و في سن الصبا و إلي سن الثانية و العشرين من عمره كان أبو حنيفة النعمان يشتغل بتجارة الحرير مثل أبيه … وبجانب ذلك كان يحضر حلقات العلم في المسجد في بعض الأحيان النادرة مثل عامةالمسلمين إلي أن إستوقفه يوما الفقيه (إبراهيم الشعبي ) و قد رأي فيه ذكاء و لمح وراء ذكاءه عقلا علميا و قد نصحه الفقيه بقوله
(لا تغفل و عليك بالنظرفي العلم و مُجالسة العلماء فاني أري فيك يقظة و حركة ) .

و وقعت نصيحة الشعبي موقعا طيبا من قلب أبي حنيفة و ترك أمر متجره إلي شريكه و اكتفى بمراجعته و الإشراف علي عمله من خلال ذلك الشريك و يفرغ جل وقته للتردد علي حلقات العلم… كان عُمر أبو حنيفة النعمان حين جلس إلي أستاذه حماد بن سليمان في مسجد الكوفة إثنين و عشرين عاما و قد عرف قدراً من النحو و الأدب و الشعروالحديث و قدراً اكبر في علم الكلام و استفاد بعد أن صار فقيها من قدرة علماء الكلام في المناقشة و الحوار و الجدل و ضرب المتشابهات في القياس… عليماً في فهمه لأصول الدين،و مجادلته لأهل الفرق حين يدخلون عليه مسجد الكوفة و هومنصرف إلي الفقه ابتغاء إحراجه و تكفيره في أصول الإعتقاد ولزم أبو حنيفة أستاذه حماد ملازمة تامة حتى مات بعد ثماني عشر سنة.


و مع ملازمة أبي حنيفة لحماد فقد جلس إلي غيره من الفقهاء والمحدثين و خصوصا التابعين الذين اتصلوا بالصحابة و كانوا ممتازين في الفقه والاجتهاد فتلقي عنهم فقه عمر بن الخطاب و فقه عبد الله بن مسعود وفقه عبد الله بن عباس تلقاه عن أصحابهم من العرب و الموالي .


وكان أبو حنيفة كثير الرحلة إلي بيت الله الحرام حاجاً و لذلك كان يلتقي في مكة و المدينة بالعلماء و منهم كثيرون من التابعين و كان لقاؤه بهم لقاءً علميا يروي عنهم الأحاديث و يذاكرهم الفقه و يدارسهم ما عنده من طرائف وكانوا من مدارس مختلفة .


و لما توفي حماد أستاذ أبي حنيفةعام 120 كان أبوحنيفة في سن الأربعين وإثر وفاته أجلسه تلاميذ حماد و رفاقه في مجلس شيخه و شيخهم بمسجد الكوفة،و راح أبوحنيفة يدارس تلاميذه من الرفاق السابقين والقادمين الجدد ما يعرض له ولهم من فتاوي فقد كان يؤثر مشاركة الغير له في البحث عنالحق ويقيس الأشياء بأشباهها، و الأمثال بأمثالها،بعقل قوي و منطق سديد حتى وضع بهم و معهم الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي (طريقةالقياس و الرأي ) .

لم يكدأبو حنيفة النعمان يجلس في مجلس شيخه حماد بمسجدالكوفة فقيهامفتيا حتى قامت ثورات العلويين ضد الأمويين و كانت عواطف أبي حنيفة كإنسان و فقيه مع العلويين المضطهدين من بني أمية و استغرقت هذه الثورات عشر سنوات عاني فيها العلويين من الأمويين العذاب و تكبد فيها الأمويين من العلويين المشاق و كانت ثورات يؤازرها العلماء والفقهاء في السر بالمال و في العلن بالتأييد،و اشتدت الفتن و نال أبوحنيفة قسطا من الظلم وسُجن و جُلد ثم أفرج عنه و أعد نفسه و أهل بيته ودوابه للرحيل لسفر طويل ليلا إلي مكة و كان هروبه في سنة 130 هـ .

أقام أبوحنيفةبمكة ست سنوات و لحق به تلاميذه الحريصون علي علمه و الأخذ عنه ولم يستقر أبوحنيفة في الكوفة إلا في زمن أبي جعفرالمنصور سنة136هـ حين استقرت الأحوال بالعراق .
في عهدالخليفة المنصور صار أبوحنيفةعزيزا عليه، يدنيه منه و يعلي مكانته عنده و يرفع قدره في مجلسه، ويحاول بين حين و أخر أن يعطيه العطايا الجزيلة و لكن أباحنيفة لم يكن يرى أن يقبل الفقهاء هدايا الخلفاء و لذلك كان يرد عطاء المنصور و هداياه في رفق و حيلة سواء جاءت من المنصور بطريق مباشراً أو غير مباشر .
و انتهت أيام الصفو بين أبي حنيفةو المنصور حين سجن المنصور عبد الله العلوي.
وظهرت تباشير هذه النهاية في الكلام القليل الناقم علي العباسيين الذي كان يخرج من شفتي أبي حنيفة بين الحين و الحين و يكشف عن ولائه لأبناء علي بن أبي طالب خاصة .



يتبع