.



وتكرار "أن اللغة العربية عائق لتقدم العالم العربي وازدهاره"، وتناسى دور الاستعمار والاستشراق والتبشير في فرض التغريب وعمليات الغرس الثقافي..



أما الإشادة بأن الفرنسيين لا يخطئون في الهجاء، فلعله لم يطالع ما تزخر به الصحف الفرنسية الرسمية من مقالات ساخرة أيام نتائج امتحانات الثانوية العامة (الباك)، بل لعله لم يسمع عن أخطاء فولتير الإملائية الشهيرة والتي لم تكن سببا في يوم من الأيام في اتهام اللغة الفرنسية أو حتى في الانتقاص من مكانة فولتير!



والتقريظ بأن اللغة العربية "تحتل موقعا لا تحسد عليه في مجال النشر" إذ يقع ترتيبها رقم22، متناسيا أن السواد الأعظم من العالم الإسلامي والعربي يعيش فيما حول وتحت حزام الفقر بفضل الاستعمار والتحكم في الاقتصاد والثروات عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المفروضين على الحكومات.



وتكرار أن هبوط مستوى تعليم اللغة العربية يرجع إلى صعوبتها، متغافلا أن انحطاط مستوى التعليم بالمدارس وتدني مرتبات المدرسين وتكدس الطلبة في الفصول هو السبب الحقيقي الذي يؤدي إلى دوامة الدروس الخصوصية وتبريرها، وهو السبب الحقيقي لتدني المستوى اللغوي..



و الغريب هنا أن الأستاذ شوباشي يعلم ويشير إلى "أن السلطة الفرنسية (كدولة من دول الاستعمار) تفرض لغتها في المدارس وتحارب العربية وتسعى لتقليصها بقدر المستطاع" وإن كان في الواقع ليست السلطة الفرنسية وحدها وإنما كل السلطات الاستعمارية وأولها حاليا الولايات المتحدة الأميركية.. وذلك إضافة إلى اختلاق بعض الموضوعات والرد عليها من باب المزايدة في نقد اللغة العربية واتهاماتها.



والأمر الأكثر مرارة وألما -ولا ندري كيف لم يدركه الأستاذ شوباشي- أن نراه يردد أقوال المستشرقين من أن القرآن قد نزل لقوم بعينهم وفي زمن بعينه، وأن اللغة العربية كما ورثناها لا تلائم العصر، ويعتبر –مثلهم- أن الثبات على الأسس الواضحة والثوابت التراثية الراسخة عبارة عن "تخلف وتحجر"!..



وتكرار أن الجامعات الأميركية والغربية تقوم بتدريس اللهجات العامية لذلك علينا أن نحذو حذوهم ونساهم في اقتلاع لغتنا بأيدينا.. وأن اللغة العربية أصبحت إحدى العقبات في سبيل انطلاق العقل العربي، لذلك نراه يدعو صراحة: "لنقم نحن بثورة في اللغة العربية اليوم بدلا من أن يفرض علينا الأمر الواقع".. أس ما معناه ليكن الهدم بيدنا لا بيد عمرو كما يقول، أم ترى التعليمات قد صدرت بالفعل بذلك الهدم وأن هذا الكتاب وغيره ليس إلا من قبيل التمويه أو من باب العلم والإحاطة؟..



ولا نفهم أي معنى لإقحام فصل بأسره بعنوان " المسيحيون والعربية"؟!



هل أصبحت المسيحية والمسيحيين من المقررات المفروض حشرها في كل شيء أم ما الذي أصابنا؟!



إن ما يخرج به القارئ من محتويات هذا الفصل لا يحسب لهم بل عليهم، وبالتالي يقلل من شأنهم.. فهم "وحدهم" الذين برعوا في العلوم، وهم "وحدهم" الذين قاموا بعمليات الترجمة أيام عصر الظلومات الغربية والتي بفضلها قامت النهضة الأوروبية، وكأنه بذلك يسحب البساط من تحت أقدام علماء المسلمين ليرجع الفضل كله في النهضة الأوروبية إلى النصارى وحدهم، وهم "وحدهم" الذين أدخلوا المطابع بالحروف العربية ثم يدرج أسماء القساوسة والآباء الذين أدخلوها وأسماء الأديرة المختلفة الملل التي تنافست على طباعة كتاب المزامير والأناجيل.. والغريب هنا أن المؤلف لم يدرك أن ذلك الحماس يدخل تحت باب التبشير والتنصير!!



وهم "وحدهم" -وفقا لكتاب الأب لويس شيخو- الذين كانوا يمثلون كافة الشعراء في عصر الجاهلية قبل الإسلام، والغريب أن مارون عبود المسيحي قد انتقد ذلك القول كما يورد الشوباشي في نفس الكتاب، فلم إذن حشر هذه المعلومة غير الصادقة لمجرد الإيحاء، كما زعم الأنبا يوحنا قولتا في كتابه عن المسيحية والألف الثالثة، أن كل منطقة الجزيرة العربية وكل ما يحيط بها من بلدان حتى مصر كانوا مسيحيين؟!



وإقحام أن اللغة العربية "قد وجهت ضربة قاضية إلى كل اللغات التي كانت متداولة في المنطقة وأهمها الآرامية وهي لغة المسيح عليه السلام والقبطية وهي لغة أهل مصر قبل الفتح".. ما معنى كل ذلك الخلط التاريخي- لكي لا نقول التحريف المتعمد للتاريخ بغية الإعلاء من شان المسيحيين في المنطقة؟ فالآرامية بها ملامح كثيرة باللغة العربية، وقد انقسمت إلى ثلاث لهجات في القرن الثامن قبل الميلاد، وبعد فتوحات الإسكندر الأكبر سادت اليونانية، وإن ظلت بعض اللهجات الآرامية حتى عصر الرومان واندثرت، فليس الإسلام هو الذي اقتلعها. أما القبطية فلم تكن في أي وقت من الأوقات لغة أهل مصر بأسرها، فقد كانت هناك اللغة الرسمية للحكام اليونان والرومان ولغات الجاليات الأخرى إضافة إلى لغة السواد الأعظم من المصريين القدماء وهي الديموطيقية بعد تطور الهيروغليفية والهيراطيقية التي تلتها..



ألم يدرك الأستاذ شوباشي أن ذلك الإقحام المبالغ فيه للوجود القبطي يدخل تحت بند الدعاية المغرضة لتنصير منطقة العالم الإسلامي الدائر حاليا وإيهام مغلوط بأن المنطقة بأسرها كانت مسيحية وعليها أن تعود إلى ما كانت عليه كما يقولون ظلما ومغالطة؟!



ما معنى هذا الإقحام الممجوج أو المفتعل للوجود المسيحي في البلدان الإسلامية والعربية؟!..



إن المسيحيين في الشرق الأوسط أقلية يبلغ عددها اثني عشر مليونا، وفقا لإحصائية الفاتيكان الحريص عليهم، أقلية يعيشون وينتمون لكل بلد هم فيه ويساهمون في نهضته وتاريخه وحضارته على أنهم جزء لا يتجزأ من شعبه، فما العيب أو العار أو حتى الخطأ في ذلك؟ ما معنى فرض هذا التميز وهذه السيادة الطاغية الآن؟



لم افتعال حساسيات لا ضرورة لها إلا إشعال الحرائق التي تبرر تدخل القوات الأميركية، كما يطالب البعض.



ويا لها من كبوة يا أستاذ شوباشي، كبوة لا تقل فداحة عن المطالبة باقتلاع اللغة العربية! ولعلمك، كون المسيحيين أقلية في الشرق الأوسط فذلك لا يضيرهم ولا يمس كرامتهم في شيء.. إنهم جزء من هذه الأمة، فما الضرر في هذا الواقع؟ وما كنت أود أن أضيف: ليت الأقليات المسلمة التي تعيش في البلدان المسيحية المتعصبة تنعم بربع أو حتى بعشر ما تتمتع به الأقليات المسيحية في كل شيء! ويؤسفني أن أضيف أن هناك من البلدان الغربية المتعصبة من ترفض دفن موتى المسلمين إذا ما ماتوا على أراضيها!



إن مجرد هذا الفصل المسيحي إضافة إلى باقي المطالب -التي تعنى في نهاية المطاف اقتلاع الإسلام من جذوره، فالقرآن كما يقول المؤلف وكما تقول كافة المراجع الغربية التي تتناول هذا الموضوع هو الذي سمح باستمرار اللغة العربية حتى القرن الواحد والعشرين، وبالتالي فإن اقتلاع اللغة العربية سيؤدي حتما إلى اقتلاع القرآن.. فهل ذلك هو حقيقة ما يسعى إليه الأستاذ شوباشي، رغم التأكيدات المتناقضة المتناثرة بطول الكتاب وعرضه بأنه لا يقصد المساس بالقرآن؟!



وهنا لا يسعنا إلا أن نسأل: هل فكر سيادته فيما سيكون عليه الحال بعد أن يتم تنفيذ مقترحاته من اختلاق لغة عربية قائمة على لهجات عامية متعددة وحذف التشكيل وإلغاء المثنى ونون النسوة وقواعد الأرقام وما إلى ذلك من مقترحات ناسفة للغة العربية، هل سيكون هناك من يمكنه قراءة القرآن وفهمه بعد جيل أو اثنين؟!



إذا ما أخذنا في الاعتبار المناخ العام الحالي، الذي لم يعد بوسع إنسان أن ينكره أو حتى أن يغفله، وكل ما يدور من محاولات لاقتلاع الإسلام وتنصير العالم، لأدركنا فداحة هذا الكتاب.. ويكفي أن نعلم أنه في 4 فبراير 2001 قرر مجلس الكنائس العالمي تحديد هذا العقد (2001-2010) لاقتلاع العنف والشر الذي هو الإسلام، كما يطلقون عليه، ثم قامت اللجنة المركزية لذلك المجلس بإسناد هذه المهمة للولايات المتحدة الأميركية للقيام بها لما تتمتع به من قوة عسكرية متفردة بعد أن أطاحت بالاتحاد السوفيتي، كما أن مجلس الكنائس العالمي يعد لإقامة أكبر مؤتمر دولي في التاريخ تحضره كافة الكنائس المنشقة، وهى أكثر من ثلاثمائة كنيسة وملة، لإقامة أكبر مؤتمر دولي في التاريخ للتبشير والتنصير، في الفترة من 9-16 مايو2005 في ضواحي أثينا باليونان..



وإذا ما أضفنا إلى ذلك كل ما تم فرضه على العالم الإسلامي من إجراءات لتجفيف الإسلام من المنبع كما يقولون، ومنها منع تدريس القرآن في المدارس وتغيير المناهج وإدخال مواد حرفية في المعاهد الأزهرية وعدم بناء مساجد جديدة وهدم ما شيد منها قبل أن تتم إجراءات الترخيص وتحويل غيرها لاستخدامها في أغراض أخرى وتحديث الخطاب الديني بما يتفق وهذه المطالب الظالمة المهينة وكل تلك الإجراءات المشينة لنا ولكرامتنا كمسلمين، لكي لا نقول شيئا عن تلك المؤتمرات والندوات والمقالات التي تندرج تحت نفس المنظومة المتواطئة مع الغرب لأدركنا فداحة ما نحن فيه..



وهنا لا يسعني إلا أن أضيف للأستاذ شريف الشوباشي، وكيل أول وزارة الثقافة ورئيس اللجنة الثقافية بوزارة الخارجية، كان من الأكرم بدلا من تسفيه اللغة العربية واتخاذ ذلك التسفيه حجة لاقتلاعها، أن تكرس كل هذا الجهد المنبت لتدعيم ورفع مستوى اللغة العربية واقتراح رفع مرتبات المدرسين (والميزانية تسمح فهناك من موظفي الدولة من يتقاضون مئات الآلاف من الجنيهات كراتب شهري) وعمل دورة تدريبية للمذيعين والمذيعات وفرض عدم إقحام كلمات أجنبية على أسماء البرامج والإعلانات من قبيل "ويك إند" و "توب تن" أو "مودرن أكادمي" وعلى لافتات المحال العامة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، لعدم السقوط في المستنقع الآسن لخيانة اللغة والدين فارتباطهما لا انفصام فيه..



إن كل ما أتى به هذا الكتاب وما يطالب به يعد -كما تقول في مكان ما به- "بدعة مكروهة ومحاولة شيطانية لتقليد الغرب واقتلاع الدين والثقافة العربية الأصيلة". وما كنت أتصور أن يقبل الأستاذ شوباشي، الذي نكن له جميعا كل تقدير، بأن يكون من يقوم أو ممن يقومون بتنفيذ مطلب القس زويمر، كبير المستشرقين الذي قال من ضمن ما قاله من مطالب في مطلع القرن العشرين: "لن يقطع شجرة الإسلام إلا أيد مسلمة من الداخل"..



عار علينا، وأي عار..

ذو الفقار
2009-10-14, 08:26 PM
نحمد الله على عودتك اخي دفاع

فقد أطلقوا عليه عقد "اقتلاع الشر" الذي هو الإسلام في نظرهم..
قاتلهم الله



ليت الأقليات المسلمة التي تعيش في البلدان المسيحية المتعصبة تنعم بربع أو حتى بعشر ما تتمتع به الأقليات المسيحية في كل شيء!


رميتِ بالحق سهماً وربي فأصبتِ


عجبت ممن يتهم اللغة العربية بفقرها وعدم وجود مرادفات لكلماتها

بارك الله لنا في قلمكِ د . زينب عبد العزيز

الهزبر
2009-10-14, 09:14 PM
السلام عليكم



عجبت ممن يتهم اللغة العربية بفقرها وعدم وجود مرادفات لكلماتها




هذا مما ابتلينا به من مخلفات الاستعمار والمستشرقين.

جزى الله صاحب الموضوع خيرا

الداعي
2009-10-14, 09:58 PM
"لن يقطع شجرة الإسلام إلا أيد مسلمة من الداخل"..


هذا ما ابتلينا به, فسياستهم: اقطع الشجرة بغصن منها...!!

الرافعي
2009-10-14, 11:56 PM
جزاكم الله خيراً أخي الكريم دفاع ، وحمداً لله على عودتك ..
---------------------------------

,قد كتب الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض يقول :


لتحيا اللغة العربية: يعيش سيبويه
رد على شبهات وكيل وزارة الثقافة فى مصر
بقلم : د. إبراهيم عوض

أصدر الأستاذ شريف الشوباشي، وكيل وزارة الثقافة المصري للشؤون الخارجية، منذ أشهر قلائل كتابا عنوانه "لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه"، تناول فيه اللغة العربية الفصحى والكلام الذي يثور في العصر الحديث بين الحين والحين عن صعوبة قواعدها عارضًا الوسائل التي يراها كفيلة بالقضاء على هذه الشكوى مع الحفاظ على الفصحى في ذات الوقت حسبما جاء في كلامه. وهو ينطلق مما يقول إنه لاحظه في التقويم السنوي العالمي المسمى بـالـ"ألمناك" لعام 2004م من تراجع اللغة العربية عن المكانة التي كانت تشغلها قبلا، وهو ما فهمتُ منه أنها قد أُسْقِطَتْ نهائيا من هذه المطبوعة التي تهتم بإيراد أحدث الإحصاءات والمعلومات الأساسية في كل المجالات في العالم. يقول كاتبنا إن الـ"ألمناك" لم تَعُدْ تنظر إلى لغتنا بوصفها لغةً قائمةً بذاتها، إذ اللغة إنما جُعِلَتْ لتكون أساسا للتفاهم اليومي بين الناس لا لتكون أداة للدراسة والتعليم. وما دامت اللغة العربية قد انحصر استعمالها في الدرس والعلم ولم تعد تستخدم في أغراضنا اليومية، فمعنى ذلك أنها أضحت لغة ميتة، وبناءً على هذا فلا يصح إدراجها بين اللغات التي لا يزال يستخدمها أصحابها. ثم يمضى قائلا إن الأمر قد هاله وبعثه على التفكير في هذه القضية، وبخاصة أن تلك المطبوعة هي أحد أهم المراجع بالنسبة لكبار الكتاب والمتخصصين في الغرب، ومن الخطإ إذن أن نأخذ ما جاء فيها باستخفاف. ومع ذلك فلا بد من التنبيه إلى أنه رغم هذا قد أشار ، ولكن على نحو عارض وسريع ، إلى أن الـ"ألمناك" هو من المطبوعات التي لا تخلو من الأغراض الخبيثة (ص7ـ 8). وهنا أحب أن تكون أولى وقفاتي، فمن المؤكد أن ما فعله الـ"ألمناك" بشأن لغتنا هو الزيف والتدليس والخبث بعينه ونفسه وقَضّه وقََضِيضِه، وليس له معنى غير هذا، ولا يمكن أن يُفْهَم إلا على هذا النحو. ولكن كيف ذلك؟ المعروف أن اللغة، أية لغة، لها مستويات عدة: المستوى الفصيح، ومستوى الأحاديث الثقافية للمتعلمين، ومستوى أحاديثهم العادية، ومستوى العامة، ومستوى الدهماء والغوغاء. بل إننا في هذا المستوى الأخير مثلا يمكن أن نميز بين ضروب مختلفة من العامية كما هو الحال في لغة بعض الطوائف الخاصة كطائفة اللصوص أو الشحاذين… وهلم جرا. وهذا لون واحد من ألوان التقسيمات اللغوية حسب المستوى الثقافي والاجتماعي للمتحدثين بها، وقد تُقَسَّم هذه المستويات على نحو مختلف بعض الشيء كما فعل د.السعيد محمد بدوي في كتابه "مستويات العربية المعاصرة في مصر"(دار المعارف/ 1973م/ 89 وما بعدها)، إذ قسمها إلى: فصحى التراث، وفصحى العصر الحاضر، وعامية المثقفين، وعامية المتنورين، وعامية الأميين. بل إن اللغة لتختلف في البلد الواحد من مكان إلى مكان، مثلما هو الوضع في مصر حيث تتمايز لغة أهل الصعيد بوجه عام عن لغة الوجه البحري، وكما تتمايز لغة أهل قريتي عن لغة القرية المجاورة لها مع أنهما توشكان، بفضل التوسع العمراني، أن تصبحا قرية واحدة. واللغة في الواقع هي كل هذه المستويات، وذلك على عكس ما يريد محرِّرو الـ"ألمناك" أن يوهمونا به من أن اللهجات العامية التي يتحدث بها العرب ليست هي اللغة العربية، وعليه فلا بد من استبعاد هذه اللغة من قائمة اللغات التي لا تزال حية تُسْتَعْمَل! إن هذا لهو البَكَش بعينه! وإلا فليست هناك لغة واحدة في العالم ينطبق عليها هذا الشرط الغريب الذي لم يشأ أصحاب الـ"ألمناك" أن يطبقوه إلا على لغة القرآن الكريم لغرض في نفس يعقوب!

فمعروف أن المستوى الفصيح في أية لغة يقتصر استعماله على مجال التأليف والإبداع والخطب والمحاضرات والندوات، أما في الحياة اليومية فهناك مستويات أخرى يلجأ إليها الناس لتصريف أمورهم كما أشرنا آنفا. هكذا كانت اللغات البشرية، وهكذا هي الآن، وهكذا ستظل. ومن يقل غير هذا فهو إما جاهل أو بكّاش، والذين قاموا على إخراج الـ"ألمناك" لا يمكن أن يصلوا في الجهالة إلى هذا المدى المغرق في السُّفُول، وإلا كانت فضيحة لا تغتفر! فلم يبق إلا أن يكونوا بكّاشين. والغرض من وراء ذلك أن يغرسوا في نفوسنا أن لغتنا قد انتهى دورها ولم يعد أمامها إلا أن نواريها التراب وأن نتخذ العاميات عنها بديلا. وهذا في الواقع هو ما يريده منا بعض المستشرقين والمبشرين ممن يعملون على أن يقيموا بيننا وبين القرآن المجيد حاجزا لا يمكن تخطيه، ألا وهو حاجز اللغة، إذ متى ما اختفت اللغة الفصحى التي نزل بها كتاب الله فقد حيل بيننا وبين ذلك الكتاب، اللهم إلا أن يفكر في دراسته بعض المتخصصين، أو نترجمه إلى اللغة العامية كما سمعنا من ينادى بهذا في الأشهر الأخيرة في أرض الكنانة حامية القرآن واللسان الذي نزل به هذا القرآن، وعندئذ لن يكون النص المترجَم هو القرآن الكريم بل كلاما عاميا متخلفا ليس بينه وبين أسلوب القرآن المعجز أية صلة، فضلا عن أن الترجمة لن تكون سوى فهم خاص لذلك النص بما لا بد أن يصاحب هذا الفهم من قصور وأخطاء ونزوات وأهواء. ثم مع توالى الأيام يزداد النص المترجَم ابتعادا عن الأصل الإلهي الكريم... إلى أن نفيق ذات يوم على نص ليس بينه وبين الأصل أية وشيجة.

لكن الأستاذ الشوباشي يؤكد أنه حريص أبلغ الحرص على اللغة الفصحى لأنها، حسبما يقول، هي الرباط الوحيد الآن بين شعوب الأمة العربية بعد تفرقهم سياسيا وتمزقهم اقتصاديا، كما أنه، حسبما يقول، لا يحب أن ينقطع ما بيننا وبين التراث العظيم المكتوب بالفصحى، ومن ثم فهو لا يفكر في استبدال العامية بها(ص16ــ 17، 138، 165ــ 166)، بل كل ما يبغيه هو تطوير اللغة العربية بتقريب الفجوة التي تفصل فصحاها عن عاميتها حتى يستطيع الناس أن يتكلموا بها ويكتبوا دون أن يقعوا في الأخطاء التي يقعون فيها الآن، وحتى تساير العصر الذي نعيش فيه فلا يأتي علينا يومٌ نجد أننا لا بد أن نتخلى عنها لعجزها عن الوفاء بمتطلباتنا(ص141)، وذلك من خلال تطوير قواعدها التي لم تتغير طوال عمرها البالغ خمسة عشر قرنا، مخالفة بذلك ما جرى للُّغات الأخرى من عدم توقف قواعدها عن التغيير كل هذه المدة كما حدث للغة الصينية التي كانت تتطور قواعدها كل خمسمائة عام، وكما حصل في اللغة الإنجليزية أكثر من مرة رغم تاريخها القصير بالنسبة للغتنا، وكما أراد الفرنسيون كذلك أن يصنعوا في لغتهم، وإن لم يصلوا إلى المدى الذي بلغه أهل الإنجليزية، وبخاصة في أمريكا، من تبسيط وتطويع انتقلت به هذه اللغة من حال إلى حال لتصبح أسهل لغات العالم تعلما(ص45ــ 46، 49، 55).

الرافعي
2009-10-14, 11:59 PM
هذا ما قاله الكاتب، ولكن ما طبيعة التطوير الذي يريد من خلاله التقريب بين الفصحى والعامية يا ترى؟ إنه يرى أن المفعول به يمثل عقبة كأداء في سبيل إتقان العربية، ومن ثم نراه ينادى بألا يكون منوَّنا، بل يُكْتَفَى فيه بالسكون (ص172). وهو يريد بهذا إلغاء الإعراب، لكن كلامه تُعْوِزه الدقة ووضوح التعبير كما هو بيّن جلىّ. كذلك نراه ينادى أيضا بالتخلص من التأنيث في الأرقام وفى الجمع معا، فنقول مثلا: "تسع رجال، وتسع نساء" على السواء، كما نقول: "النساء كلهم أكلوا" بدلا من "النساء كلهن أكلن"... وهكذا، وهو ما ينسحب على الأسماء الموصولة التي تكتفي العامية فيها بكلمة "اللى" في كل الحالات(ص171ــ 172، 175)، على حين تستعمل الفصحى مجموعة كاملة منها هي "الذي والتي واللذان واللتان والذين واللاتي". وبالمثل نجده ينادى بالتخلص من صيغة المثنى فلا يكون لدينا بعدها إلا المفرد والجمع فقط مثلما هو الأمر في اللهجة العامية واللغات الأوربية. وعلى نفس الوتيرة يهاجم الجملة الفعلية زاعما أنها تؤدى إلى التباس المعنى بخلاف الاسمية التي تعبر عن المراد بكل وضوح ودقة(ص168). وفوق ذلك فهو يهاجم العربية لكثرة ما فيها من مترادفات(ص177ـ 180)، كما يتهمها بأن فيها نقصا معيبا في حروف العلة وأن غالبية حروفها ساكنة(ص168ـ 170). والمتأمل في هذه الاقتراحات والاتهامات يلحظ من فوره أنها تكاد تقلب الفصحى عامية بما يباعد بيننا وبين اللغة التي ظل آباؤنا وأجدادنا يستعملونها في الكتابة والقراءة والتفكير العلمي والإبداع الأدبي لما ينوف على خمسة عشر قرنا، ومن ثم يقيم بيننا وبين التراث العظيم الذي خلفوه جدارا عاليا سوف يزداد مع الأيام والسنين ارتفاعا وسُمْكا وصلادة، فضلا عن أنه سوف يجعلنا نشعر مع القرآن الكريم بغربة مزعجة لا نجدها الآن، وهو ما يتناقض مع ما أكده في أكثر من موضع في الكتاب من أنه لا يهدف أبدا إلى القضاء على الفصحى وإحلال العامية مكانها!

ولست أريد أن أدخل في مناقشة نيته من وراء ما كتبه في هذه القضية، فقد يكون حسن القصد فيما يدعو إليه ومؤمنا بأن ما يقوله من شأنه أن يخدم لغته القومية فعلا، وقد يكون أقدم على هذا الذي كتبه هنا وهو يدرك أنه سوف ينجلي عن نتائج غاية في الوخامة، فعلم ذلك كله عند الله. ثم إني أعترف بأن انتسابه إلى الأستاذ محمد مفيد الشوباشي، القصاص والشاعر والناقد والمترجم المعروف صاحب الأسلوب المحكم الجميل، والمدافع بمنتهى الشراسة والحق عن أصالة الحضارة الإسلامية والعقلية العربية وجمال لغة الضاد أسلوبا وإبداعا أدبيا رغم أنه كان يساريا، والذي قرأت له عددا من المؤلفات والمترجمات واستمتعت بها غاية الاستمتاع منها "القصة العربية القديمة" و"رحلة الأدب العربي إلى أوربا" و"الأدب الثوري عبر التاريخ" و"آسيا وجداول الربيع" لترجنيف و"نافخ البوق" لتوماس هاردي، أقول إن انتسابه لمحمد مفيد الشوباشي يَغُلّ يدي عن أن أتناول ما كتبه في موضوعنا بنفس الشدة التي أرد بها على من يهاجمون العربية أو الإسلام. ولقد بلغ من اعتزاز الشوباشي الكبير بلغتنا العبقرية أنه كان ينحى باللائمة على كاتبنا في شبابه حين يراه يجرى على منوال اللغات الأوربية في كثير من الأحيان بإيثاره الجملة الاسمية على الفعلية حسبما حدثنا الكاتب نفسه(ص168)، وإن لم ألاحظ في الكتاب الذي بين يديّ الآن والذي أرسله لي كاتبنا مشكورا ولا في كتابه الآخر "الداء العربي" الذي أرسله معه أن للجملة الاسمية الغلبة على غريمتها الفعلية. كما أن الأديب الراحل كان يرفض أشد الرفض استعمال العامية في الكتابة حتى ولا في الحوار القصصي. والطريف أنه كان يستند، ضمن ما يستند إليه في ذلك الرفض، على التحليلات الماركسية في الفكر والأدب. ويستطيع القارئ أن يجد شيئا مما كتبه في هذا المجال في مقال له بمجلة "العالم العربى" القاهرية في عدد مارس 1958م. وهناك سبب آخر يمنعني أن أكون شديدا في نقد ما كتبه أ.شريف الشوباشي، فقد بدا لي، أثناء مناقشتي أنا ود.عبد الله التطاوى له ولآرائه الواردة في كتابه المذكور في الحلقة التي سجلتها معنا قناة "التنوير" المصرية من برنامج "لِلــْوُدّ قضيـّة" منذ أيام، أنه رجل دمث الخلق متواضع، وليست فيه لجاجة بعض الكتاب ممن يعملون على التنقص من تراثنا في الدين أو الفكر أو الأدب. بل إنه في الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا لم يحدث أن تعرض بكلمة سوء لأي من رموزنا التاريخية، وكذلك لم يقع أن ذكر الرسول إلا بمنتهى التبجيل والاحترام، كما كان دائم الصلاة عليه إلا فيما ندر. وكان أدبا جميلا منه أن نجده يقول عن هذا الصحابي أو ذاك: "سيدنا فلان". وفوق هذا كله فقد رأيناه يبتدئ كلامه في تلك الحلقة بالقول بأن ما كتبه في كتابه ذاك إنما هو مجرد رأى قد يكون صوابا، وقد يكون خطأ. على أن هذا كله لم يمنعني في الحلقة التلفازية المذكورة ولن يمنعنى الآن من أن أختلف معه غاية الاختلاف إذا رأيت أن كلامه غير منطقى أو أن من شأن الأخذ به أن يقودنا إلى ما لا تحمد عقباه من نتائج.

وينطلق كاتبنا في دعوته إلى تطوير اللغة وقواعدها من منطلقين: الأول أن كثيرا من الكتاب والخطباء العرب يخطئون في لغتهم، وأن التلاميذ والطلاب يشكون مُرَّ الشكوى من حصة اللغة العربية ولا يرون فيها شيئا أكثر من كونها عبئا ثقيلا لا بد أن يتحملوه كي ينجحوا في امتحانات آخر العام، والسلام، غير واجدين أية لذة في دراستها. ثم إنها ليست وسيلة طبيعية في التعبير عن أفكار من يستعملها ومشاعره، بل عليه أن يتكلفها تكلفا. والثاني أنها لم تعد تساير العصر أو تفي بمتطلبات التعبير عنه بعد أن طال بها الزمن دون أن يطرأ عليها ما تحتاجه من تطور على عكس اللغات العالمية الأخرى التي لا يكتفي أصحابها بما يعتريها من تطور طبيعي، بل يحدثون فيها ضربا آخر منه يقصدونه قصدا.

الرافعي
2009-10-15, 12:01 AM
يقول أ.الشوباشي: "كثيرا ما فوجئت بكبار المثقفين يخطئون أخطاء لا تُصَدَّق في لغتهم الأم التي يكتبون ويبدعون بها، وبعض هؤلاء أو معظمهم يُعَدّون من رموز الأدب والكتابة في مصر والعالم العربي... وعندما كنت أقارن حالنا بالآخرين كنت أجد نفسي مضطرا لأن أعترف بأنه لا يوجد مثقف واحد في فرنسا أو إنجلترا أو إسبانيا أو حتى البرازيل يخطئ في لغته الأم بهذه الصورة. فهل كل الشعوب العربية بمثقفيها ومفكريها أصبحت معوقة ذهنيا بحيث لا تستطيع تعلم اللغة والإلمام بها إلماما سليما؟ وإذا وسّعْنا باب المقارنة مع الآخرين نجد أن أي سكرتيرةٍ متواضعةٍ حاصلةٍ على شهادة متوسطة في أي دولة غربية قادرةٌ على أن تكتب بنفسها خطابا دون أخطاء لغوية… فهل السكرتيرة الفرنسية تمتلك قدرات ذهنية أرقى من المثقفين وأصحاب الشهادات العليا في العالم العربي؟ بالطبع لا. إذا فالخلل يكمن في الطرف الآخر من المعادلة، وهو اللغة المستخدمة عند كل من الطرفين... فاللغة الفرنسية طيعة وسهلة ومباشرة، كما أن السكرتيرة، مَثَلُها مَثَلُ كل من يجيد الفرنسية، لديها أدوات تسهل مهمتها وتجعلها قادرة على تجنب الخطإ. وعلى رأس هذه الأدوات قاموس اللغة الفرنسية الذي يقوم على ترتيب الحروف الأبجدية، بالإضافة إلى ترسانة من القواميس الخاصة بالقواعد وبالمترادفات وغير ذلك من الكتب التي يتعلم أي تلميذ فرنسي كيفية استخدامها في المدرسة"(ص67ــ 68).

والرد على هذا سهل غاية السهولة، فقد كان الكتّاب والعلماء والأدباء والشعراء العرب طوال الخمسة عشر قرنا الماضية يستخدمون لغتهم استخداما سليما ويسيطرون عليها ويبدعون بها على أحسن وضع، فلماذا يعجز كثير منهم الآن عن أن يصنعوا صنيع أسلافهم؟ إنه الكسل العقلي والاكتفاء بأقل القليل، وهو عيب شامل، وليس خاصا بالكتابة فحسب، بل كل صاحب حرفة أو عمل يعانى من نفاد الصبر، وليس عنده من طول البال ما يساعده على تجويد ما تصنع يداه. وهذا هو السبب في أن عماراتنا كثيرا ما تنهار الآن قبل أن يمر عليها سوى أشهر أو سنوات معدودات. وهو نفسه السبب في أننا نشكو من إهمال الصنائعية والعمال، وهو أيضا السبب في أن كثيرا من شوارعنا ممتلئة بالحُفَر والمطبّات والقاذورات والأصوات العالية المزعجة والبذاءات المقذعة التي تشمئز منها النفوس الكريمة، وأن البلاعات فيها إما أعلى من مستوى الأرض أو أوطأ منها، وكثيرا ما تكون مكشوفة بحيث يقع فيها الأطفال لتبتلعهم بأفواهها الفاغرة وتغيّبهم في بطونها إلى الأبد، وأن كل شيء في حياتنا تقريبا قبيح ومشوه، وأننا لا نستطيع أن نعتمد على أنفسنا في توفير ما نحتاج إليه من طعام أو ملابس مثلا، ناهيك عن تصنيع السيارات والحواسيب ومعدات القتال...إلخ. ثم إنك يا أ.شوباشى تعرف أن كثيرا جدا ممن تسميهم مثقفين وكتّابا كبارا ليس لديهم اطلاع كاف على اللغة أو التراث رغم أنهم كثيرا ما يتعرضون لهما بالكتابة والتقويم. أليست هذه محنة؟ ولسوف أعطيك هنا مثالا سريعا على ما أقول: فقد كتب جمال الغيطاني في روايته المسماة بـ"الزيني بركات"، والتي يطنطن لها البعض بغير حق، أن اليهود قد طاردوا النبي محمدا بالحجارة من فوق أسوار الطائف حين التجأ إليها في عهد الدعوة المكية، وأن امرأة من يهود هي التي أكلت (لاحِظْ:" أكلت" لا "لاكَتْ") كبد حمزة رضي الله عنه(دار المستقبل العربي/ ط 3/ 1985م/ 225). وهذا، كما ترى، كلام مضحك بل تخريف عجيب إن وقع من أي تلميذ صغير كان جديرا أن يعاقَب على جهله بمثل هذه الوقائع الأساسية في سيرة نبينا عليه السلام، فالتلاميذ والطلاب في كل مراحل الدراسة ونوعياتها، بما فيها مدرسة الصنائع التي تخرج منها الكاتب، يعرفون أن الذين طاردوا النبي في الطائف ورَمَوْه بالحجارة أوان ذاك هم عبيدُها وصبيانُها وسفهاؤها من المشركين وليس اليهود، لأن اليهود لم يكونوا قد ظهروا في حياة النبي عليه السلام بعد، كما أن التي لاكت كبد حمزة، رضى الله عنه (لاكَتْ لا أَكَلَتْ) هي هندٌ بنتُ عتبة زوجةُ أبي سفيان لا امرأةٌ من يهود، وكان ذلك عقب غزوة أُحُد . ومعروف أن ذلك إنما وقع بعد الهجرة بالقرب من المدينة، وليس في الطائف في العهد المكي! والغيطاني أحد الكتاب الذين قد ترى فيهم طائفة من نقاد آخر زمن أديبا ذا شأن، فضلا عن أنه كثير الحديث عن ولعه بالتاريخ الإسلامي، مما يجعلني أتساءل: ترى ماذا كان يمكن أن يكون علمه بهذا التاريخ لو لم يكن وَلِعًا به إلى هذا المدى؟ كما أن في لغته ضعفا وركاكة استفزا فاروق عبد القادر فأصلاه في الكتاب الذي صدر له في سلسلة "كتاب الهلال" منذ شهور نارا حامية. ولو كان محمد مفيد الشوباشي حيًّا لأسمعه هو وأمثاله من الكتّاب ما يؤلمهم جزاءً وِفاقًا على هذا الضعف المزري في لغتهم القومية! والمصيبة أن المؤلف لم يتنبه ولا نبهه أحد ممن حوله لهذا الجهل على مدى الطبعات الثلاث التي طُبِعَها الكتاب فيصححه!

وبالمناسبة لماذا كان الشوباشي والمنفلوطي والعقاد والرافعي وإبراهيم رمزي والمازني وأمين الريحاني ومطران ونعيمة وجبران وكرم ملحم كرم ومَلَك حفني ناصف وميّ زيادة والزيات والصيرفي والسحرتي وعنان وهيكل ومحمد لطفي جمعة وفخري أبو السعود وشكيب أرسلان وكرد على وشفيق جبري ونزار قباني وسعد الله ونوس وغادة السمان وعبد القدوس الأنصاري وأحمد السباعي وخليل سكاكيني وابنته وداد وإبراهيم طوقان وأخته فدوى وهارون هاشم رشيد ومحمد عزة دَرْوَزَة ونازك الملائكة والجواهري والسياب وعبد الكريم غلاب ومحمود المسعدى وحسنى عبد الوهاب ومحمود شلتوت والسحار وباكثير وأمين يوسف غراب وزكى نجيب محمود وزكريا إبراهيم ومحمد الغزالي وخالد محمد خالد وعبد الرحمن الشرقاوي مثلا بهذه القوة والمتانة في الأسلوب، ولم يتخرج أىٌّ منهم من أى من أقسام اللغة العربية بالجامعة، بل إن عددا منهم لم يتلقَّوْا تعليما جامعيا أصلا؟ حتى سلامة موسى، الذي كان كثير العيب على اللسان العربي ويرميه بالبداوة ويعلن كراهيته له لأنه اللسان الذي نزل به القرآن، يخلو أسلوبه من الأخطاء التي تبرقش كتابات أدبائنا الذين تسللوا إلى ميدان الأدب والفكر في غفلة من الزمن! ثم لماذا هذا الضعف الشائن في كثير من كتّاب هذا الجيل بالذات؟ أتكون اللغة العربية قد انقلبت بين عشية وضحاها من لغة يمكن إتقانها لمن يريد ويبذل فيها ما تحتاجه من جهد واهتمام إلى لغة عصيّةٍ شَموس؟ ولكن هل هذا مما تسمح به طبيعة الأشياء؟ إن المشكلة هي أننا أصبحنا فاقدي الصبر، على طريقة العوامّ الذين ما إن تبدأ في شرح ما تريده لهم حتى يفاجئوك بقولهم دون أدنى حياء: هات من الآخر! وعبثا تحاول أن تعرف ما الذي يستعجلهم كل هذا الاستعجال فلا تجد إلا نفاد الصبر وقلة الأدب! فحياتهم، والحمد لله، فارغة من أي شيء مهم، وكل ما هنالك أنهم يفتقرون إلى ذلك الصبر الذي تحدث عنه الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة "العصر" فأفاض وأمتع، وهو الصبر الإيجابي الذي بدونه لا تقوم حضارة ولا يتم تقدم: الصبر على مشقات العمل والإنتاج والإبداع والإتقان والتخطيط والاهتمام بالتفاصيل والالتزام بالنظام الدقيق والحرص على المراجعة والعمل على إصلاح الخطإ أوَّلاً بأوّل... وما إلى هذا.

الرافعي
2009-10-15, 12:02 AM
إن الناس الآن تبدو وكأن عفريتا قد ركبها، وكل ما يهمها هو أن تأخذ فلوسا، أما أن تقدِّم لك لقاء هذه الفلوس الخدمة التي تريد على الوجه الذي يرضى الله ورسوله فكلا وألف كلا! وبالمناسبة فكاتب هذه السطور، الذي هو أنا، رغم تخصصي في الأدب العربي، دائما ما أراجع المعاجم وكتب النحو والصرف حتى فيما أنا متأكد منه، وذلك كي يجيء أسلوبي على أحسن ما أستطيع. ولست أعرف ذلك الاطمئنان الكاذب الذي يأخذ كثيرا من الكتّاب فلا يراجعـــون شيئا مما يكتبــون البتة. ثم إني أجد في هذه المراجعات متعة عقلية وفنية لا تقدر بثمن، كما أنها توسع أفق معارفي وتكسبني الثقة بنفسي. وأنت نفسك يـا أ.شوباشى قد قلتها: فالسكرتيرة الفرنسية تتذرع لمهنتها بعدد من معاجم اللغة والإملاء وما إلى هذا مما يعصم ما تكتبه من كثير من الأخطاء التي تقع فيها أمثالها عندنا ممن لا يهتممن بأن يكون في حوزتهن قاموسٌ فردٌ يوحّد الله لأنهن لا يفكرن أصلا في تثقيف عقولهن ولا التأنق في كتاباتهن، ولا شغلةَ طول النهار لهن إلا الكلام عن تقميع البامية وتقلية الملوخية والفستان التي اشترته فلانة والطلاق الذي وقع على رأس علانة... وهَلُمَّ جَرًّا. ولا أحسب الرجال يختلفون عن النساء كثيرا في هذا السبيل! إنه الفرق بين مجتمع متحضر مثقف ومجتمع لا تهتم الغالبية الساحقة من أفراده إلا بالطعام والشراب والتسالي الخفيفة كمشاهدة المرناء وحل الكلمات المتقاطعة والتآمر على الجيران ومكايدتهم ونحوه، حتى إن كثيرا من دور النشر عندنا لم تعد تطبع من الكتب التي تصدرها أكثر من خمسمائة نسخة للكتاب تباع في عدة أعوام! يا أ.شوباشى، أنت تنكأ الجراح، فبالله عليك لا تتهم اللغة العربية. إننا، في هذه الأيام النحسات، شعوب تعيش خارج خريطة التاريخ، شعوب لا قيمة لها حضارية، شعوب تستهلك ولا تبدع! إن العرب والمسلمين، يوم أن كانوا يتمتعون حقا بالثقة بأنفسهم والإيمان بربهم والقدرة على التضحية والتحمس للعمل والإنتاج والسعي في أعقاب العلم واللهاث خلف الثقافة الرفيعة، قد فتحوا البلاد وبسطوا سلطانهم ولغتهم ودينهم على الدنيا في بضعة عقود قليلة من السنين رغم أنهم لم يكونوا يملكون من الإمكانات شيئا يذكر. وكانوا في ذلك الوقت أيضا يقبضون على زمام لغتهم أحسن ما يكون القبض على الزمام، أما الآن فانظر تَرَ ماذا أصبح حالهم. إنهم يصعبون على الكافر، وإسرائيل، التي تتكون من عصابات متنافرة من أرجاء الأرض المتباعدة، تسومهم الخسف والهوان دون أن يستطيعوا أن يقولوا لها: "بِمْ"، رغم أنها من الناحية العددية لا تبلغ خمس معشارهم! ويوم أن يعود لهم سابق عزهم ومجدهم فعندها لن نسمع من يقول إن العربية صعبة أو إنها تحتاج إلى حذف هذا الجزء أو ذاك من قواعدها وتقريبها إلى العامية. إنها منظومة واحدة، والحال هنا هي نفسها هناك. ولهذا ترانا ضعفاء حتى في ميدان الرياضة واللعب مع توفر الإمكانات اللازمة للتفوق في هذا المجال. لكنه، مرةً أخرى، الكسل واللامبالاة وغياب الروح وضعف الشعور بالكرامة القومية والظن بأن الفًَهْلَوَة والبَكَش يمكن أن يوصلانا إلى ما نريد، مع أنه قد ثبت لنا مرات ومرات ومرات أن هذا الأسلوب لا يؤدى إلى غير الكوارث، لكننا لا نتعظ أبدا! ترى أأمضي في هذا الموّال أم الأفضل أن أكفأ على الخبر مأجورا وأسكت؟ أما أنا فأوثر أن أسكت! وعلى الناحية الأخرى أستطيع أن أعدد لك أمثلة على سهولة إتقان اللغة الفصحى لمن يريد بحقٍّ أن يتقنها: فقد كان معنا في المدينة الجامعية في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي طلاب من الصين والاتحاد السوفييتي وبعض البلدان الأفريقية والآسيوية يحسنون الحديث والكتابة بها مع أنهم إنما تعلموها في بلادهم لا في بلد عربي. كما أذكر فتاتين صغيرتين لأب مصري وأم بريطانية التقينا بهما في أوكسفورد في أواخر العقد الثامن من القرن الفائت، وكانتا تحسنان العربية الفصحى إلى حد كبير حديثًا وكتابةً رغم أنهما لم تكونا قد تخطّتا الثانية عشرة من عمرهما. وعندما كنت في جامبيا في غرب أفريقيا في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم تعرفتُ إلى شاب أفريقي من سيراليون رأيت لديه اهتماما بأن يكمل دراسته في اللغة العربية، وكان يبيع في السوق بعض الأشياء الصغيرة التي تهم المرأة بغية أن يوفر شيئا من المال يستعين به على هدفه. والشاهد في الحكاية أنني أردت أن أستوثق من مدى معرفته بلغة العرب التي درسها كلغة أجنبية ولم يَعْدُ في تعليمه المدرسي الثانية الثانوية، فعقدت له امتحانا في النصوص والقواعد فوجدته قد أحرز درجة عالية رغم انقطاعه عن الدراسة منذ وقت ليس بالقصير. وكان يكلمني باللغة الفصحى بسهولة كبيرة. وقد دفعني هذا إلى تشجيعه، بل إنني حين عدت وقتها إلى مصر أرسلت إليه طَرْدَيْن (أو بلغة البريد في بعض دول الخليج: بَعِيثَتَيْن) من الكتب. كذلك كانت مي زيادة لا تستطيع في البداية أن تكتب بالفصحى، بل تستخدم الفرنسية، ثم بدا لها أن تتقن لغة القرآن، وصحّ منها العزم على ذلك، وساعدها في هذا السبيل أحمد لطفي السيد، وكان من بين ما نبهها إليه وأخذها فيه بالحزم وجوب قراءة القرآن المجيد والتضلع من أسلوبه وموسيقاه...حتى أصبحت في نهاية الأمر واحدة من أكابر كتاب العربية وأصحاب الأساليب فيها. وبالمناسبة هناك من بين المستشرقين من يتقن لغة القرآن أفضل من كثير من كتاب هذه الأيام عندنا! كما أن مئات العلماء الهنود والباكستانيين والإيرانيين يكتبون باللغة العربية ويتكلمون بها أفضل من كثير من أبناء العربية!

أما عن التلاميذ والطلاب العرب وضعفهم في لغتهم الأم فيقول كاتبنا: "ومن منطلق معرفتي بمستوى التعليم في فرنسا وغيرها من الدول الغربية أستطيع أن أجزم بأن المستوى اللغوي لخريجي الجامعات المصرية من غير المتخصصين يوازي مستوى تلميذ في بداية المرحلة الإعدادية هناك في لغته الأم. فهل يعكس هذا نبوغ تلاميذ العالم الغربي وتخلف طلاب العلم عندنا؟ بالتأكيد لا، فإن المستوى الذهني متقارب بين الاثنين. إنما المعضلة تكمن في اللغة العربية التي ترقى تعقيداتها إلى مستوى اللوغاريتمات على عقول غير المتخصصين… فعلينا بعيدا عن النفاق أن نعترف بأن طلبة المدارس يكرهون حصة اللغة العربية وينعون همها أكثر من أي مادة تعليمية أخرى. فإلى متى نجعل أطفالنا وشبابنا يتجرعون عذاب القواعد المعقدة التي عفا عليها الزمن ولم تعد تواكب العصر؟"(ص 12). هذا ما قاله الكاتب، وأنا أزيد عليه أن الأغلبية الساحقة من الطلاب المتخصصين في اللغة العربية وآدابها لا تعرف شيئا ذا قيمة عن أدب أمتهم أو لغتها بل لا يحسنون الكتابة دون أخطاء إملائية فادحة، بل لا يعرف كثير منهم كيف يضبط النص بالفتح والكسر والضم… إلخ مما دفع زميلا لنا ظريفا إلى القول بأن الواحد من هؤلاء الطلاب يحمل مخلاة في جيبه مملوءة بما شئت من الفتحات والكسرات والضمّات والسكنات والشدّات والتنوينات، ثم إذا ما طولبوا بتشكيل نص من النصوص أخرجوا المخلاة ومدوا أيديهم فيها وكبشوا حفنة من محتوياتها ثم رشّوها كيفما اتفق على كلمات النص فتقع حركات التشكيل هنا وهناك اعتباطا، وأن هذا هو السبب في أن بعضهم قد يضع مثلا على أول حرف في الكلمة سكونا ثم يُتْبِعه على الحرف الثاني بشَدّة...وهكذا مما لا يُعْقَل لأنه مستحيل. لكن كيف يكون مستحيلا، ونحن قوم بارعون في صنع المعجزات مما لا قِبَل به للغربيين سادة العالم الآن في ميادين العلم والثقافة والإبداع؟ ألسنا نحن الذين دهنّا الهواء دُوكُو؟ ألسنا نحن الذين عبّأنا الشمس في زجاجات؟ ألسنا نحن الذين صَرَرْنا الفيل في المنديل؟ هل يستطيع أحد أن يدلني على قوم آخرين حققوا هذه الإنجازات أو نصفها أو ثلثها أوعشرها أو حتى واحدا على الألف أو على المليون منها؟ إن كل ما فعله الغربيون مثلا أنهم اخترعوا القطارات والسيارات والغواصات والقنابل والصواريخ وسفن الفضاء والحاسوب والمِشْباك (النِّتّ) وما إلى هذا مما لا إعجاز فيه لأنه يخضع للقوانين التي يسير عليها الكون، أما نحن فنأتي بالمستحيل الذي لا يستطيعه أحد سوانا من البشر! إلا أنني ينبغي أن أضيف أن الأغلبية الساحقة أيضا من الطلاب في أي تخصص لا يفترقون عن طلاب أقسام اللغة العربية في الضعف العلمي. فالشكوى عامة بين الأساتذة من أن الطلبة لا يهتمون بما يتلقَّوْن من علوم ودروس، وأن كل همهم هو النجاح في الامتحان والحصول على الشهادة من أي طريق، ولهذا تراهم لا يبذلون الجهد المطلوب ولا يقرأون شيئا إلا في الشاذ النادر. وكنت اليوم في زيارة لصديق مريض في المستشفى، ومررت في طريق العودة ببائع للكتب القديمة أعرفه فتوقفت عنده لأشترى بعض ما أجدني بحاجة إليه منها، وأخذت أسأله كعادتي عن مدى إقبال طلاب الجامعة التي يقع جَوْسَقه على الرصيف المواجه لها، فجاءت إجابته على ما توقعت من أنهم لا يكادون يقرأون شيئا، اللهم إلا إذا كلفهم الدكتور ببحث، فإنهم عندئذ يأتون فيسألونه عن الكتب التي يمكن أن يجدوا فيها ما ينقلونه في هذا البحث. أقول: "ينقلونه"، لأن البحث عندهم لا يعنى أكثر من نقل بضع صفحات من هذا الكتاب أو ذاك دون فهم: نقلها نقلا كله أخطاء إملائية ودون أية إضافة شخصية!

فالعيب يقع أساسا في هذه المنطقة، منطقة اللامبالاة بالقيم الثقافية والعقلية وكذلك الترهُّل الذهني والذوقي. ودعنا من حكاية ارتفاع سعر الكتاب، فالعرب ليسوا كلهم فقراء، وهم جميعا، سواء منهم الفقراء والأغنياء، حريصون على اقتناء أدوات الحضارة الحديثة مهما كانت غالية الثمن. ثم هاهي ذي إصدارات "مكتبة الأسرة" مثلا في مصر تباع بأسعار زهيدة، فهل تغير المصريون وأضحَوْا أكثر حُبًّا للقراءة؟ أستطيع أن أجيب بملء يقيني على ذلك السؤال بالنفي، وإلا فأين موضع المكتبة في البيت المصري؟ إن المكتبة عندنا، إن وُجِدَتْ، ليست في معظم الأحوال أكثر من مكان توضع فيه التحف وجهاز المِرْناء وبعض الدباديب، وكان الله يحب المحسنين! ترى كيف يمكن أن يسيطر على لغته القومية من لا يقرأ شيئا في هذه اللغة ولا يستطيع أن يتذوق روائعها بل لا يبالي بأن يتذوق هذه الروائع، وإذا حدثتَه عنها كنتَ كمن يتحدث عن إحدى غرائب واق الواق؟ على أن هذا لا يعنى أن المنهج الذي تعلَّم به اللغة العربية هو منهج سليم، فالواقع أن أساتذة النحو غالبا ما يحصرون أنفسهم في دائرة المعلومات النظرية، فترى الطلاب لهذا يحفظون القواعد حفظا، وقد يستطيع بعضهم (بعضهم فقط) أن يُعْرِبوا ما يُطْلَب إليهم إعرابه من كلمات أو جمل، لكنهم لا يقدرون مع هذا أن يقرأوا أو يكتبوا على نحوٍ صحيح! كذلك فدروس النحو والصرف محشوة بالتفصيلات التي قلما تفيد عارفها في ميدان الواقع. وأنا أزعم أن مجموعة القواعد التي يحتاج إليها الشخص العادي لكي يكتب ويقرأ على نحو سليم ليست بالكثيرة ولا المرهقة. والمهم هو الاهتمام بالدروس التطبيقية التي يردد فيها الأستاذ الأمثلة الأساسية في كل درس، ويظل الطلاب يكررونها بعد ذلك في المدرسة والجامعة والبيت قراءة وكتابة حتى تنطبع في آذانهم وأيديهم وأذهانهم وتنطلق بها ألسنتهم وأقلامهم كأنها سليقة فيهم. والمهم أيضا أن يقتنع الطالب بأن اللغة قيمة قومية ودينية وثقافية واجتماعية تستحق أن يبذل فيها الجهد والتعب، أما قبل ذلك فكلا وألف كلا. ولقد كنت أفعل هذا منذ صباي أنا وزميل لي أصبح الآن أستاذا في الجامعة مثلي حتى أتقنّا لغتنا مبكرا دون أن نجد حولنا من يأخذ بأيدينا، بَيْدَ أن تحمّسَنا لهذه اللغة وأدبها وطموحَنا من البداية إلى أن نكون من الكتاب والأدباء كان نعم المعين! وقد كان هذا هو نفسه الأسلوب الذي جريت عليه مع الطلاب حين عُهِد إلىّ، في أواسط السبعينات من القرن البائد، أن أدرّس للطلاب، وأنا لا أزال مدرسا مساعدا، مادة التدريبات النحوية رغم عدم تخصصي في النحو أصلا، فكان اهتمامي كله تقريبًا منصبًّا على التطبيقات وعلى تمرين الطلاب على القراءة والكتابة الصحيحة. وقد أثمر هذا الأسلوب مع عدد منهم أصبحوا بدورهم فيما بعد دكاترة في الجامعة، على عكس الباقين الذين لم يكونوا مهتمين بالأمر، فإنهم لم يستفيدوا كثيرا كما لا أحتاج أن أقول. أما الآن فإن الغالبية الرهيبة من الطلاب لا تريد أن تبذل أي جهد حتى إنهم لا يفكرون مثلا في الرجوع إلى المعجم، بل لا يعرفون كيف يستعملونه إذا حدثت المعجزة وبدا لهم أن يستفسروا عن معنى كلمة من الكلمات، فيأتون إلينا ويسألوننا عما يريدون. فإذا نبهناهم إلى أنهم ينبغي أن يرجعوا بأنفسهم إلى هذا القاموس أو ذاك أخذوا ينظرون إلينا في استغراب بل في بلاهة وكأننا نحدثهم عن عجيبة من عجائب الحياة! والغريب أن هؤلاء الطلاب أنفسهم إذا ما ألقت الأقدار بواحد مثلى في طريقهم بعد تخرجهم واشتغالهم ببعض الحرف أو الصنائع التي يلجأون إليها في هذا العصر الممتلئ بالبطالة فإنهم يستطيعون بمنتهى السهولة خداعي أنا الذي أظن نفسي ذكيا، ويلعبون بي وبأسلافي بعبقرية شيطانية عجيبة كما يلعب الحواة بالبيضة والحجر! والسؤال هو: كيف قد صاروا أذكياء على هذا "النحو" يا ترى، وهم الذين لم يكونوا يفهمون شيئا في "النحو"؟ إنها كراهية العلم، والبراعة مع ذلك في الفهلوة وشغل الثلاث ورقات! إنهم أبناء مجتمعهم وبيئتهم! وللتفكهة أذكر أن أحد أساتذة النحو المشهورين كان قد ألف مذكرة في تلك المادة سماها: " تحفة الطلاب، في النحو والإعراب"، فكنت، لشدة ضيقي بمستوى الطلاب المتدني والمخجل في لغتهم، أقترح عليه أن يغير تسميتها إلى "ضَرْب القبقاب، في رؤوس الطلاب"، فيضحك حتى يستلقي على قفاه!

وهنا أود أن أوضح شيئا، ألا وهو أن الخطأ سيظل ملازما لكل من يتحدث اللغة الفصحى رغم ذلك، لا لعيب في هذه اللغة بل بسبب الطبيعة البشرية التي لا تنفك عن الخطإ مهما حاولت التحرز منه. وقديما قال رسولنا الأعظم: " كُلّ بنى آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون". والتوبة من الخطإ في هذا المجال تكون ببذل مزيد من الجهد في مراجعة القواعد وفى تطبيقها في الكلام والكتابة. وهذا الكلام لا يقتصر على فصحانا وحدها بل على كل فصحى، ومنها فصحى الإنجليزية والفرنسية والألمانية التي أخشى أن يكون حديث الأستاذ الشوباشي عن تفوق أهلها في استعمالها قد أوحى للقارئ أنهم لا يخطئون فيها كما نخطئ نحن في فصحى لغتنا الأم! كذلك أود أن ألفت النظر إلى أن الخطأ في استخدام اللغة لا يقتصر على المستوى الفصيح فحسب، بل ينسحب أيضا على المستويات العامية. كل ما في الأمر أننا، بسبب عدم وعينا بقواعد العامية، ولأن الأحاديث اليومية التي نستخدم فيها اللهجات العامية ليست مناسبات رسمية، لا نلتفت للخطإ فيها، وبخاصة أننا لا نبتغي فيها المتعة والأناقة كما في الفصحى، بل نكتفي منها عادةً بمجرد التفهيم وتوصيل الفكرة التي نريد الحديث عنها بأي سبيل. بالضبط مثلما لا نلتفت لخطإ من تخطئ في المشي، بينما نتنبه بحدةٍ لمن تخطئ في حركات الرقص مثلا، ومثلما لا نلتفت لإهمال المرأة في لبس مباذل البيت، على حين تكون أعيننا مُفَنْجَلَة لأي تقصير في طريقة ارتدائها لملابس السهرة... إلخ. إننا في الواقع لا نكف عن البابأة والتأتأة والفأفأة والتلعثم والتردد وقطع الجملة قبل تمامها واستخدام الكلمات في غير موضعها واللجوء إلى كثير من جمل الحشو لملء الفراغات في أحاديثنا العامية اليومية، وكثيرا ما نخطئ أيضا في نطق هذا اللفظ أو ذاك، وتركيب هذه الجملة أو تلك، بيد أننا لا نتنبه لذلك ولا نلقى إليه بالا لأن اللهجة العامية لا علاقة لها بالرسميات ولا يُقْصَد بها إلى الإمتاع، وليست لها في أذهاننا قواعد واضحة كالفصحى نضعها نصب أعيننا لنتحاكم إليها. ويوم تصبح رسميا، لا قدر الله، هي لغة الكتابة والمحاضرات والندوات والصحافة والإذاعة وندرس قواعدها في المدارس والجامعات، فعندئذ سوف نتنبه لما نقترفه فيها من أخطاء! وكل هذا رغم أننا لا نكفّ لحظة عن استعمالها، على عكس الفصحى التي لا تستخدم إلا في التأليف والمحاضرات والندوات والخطب وما أشبه! وبالمناسبة فقواعد العامية كثيرة ومعقدة على عكس ما نظن. أقول هذا من واقع قراءتي لقواعد بعض اللهجات العربية، ومنها لهجتنا المصرية التي أذكر أنى راجعت آجُرّوميّتها، أيام أن كنت أدرس للحصول على درجة الدكتوريّة في بلاد جون بول، في كتاب وضعه أحد الضباط الإنجليز على عهد الاحتلال البريطاني لمصر يقع في عدة مئات من الصفحات الممتلئة بكثير من التفصيلات والاستثناءات التي ليس لها ضابط، مما يسبب للذهن الدوار... وهَلُمَّ جَرًّا.

وحجة كاتبنا في المناداة بالتغيير الذي يدعو إليه هي أن العربية الفصحى لم تتطور قواعدها منذ خمسة عشر قرنا بحيث لم تعد ملائمة للتعبير عما نريد في عصرنا هذا(ص 13، 55، 71)، بل إنه ليدّعِى أن العرب قد هجروا فصحاهم تماما(ص 135). وإنا لنسأله: متى وكيف عجزت اللغة الفصحى عندنا عن مجاراة العصر أو التعبير عن أية فكرة أو عاطفة نريد التعبير عنها؟ هاهي ذي الكتب تصدر في بلاد العرب في كل التخصصات مكتوبة بالفصحى، ولم نسمع أن أحدا قد شكا من أنه عاجز عن التعبير من خلالها عما يريد لا في الفلسفة ولا في الطب ولا في الجيولوجيا ولا في الكيمياء ولا في الطبيعة ولا في القانون ولا في الاقتصاد ولا في السياسة ولا … ولا… رغم أننا لسنا فاعلين حضاريا في هذه الطور المخزي من تاريخنا بل مجرد متلقين في معظم الأحوال. فما بالنا لو أننا كنا من المبدعين مثل أسلافنا في أيام عز الحضارة العربية حين كان العالَم يتعلم على أيديهم ويفتح آذانه وأعينه وقلبه لما يقولون؟ ثم هاهو ذا كاتبنا نفسه قد ألف كتابه بهذه الفصحى التي ينعى عليها عجزها وتخلفها! أليس هذا هو التناقض بعينه؟ ومن قبل ردد سلامة موسى هذه الفرية التي افتراها جماعة من المبشرين والمستشرقين ممن يسوؤهم أن يَرَوُا القرآن أمام أعينهم فهم يعملون بكل ما عندهم من كيد وخبث على محوه عن طريق تدمير اللغة التي نزل بها، وهى اللغة الفصحى. وكان سلامة موسى، ومن قبله بعض شياطين الاستشراق والتبشير، يَدْعُون بدعوتهم الإبليسية مستخدمين هذه الفصحى التي يزعمون بشأنها المزاعم والأباطيل! والذي قرأ سلامة موسى يعرف أنه كثير الكتابة في موضوعات العلوم الطبيعية والنفسية والفلسفية الحديثة، فبأية لغة يا ترى كتب ما كتب في هذه الموضوعات؟ لقد كتبها بالفصحى! ومع هذا كان يردد دائما في إملال مزعج كاذب أن هذه اللغة هي لغة قديمة لا تصلح أن تكون وعاء للعلوم العصرية. فأَنَّى لنا أن نصدّق هذا السخف الفِجّ؟ ويستطيع القارئ أن يجد كلامه ذاك التافه في كتابه "البلاغة العصرية واللغة العربية"( المطبعة العصرية/ 1953م/ 49ـــ 51). إن مزاعم هذا الرجل ليس لها من معنى إلا أن اللغة الفصحى قد وردت إلينا الآن لتوّها من الماضي البعيد، وعلينا أن نستعين بها في التعبير عن علوم العصر وأفكاره وهى لا تزال بعَبَلها، أو كما كان قدماؤنا يقولون: لا تزال بعُجَرها وبُجَرها! وكأنها ليست ذات تاريخ طويل مرّت فيه بتطورات هائلة جعلتها في كل مرحلة من مراحله قادرة تمام المقدرة على التعبير عن كل ما يريد منها أصحابها لم تخذلهم يوما! ومما قاله ذلك الرجل أيضا في معرض الزراية على الفصحى والتنفير والتحقير منها بصريح القول ودون أية تورية أو تجميل أن اللغة عند زكي مبارك وابن عربشاه والحكومة المصرية "ليست لغة الديمقراطية والأتومبيل والتلفزيون بل هي لغة القرآن وتقاليد العرب"(المرجع السابق/ 54). وكان كلامه هذا تعليقا على قول زكى مبارك (والعهدة عليه) إن المرأة لا تستحق إلا الضرب بالحذاء، وعلى استنكار المؤرخ المسلم ابن عربشاه لخلوّ مراسلات جنكيز خان من عبارات التبجيل والتفخيم التي كان يجرى عليها الإنشاء الديواني في عصور التخلف الأدبي، وعلى ما يقوله هو من أن الحكومة المصرية عندما أنشأت كلية دار العلوم لم تسمح للنصارى بالالتحاق بها. فانظر كيف جاءت إشارته إلى القرآن في هذا السياق المسيء الذي يراد منه اتهام كتاب الله العظيم بأنه يناقض الديمقراطية والعلوم العصرية والتسامح الديني واحترام المرأة! وانظر كذلك إلى هذه اللدغة السامة في دعواه الكاذبة بأن العربية التي وصلتنا عن آبائنا وجدودنا غير صالحة للتعامل مع المعارف العلمية الحديثة، إذ يقول: "لم يكن المجتمع العربي القديم يعيش على المعارف والمنطق إلا في أقله، وكان يعيش على العقائد والغيبيات في أكثره، ولذلك يشقّ علينا في مجتمعنا أن نؤدي المعاني للمعارف المادية لأن لغتنا حافلة بكلمات الغيبيات والعقائد دون كلمات العلوم الجديدة"(السابق/ 51). ووجه التدليس والكذب في هذا الكلام أنه يضع العقائد والغيبيات (الإسلامية طبعا، وليس غيرها) في مواجهة المعارف والمنطق. فهذه واحدة، ولست محتاجا إلى أن أنصّ للقارئ على هدفه الخبيث من وراء ذلك. والثانية أنه يتجاهل بكلامه هذا الميراثَ اللغوي العظيمَ الذي ورثناه عن عصور الازدهار العلمي من تاريخنا الحضاري في مجالات الطب والحساب والكيمياء والطبيعة والفلك والهندسة والفلسفة والجغرافيا والمنطق... إلخ. وقد نقل كاتبنا(ص 40) قول سلامة موسى عن العربية إننا "قد ورثناها من بدو الجاهلية في عصر الناقة، ويراد لنا أن نتعامل بها في عصر الطائرة"، وأبدى موافقته على هذا الحكم، وإن كان قد احترز بأنه، على عكس سلامة موسى، لا يريد استبدال العامية بالفصحى(ص 40ــ 41). ولا أدرى أي خَبَلٍ قد أصاب عقل موسى، الذي كان كثير الطنطنة بالعلم ولا يكف عن التنفج بأنه كاتبٌ عصري بل مستقبلي، فكل اللغات ترجع إلى أصول قديمة لا علاقة لها بالعلوم الحديثة، لكنها مع ذلك تتطور لتواجه المواقف الجديدة التي لم يكن لها بها عهد من قبل. أم ترى اللغات الأوربية التي يمجدها في الفاضية والملآنة قد نزلت من السماء دفعة واحدة كاملة لا ينقصها شيء إلى يوم يُبْعَثون؟ أرجو أن يرى القارئ الفاضل التواء المنطق والذهن عند من يحاربون لغتنا، وغير لغتنا أيضا!

ولبنت الشاطئ، رحمها الله، كتاب شديد الأهمية عن تطور اللغة العربية عنوانه "لغتنا والحياة" تتبعت فيه المراحل التي مرت بها هذه اللغة العبقرية منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، وكيف انفتحت لها القلوب والعقول مع انتشار الإسلام، وكيف كانت تواجه الظروف والأوضاع والمشاكل التي تقابلها وتنتصر عليها، وكيف أَثْرَتْ واتسعت ألفاظًا وتراكيبَ وصُوَرًا حتى صارت على ما هي عليه اليوم ولم تبق على نفس الوضع التي كانت عليه في الجاهلية أو في صدر الإسلام ، بل وَسِعَتْ كلَّ أنواع الفنون والعلوم. وينبغي على القارئ أن يرجع إلى هذا الكتاب كي يكون على ذكر مما حدث للغة الضاد من تطورات هائلة ومتنوعة ويتضح له تدليس من يريدون أن يبيعوا له الترام في عز النهار متصورين في أنفسهم الذكاء واللَّوْذَعِيّة، وفيه هو البلاهةَ والغباء. ترى هل يمكن لأي بكّاش أن يدعى أن اللغة التي نكتب بها اليوم هي نفسها اللغة التي كان يستعملها امرؤ القيس كما يقال عادة أو حتى لغة ابن المقفَّع أو الجاحظ أو القاضي الفاضل أو حتى لغة الرافعي أو الزيات مثلا؟ إن العربية لم تكف قطّ عن التطور، ومن يَقُلْ بغير هذا فهو إما واهم لا يدرك ما يقع حوله وإما جاهل وإما غشاش! ترى أيمكن أن يمر يوم بل ساعة بل دقيقة على أي كائن حي دون أن تعتريه التغيرات من كل نوع؟ كلا بالطبع. وهو نفسه الجواب في حالة اللغة. وردًّا على دعوى من يقول إن اللغة العربية لم تتطور نشير بسرعة إلى توارى آلاف الكلمات عن الأنظار ونشوء آلاف أخرى لم تكن موجودة فيها من قبل، واختفاء ألوان من التراكيب والتعابير والصور كانت لها شَنّة ورَنّة يوما ثم تغيرت الأذواق فاختفت أو كادت. مثلا أين يا ترى ذهب العدد الهائل من الألفاظ الرعوية التي كان العرب الجاهليون يستعملونها؟ لقد اندثرت أغلبيتها ومال الباقي على أسلات أقلامنا وعلى ألسنتنا نحن أهل الحضر إلى الاحتجاب، لأننا لم نعد نعيش في مجتمع رعوي. وبالمثل أين ذهبت الصيغ القَسَمِيّة التالية: "وَايْمُ الله، أَجِدَّك، عَمْرُك الله، وَرَبِّ الكعبة" أو تركيبات مثل: "إنْ كاد فلان لَيَفْعَل كذا، وكَرِِبَ أن يفعله، واخْلَوْلَقَ أن يصنع كيت، وجعل يصنعه، وجاء القوم أكْتَعِين أبْصَعِين، وقام الطلاب ليس/ أو لا يكون زيدا، وارتفع السحاب متى لـُجَج البحر، وأَجمِْلْ بفلانة، وإنْ كُلُّ مهاجم لمـّّا عليه مدافع"، فضلا عن كثير من صور التنازع والاشتغال المعروفة لدارسي النحو العربي المفصل، وعدد غير قليل من صيغ الأسماء والأفعال مثل: "فِعْلَلّ وفُعَلِّل وفَعَيْلَل وفَعْفَعِيل وفَوْعال وفُعَلْعَل وفِعْلِياء وفَعْلَلَى وفِعَلاّل وفَعَلَّلَى، وفَعْيَلَ وفَيْعَلَ وفَعْوَلَ وفَعْنَلَ وافْعَالَّ وافْعَنْلَلَ وافْعَنْلَى"؟ كما أننا بوحه عام قلما نستخدم الآن صيغ التصغير أو أسلوب الإغراء والتحذير. وبالمثل يندر أن يََصِف أحدنا المنادى العَلَم أو يعطف عليه اسما آخر، أو يستعمل من أدوات النداء"أي" أو "هَيَا" أو حتى الهمزة، أو يستخدم "بَلْهَ" بل نقول عادة: " فضلاً عن". كذلك فنحن نلزم في الأعلام الحديثة، والأجنبية منها بالذات، السكون في كل الأحوال، ونكتفي في عبارة "لا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلا بالله" مثلا بفتح اللام من "حول" والتاء المربوطة من"قوة" مهملين الإعرابات الباقية فلا نقول: " لا حولٌ ولا قوةٌ" أو "لا حولاً ولا قوةً"، ولم نعد نستخدم من أخوات "ظَنََّّ" الفعل "دَرَى (أحمدُ أستاذَه عالمـًا كبيرًا)" المتعدّى إلى مفعولين، أو الفعل "أرَيْتُه (العملَ قيمةً كريمةً)" المتعدى لثلاثة مفاعيل، بالضبط مثلما لم نعد نستعمل في الحال قولهم: "جاؤوا الجَمّاءَ الغفيرَ"...وهكذا. ومن ناحية أخرى فقد أخذ المجمع اللغوي بمصر بكثير من التسهيلات فلم يَرُدّ أى لفظ أو تركيب أو عبارة مستجدّة لها وجه من الصحة، ودعا إلى التوسع في القياس بدلا من العناد الحرون الذي يلجأ إليه بعض المتنطعين في اعتراضهم على اعتماد القياس في بعض الاستعمالات الجديدة بشبهة أننا ينبغي أن نلتزم بما ورد عن العرب في هذه المادة أو تلك الصيغة أو ذلك التركيب ولا نقيس على ما قالوه . وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد يكون من المناسب أن أقول إني قد أصبحت بدوري أكثر تسامحا ومرونة تجاه ما يسارع غيري إلى تخطئته بناء على أنهم لم يقابلـوا هذا الاستعمال من قبل. ورأيي في هذا الموضــوع أن من الصعب الجزم بأن التركيب الفلاني أو التعبير العلاني خطأٌ ما دام لا يصادم أصلا من أصول اللغة، إذ ثبت لي في كثير من المواقف أن الاستعمال المَقُول بخطئه ليس في الحقيقة كذلك، بل كل ما هناك أن المخطِّئ قد تسرع فحكم على ما ليس له به علم، وبخاصة أنه قد صار سهلا الآن أن يكون تحت أيدينا في دقائق معدودة كل الشواهد الشعرية أو جُلّها وكثير جدا من شواهد كتابات الفحول القدماء في الاستعمال الذي نكون بصدده بنقرات قليلة على فأرة الحاسوب، وذلك كله ببركة الأقــراص المدمجــة، وهو ما كان علماء العــرب يُفْنُون فيه الأيــام والليالي، وربما الشهور والسنين، كي يضعــوا أيديهــم على بعضه.

الرافعي
2009-10-15, 12:03 AM
وأما ما كان ينقص العربية من المعاني والمفاهيم والمصطلحات الجديدة مما كان موجودا في غيرها من اللغات أو مما توصل إليه علماؤها أنفسهم فإنها كانت تستحدثه أوّلاً بأوّل بطُرُقها المختلفة كالاشتقاق والنحت والتعريب وإضفاء المعنى الجديد على لفظة قديمة...إلخ. وبين يدي، وأنا أكتب هذا الكلام، كتاب د.عبد الصبور شاهين: "العربية لغة العلوم والتقنية"، الذي يتناول فيه الجانب اللغوي من التراث العلمي العربي وكيف استطاعت لغة القرآن أن تستوعب العلوم المختلفة في كل مرحلة من مراحل تاريخها حتى العصر الحديث، إلى جانب قضايا الترجمة وصَوْغ المصطلحات العلمية التي تحتاجها اللغة كلما هلّ عليها علم أو فن جديد. وهو ما يبين أن العربية لم تعجز يوما عن التعبير عن أي فكرة أو مفهوم علمي، على عكس ما يريد إيهامَنا به المتعجلون الذين لا صبر عندهم على التحقيق والتمحيص، أو المقلدون الحاطبون في حبال أعداء هذه اللغة ودينها. كذلك للدكتور كارم السيد غنيم كتاب في ذات الموضوع عنوانه "اللغة العربية والصحوة العلمية الحديثة" يحسن بالقارئ الرجوع إليه أيضا لأهميته الشديدة فيما نحن بصدده. فكيف يقال بهذه البساطة إن نحو لغتنا وصرفها لم يعترهما أي تطور؟ لقد تطورا، لكنه التطور الذي لا يمس جوهر اللغة وسماتها الفارقة، بل يحافظ على خطوطها العامة ويُبْقِى على شخصيتها. أما ما يريده الكاتب من تطوير فما هو في الحقيقة بتطوير بل تغيير لملامح اللغة وروحها، وهو كفيل ببتّ الصلة بيننا وبين اللغة التي عرفها أسلافنا وآباؤنا طوال الخمسة عشر قرنا الماضية أو يزيد، وكذلك الآداب والعلوم التي كُتِبَتْ بها، وقبل هذا وذاك القرآن المجيد. لماذا؟ لأنه يريد أن يلغى، وإلى الأبد، أبوابا من النحو والصرف لا غنى للغة ولا لنا عنها، أما ما توارى من الاستعمالات القديمة مما تحدثتُ عنه آنفا فإنه لم يُلْغَ، بل مازال موجودا في مستودع اللغة بحيث نستطيع أن نستخرجه متى وجدنا أننا بحاجة إليه. فهو يمثل إذن مخزونا إستراتيجيا ينفعنا وقت الضيق، علاوة على أن هناك تحت أيدينا بدائل تغنى عنه بحيث لا تفقد اللغة شيئا أساسيا منها: فـ"اخلولق" مثلا تنوب عنها "عسى"، و"إنْ...لـمّا" نستعيض عنها بـ"ما ... إلا"، و"دَرَيْتُ سعيدا وفيًّا للعهد" يمكن أن نقول بدلا منها: "تيقنت/ تأكد لي أنه وفىٌّ للعهد"، وبالمثل يمكننا أن نقول: "ما أجمل فلانة" عوضا عن" أَجْمِِلْ بها"... وهكذا. أما إذا حذفنا التثنية والتأنيث والإعراب مثلا من لغتنا إلى الأبد، فماذا نحن فاعلون عندئذ؟

ويا ليت الأمر يقتصر على هذا الذي يقترحه أ.الشوباشي، فالواقع أن كل من لا تعجبه اللغة العربية له اقتراحاته التي يريد لي عنقها إليها، فما العمل إذن؟ أنأخذ بكل تلك المقترحات؟ إذن ففي ضربة واحدة لن يبقى من قواعد اللغة التي نعرفها شيء تقريبا! أم نأخذ مقترحات البعض ونهمل مقترحات البعض الآخر؟ ولكن على أي أساس سيكون قبولنا أو رفضنا؟ لقد سبق أن نادى قاسم أمين مثلا في كتيّبه المسمَّى:" كلمات" بتسكين أواخر الألفاظ. كما نادى عبد العزيز فهمي باصطناع الحروف اللاتينية، وله كتاب في هذا الموضوع اسمه "الحروف اللاتينية لكتابة العربية". وتابعه في ذلك سلامة موسى، الذي نادى أيضا بإلغاء المثنى، وبالتذكير والتأنيث في الجمادات والمعاني والأعداد أسوة بالإنجليزية (البلاغة العصرية واللغة العربية/ 102 وما بعدها). ونادى طه حسين في كتابه "نقد وإصلاح" بأن نكتب الألفاظ كما ننطقها، وهو ما من شأنه إرباك اللغة وإملائها على السواء تمام الإرباك. وألقى أمين الخولى محاضرة عن التجديد في النحو عام 1943م نادى فيها بتنوين كل الأسماء وإلغاء باب "الممنوع من الصرف" إلى غير رجعة، وإعراب المثنى بالألف دائما، وإلزام "أبوك وأخوك" الواو باستمرار، وإجراء جمع المذكر السالم في كل أحواله مجرى كلمة "حين"، أي بالياء والتنوين مثل الاسم المفرد. ويمكن قراءة هذه المحاضرة في كتابه "مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب". وقبل هذا كله نادى بعض المستشرقين والمبشرين، مثل ولهلم سبيتا وسلدين ولمور ووليم ولكوكس، بهجران الفصحى واستبدال العامية بها، وتابعهم في هذه الدعوة المشؤومة بعض العرب من مسلمين ونصارى: ومنهم عثمان صبرى، الذي ألف في ذلك بحثين على الأقل وطبق دعوته في روايتين كتبهما على النحو الجديد الذي اقترحه بلغة متكلفة مصطنعة، ولويس عوض، الذي كتب "مذكرات طالب بعثة" بلغة لا ندرى من أين أتى بها، لأنها لا تشبه أيا من العاميات التي نعرفها، وسعيد عقل الصليبي اللبناني الذي كان يريد، لا تَرْك الفصحى فقط، بل إحياء النزعة الفينيقية أيضا من بعد أن أجحمها الله... ترى ما الذي يبقى من لساننا العبقري بعد هذا كله؟ وما سر هذه الدعوات المحمومة التي انطلقت أول ما انطلقت من قِبَل المستشرقين والمبشرين؟ إنهم يزعمون أن الفصحى لا تستطيع استيعاب العلوم الحديثة أو التعبير عنها؟ فهل يا ترى تستطيعه اللهجات العامية المتخلفة التي لا تاريخ لها على الإطلاق في مجال الآداب أو العلوم أو الفنون، اللهم إلا بعض الأزجال قديما في الأندلس، وهذه الأغاني والمسرحيات التي نسمعها في المذياع أو نشاهدها على المسرح أو في المرناء في عصرنا الحالي، ثم الأمثال الشعبية، وهذا كل ما هنالك؟ ثم ما القول في هذه الآلاف المؤلفة من الكتب والبحوث والمقالات والدراسات والمحاضرات والأحاديث العلمية التي صبها أصحابها في قالب الفصحى ولم يَدُرْ في خَلَدهم للحظةٍ أن يكتبوها بالعامية؟ أَوَعلينا أن نلغي عقولنا ونصدق هذا التدليس؟ إن مثل هذه الشبهات لا تجوز على أي شخص له عقل في رأسه.

والآن نريد أن ننظر فيما قاله كاتبنا لنناقشه. ولكن لا بد أولا من إيضاح نقطة على جانب كبير من الأهمية، فقد يستغرب بعض القراء موقفي هذا الذي يبدو متشددا ويتصورون أنه مبالغة في الخوف مما لا مخافة فيه. والواقع أن المسألة ليست كما تبدو للعيان، إذ إن هذه الخطوة التي يدعونا المؤلف إلى اتخاذها هي بمثابة خلع الطوبة الأولى في الجدار، التي إن تم خلعها كان خلع الأحجار الباقية أسهل شيء في الوجود كما هو معلوم، فمعظم النار من مستصغر الشرر، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. وهناك مثالان قريبان جدا خبرتهما بنفسي، إذ صدر منذ عامين كتاب يحمل فيه صاحبه على سيبويه ويدعو إلى نبذ الإعراب والفصحى والاستعاضة عنها بالعامية، وفكرتُ في كتابة رد عليه رغم أن أحدا لم يسمع به من قبل ورغم ما يعكسه الكتاب من جهل مبين وتهور أحمق. وكان رأى بعض من عرفوا بنيتي أنه لا داعي لأن أشغل نفسي بشخص مثله ليس على شيء من العلم. إلا أنني كان لي رؤية أخرى، فقد تنبهتُ إلى مغزى أن تنشر له كتابَه التافهَ دارُ نشرٍ كبيرةٌ مشهورةٌ وفى حلةٍ جذابةٍ فاخرة، وأن يكتب عنه بعض الصحافيين واصفا إياه بأنه حلقة في سلسلة اللغويين الكبار بدءا بابن جنى، وانتهاء بإبراهيم اليازجي. المهم أنني، بعد أن أصدرت بعدة أشهرٍ كتابي "دفاع عن النحو والفصحى ـــ الدعوة إلى العامية تطلّ برأسها من جديد"، الذي فنَّدْتُ فيه الهراء الماسخ الذي هرف به صاحبنا، علمت من أحد الأصدقاء أن ذلك الجاهل المتهور قد أصدر كتابا آخر يهاجم فيه كتب الأحاديث والمحدّثين، على الرغم من أنه كان حريصا، أثنـــاء هجومه على النحو وسيبويه، أن يطمئننــا بأن دعوته لا تَمَسّ الدينَ بأي سوء. وهاهو ذا الدين قد مسَّه هو نفسه لا سواه من خلال إنكاره الأحاديث النبوية التي تمثل المصدر الثاني للتشريع في الإسلام ، ولم تمرّ على طمأنته الكاذبة لنا إلا سنتان اثنتان لا غير. والبقية تأتى! كذلك كنت قد لاحظت، في ثمانينات القرن الماضي، ما يكتبه خليل عبد الكريم من مقالات في جريدة "الأهالي" يدعو فيها إلى وجوب النأي بالدين عن ميدان السياسة والاقتصاد والاقتصار منه على جوانب العبادة والأخلاق حفاظا على قدسيته وطهارته كما يقول هو وأمثاله، وكأن الدين لم ينزل لتطهير السياسة والاقتصاد مما يخالطهما من رِجْس، بل لنلفّه في ورق سلوفان ونضعه على الرفّ كي نمتِّّع أبصارنا به أو لنبلّه ونشرب منقوعه على الريق. ثم وجدتُ بعد ذلك بقليل أنه شرع يلمز هذين الجانبين أيضا، لِيُثنِّىَ بالتنقص من الصحابة، مع بعض الخبطات من تحت لتحت في شخص النبي عليه السلام، وهو ما استفزني للرد عليه وإظهار جهله ونياته السيئة في كتابي "اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة". ثم كشف الرجل الغطاء تماما عن مقاصده وظهر كتاب باسمه يقول فيه عن سيد النبيين والمرسلين إن خديجة بنت خُوَيْلِد وورقة بن نوفل هما اللذان أعدّاه للنبوة وصنعاه صناعة، وإن خديجة قد "صَنْفَرَتْه وقَلْوَظَتْه" (هكذا بالنص على أسلوب الحُوذِيّة والحشاشين)، فدفعني هذا مرة ثانية إلى الرد على قلة الأدب تلك في كتاب بعنوان "لكنّ محمدا لا بَوَاكِي له" عبّرت فيه عن شكي القوى في أن يكون مؤلفه شخصا ينتمي إلى أسرة مسلمة مهما يكن رأيه الحقيقي في دين محمد، ورجَّحْتُ، بناء على أسبابٍ رأيتُها جِدّ وجيهة، أن يكون وراءه مبشر رقيع يتنقّب بالاسم المذكور على الغلاف، برضا صاحبه طبعا! ثم هاهو ذا مؤلفنا، على رقته ودماثة نفسه كما قلت، قد وقعتُ له على عبارة عارضة، لكن لها دلالتها الخطيرة، إذ وجدته يقول في الصفحة المائة والعشرين، زاريا على من سماهم "الذين يفرضون مرجعياتٍ سَلَفِيّةً لكل قضايا المجتمع ومشكلاته المستعصية"، إنهم "يقحمون الدين الحنيف في كل شيء. ليس في السياسة فقط، لكن في التعاملات اليومية والعلاقات الاجتماعية والقوانين وقواعد السلوك العام". ترى يا الهي ما الذي يتبقى من "الدين الحنيف" بعد أن ننحّيه عن ميدان السياسة والقوانين والسلوك العام والعلاقات الاجتماعية؟ أسيظل بعد هذا "دينا"، و"حنيفا" أيضا؟ إننا نشمئز من شرب الخمر ومن لحم الخنزير والزنا واللواط والسحاق والتعامل بالربا بسبب نهي الشريعة المغلظ عنها، ونحترم الكبير ونصل الرحم ونغض البصر عن التطلع إلى النساء ونأكل بيمنانا ونسمي الله عندئذ ونحمده بعد الفراغ من الطعام لأن ديننا قد حث على ذلك، ونستهجن تبرج المرأة أو تشبُّهها بالرجال أو تشبُّه الرجال بها لأنه غير مقبول في دين محمد، ونستحرم الربا لأنه ممنوع في القرآن والسنة، وقوانيننا في الزواج والطلاق والميراث مثلا مستقاة من الإسلام...وهكذا. فهل يريد المؤلف منا أن نلقي كل هذه الأوامر والنواهي وراء ظهورنا أم ماذا ؟

الرافعي
2009-10-15, 12:04 AM
والآن مع مقترحات أ.الشوباشي: وأول شيء نقف عنده ما قاله بشأن المفعول به، ونصّه: "ولعل من أبرز أسباب تعقيد العربية ووقوع الغالبية في شرك الخطإ هو المفعول به. والمشكلة أن المفعول به في العربية لا يُعْرَف من مكانه في الجملة، وإنما من إعرابه، وبالتالي من تشكيله. وأرى أنه من الأقرب إلى المنطق أن نقول مثلا: "رأيت رجلْ طويلْ يأكلْ خبز" بدلا من "رأيت رجلا طويلا يأكل خبزا". والسبب الوحيد الذي يجعلنا نتمسك بالمفعول به "مُنَوَّنًا" هو أننا ورثناه من نحاة العصور السالفة وأصبح مألوفا لآذاننا. لكنه من غير المنطقي أن نقبل هذا السبب ونستكين لثقافة الأذن. وإذا قلنا: "رأيت رجلْ طويلْ يأكلْ خبز"، فهل يؤدى هذا للقارئ أو المستمع أى التباس في المعنى؟ وبغير مكابرة فإن الغالبية العظمى يخطئون في المفعول به عند الكتابة، كما أنهم لا يفهمون معنى بعض الجمل غير المشكَّلة بسبب ذوبان المفعول به وسط مفردات الجملة حيث إن تركيبة اللغة العربية لا تحدد له مكانا محسوبا ومعروفا سلفا"(ص172).

وتعليقي على هذا هو أن المسألة التي يتكلم عنها الأستاذ غير مقصورة على المفعول به، بل تشمل تقريبا كل الأسماء والأفعال المضارعة أيضا، إذ إن وظائف الكلمات في لغتنا لا تتضح أساسا إلا بضبطها. كما أنني لا أفهم تخصيصه "التنوين" بالذات باعتراضه، والمفعول به وغير المفعول به لا ينوَّن في جميع الحالات كما هو معروف؟ فهذا دليل آخر على أن المسائل في ذهنه غير واضحة. أما بالنسبة لثقافة الأذن التي يعدّها من عيوب العرب فعلينا أن نلاحظ أنه يتكلم، لا عن عرب الجزيرة وحدهم، بل عن المصريين والعراقيين والشوام والمغاربة والسودانيين ، فهل هؤلاء جميعا ثقافتهم أذنية مع أن أغلبهم لم يكونوا يوما أميين يعتمدون في آدابهم ومعارفهم على الأذن والحفظ والمناقلة الشفوية بالمعنى الذي نقصده حين نتكلم عن العرب الأصلاء أيام الجاهلية؟ وحتى بالنسبة للعرب الأصلاء، أيظن أنهم ظلوا لا يتطورون حتى بعد أن أصبحوا سادة الدنيا في العلوم والآداب؟ لقد كان الأوربيون إلى قرون قليلة خلت متخلفين ومتوحشين بطريقة مزرية، وكان العرب الذين لا يعجبون مؤلفنا الآن يسخرون منهم ومن جهلهم وخشونتهم. فهل نظل ننعتهم بأنهم متوحشون أميون إلى أبد الآبدين؟ ثم ما العيب في الاعتماد على الأذن فيما ينبغي الاحتكام إلى الأذن فيه؟ إن التنوين، بلا شك، يضفي على الكلمة موسيقية يجعلها أجمل وأقدر على غزو القلوب، فهل نتخلى بهذه البساطة عن التنوين، وبخاصة أن آذاننا، كما تقول، قد ألفته؟ إن اقتراحك هذا يذكرني بالتركي الذي اشترى بعض القُلَل ووضعها أمام بيته، ثم جلس إليها، وكلما مر أحد السابلة من خلق الله الغَلابَى من أمثالي ومدّ يده إلى واحدة منها ليبلّ ريقه الناشف أسرع التركي فنهره قائلا، وهو يشير إلى قُلَّة أخرى بعيدة: "اترك هذه، واشرب من تلك!". طيب! ثلاثة أيمان بالله العظيم يا أستاذ شوباشى ما أنا شارب إلا من القُلّة التي أُحِبّ، والذي تريد أن تعمله، اعمله!

إن المعيار الذي تتخذه هنا هو أن تؤدى الكلمة المعنى، والسلام. لكن من قال إن هذا معيار سليم في كل الأحوال؟ ترى لماذا جئتَ لابسًا بدلةً ورباط رقبة وكنت على سِنْجَة عشرة يوم تسجيل الحلقة التلفازية الخاصة بمناقشة كتابك؟ لقد كان يكفي أن تلبس مثلي قميصا وسروالا. لا، بل إنه ليكفي أن يضع الواحد منا خرقة على جسمه إذا أراد الخروج للشارع! لا، بل إنه ليس للخرقة أي داع في أوقات الحر، ولْيخرج الواحد منا كما ولدته أمه، على الأقل لنوفر العملة الصعبة التي نشترى بها آلات الغزل والنسيج أو التي نشترى بها الملابس الجاهزة حتى لو كانت من المنتوجات الصينية التي أسعارها في متناول أي كحيان عدمان، وأنت سيد العارفين بأن بلادنا في حاجة إلى كل دولار نُدبِّقه كي يهبش الملايينَ أي لص من خريجي مدرسة " خذ الفلوس واجْرِ" من شاكلة المرأة الحديدية! (المرأة الحديدية من الطبعة المصرية لا الإنجليزية من أمثال مسز ثاتشر، التي ظُفْرُها برقبة ألف ممن يُسَمَّوْن بـ"الرجال" من العالم السَّكّة الذي يدعونه: "العالم الثالث" رغم كراهيتي الشديدة لها ولعنجهيتها ولوقوفها ضد قضايانا). ومرة أخرى أقول: لماذا يا ترى نحرص في الحفلات والمناسبات السعيدة على تزيين المائدة عندما نجلس إلى الطعام، وعلى إضاءة الشموع الخافتة بدلا من الثريا التي اشتريناها بالغالي ودفعنا فيها شيئًا وشويّات، وعلى تشغيل موسيقى هادئة من النوع الكلاسيك التي يغرم بها من لا يعجبهم من المثقفين "نِصْف لبّة" موسيقانا من عزف خالد الذكر المعلم حسب الله حتى يقال عنهم إن ذوقهم أوربي، ويقوم على تقديم الطعام لنا جرسونٌ أنيق يرتدى بابيونة في رقبته وينحني في كل مرة بأدب يفقع المرارة بل يفلق الحجر، واضعا طَبَقًا وراء طبق وعلى راحته تماما (ولماذا العجلة؟ هل سيفوته ا لقطار؟)، ونحن نبتسم له رغم أن عصافير بطوننا لا تكفّ عن الزقزقة وتود لو نَزَلَتْ على الطعام "حَتَتَك بَتَتَك" غير مبالية بهذا الذي يسمونه: "الإتيكيت"، لعنة الله عليه؟ ألم يكن يكفى أن يُدْلَق الطعام على الأرض دَلْقًا، وعلى كل من يريد أن يأكل أن ينبطح على بطنه ويلعقه كما تفعل القطط مثلا؟ ألم نكن سنشبع؟ أم كان الطعام سيقول: لا؟ ولماذا كذلك الرقص والغناء؟ ألا يكفى أننا نمشى ونتكلم ونصيح؟ ألا بد من الحركات والأصوات الموقَّعة؟ ولماذا كل هذه القواعد الكثيرة المعقدة التي يتحكم بها أهل الفيفا في لعبة الكرة ؟ لقد كان الناس قديما يلعبونها كيفما اتفق فيركل الواحد منهم الكرة أو خُصْيَتَي غريمه: لا يهم! كُلّه ماشٍ! وكان الذي ينكسر من اللاعبين أو حتى يموت يروح في ستين ألف داهية دون أن يسأل عنه أحد أو يدفع له دية، فما الذي جعل خبراء الفيفا يحشرون أنوفهم في أمور الكرة ويحرمون الناس من الحرية التي كانوا يتمتعون بها في ممارستها؟ إنها الحضارة، كما تعرف، والرغبة عند أهل الذوق الراقي في المتعة يا أستاذ. ولكنك تتجاهل ذلك عند مناقشتك لأمور النحو العربي! وأرجو ألا يقول لي أحد: وهل أوربا غير متحضرة، وليس عندها إعراب؟ فجوابي جاهز، وهو أن هذه مسألة أذواق، وهم لهم ذوقهم، ونحن لنا ذوقنا، مثلما لهم نبيهم، ولنا نبينا، وكل من له نبي يصلى عليه! وفوق ذلك فالإعراب في لغتنا يعطيها مرونة عجيبة في بناء الجملة لا تتوفر في أية لغة أخرى، فترانا نقدّم ونؤخّر، ونحذف ونَذْكُر حسبما تقتضيه البلاغة. كما أن التشكيل جزء أصيل في الإملاء العربي، على الأقل لإزالة الالتباس كما لا بد أن يكون القراء قد لاحظوا ذلك فيما أكتب، وإن كنت أسرف قليلا في هذا السبيل. أما اللغات الأوربية التي ترى أنها هي المثال الذي ينبغي أن نحتذيه فهي لغات متيبّسة الحركة كالذي في رقبته خشونة أو غضروف، فهو لا يستطيع أن يتلفت براحته، بل عليه أن يظل ناظرا قدامه، أو كالقطار الذي لا يمكنه إلا أن يجرى فوق القضبان وإلى الأمام فقط آخذا كل شيء في وجهه، لكن ليس على طريقة قطار كَفْر الدوّار الذي دخل في البيوت والدكاكين وحصد من الأرواح ما لا أعرف عدده الآن. أتذكرونه؟ والله إني لحزينٌ وآخذٌ على خاطري منك كثيرا يا أستاذ شوباشى، فأنت ابن الرجل الذي أمتعنا، ونحن شبانٌ، بأسلوبه العذب الذي يغزو القلوب غزوا سواء في ذلك مؤلفاته أو مترجماته. لا عليكِ يا لغتنا العبقرية الفاتنة! غدًا، حين نزيح غُمّةَ التخلف والكسل عن كواهلنا وسوادَ خزيه عن وجوهنا، يأتيكِ من يقدّر جمالك وأناقتك وسحرك ودلالك وأصالة البيت الذي أنت منه ويدفع فيك المهر الذي تستحقين! صحيـح: لم يجـدوا في الورد عيبا فقـالوا له: يا أحمـر الخـدين!