4
ـ من النتائج الأخرىلنزع الظواهر اليهودية من سياقها التاريخي الإنساني المركب أنها لم يَعُد يُنظَرلها باعتبارها ظواهر كلية مركبة لها تجلياتها على المستويات السياسية والاقتصاديةوالدينية والمعرفية، ولذا تم تسييس الخطاب التحليلي العربي بشكل متطرف، بحيثيُناقَش كل موضوع في إطار أبعاده السياسية والاقتصادية المباشرة وحسب، وتم استبعادالأبعاد المعرفية (رؤية الصهاينة للكون ـ رؤية العالم الغربي لذاته ولليهود) التيلا يمكن فهم الأبعاد السياسية والاقتصادية حق الفهم بدونها. وبذلك، تم عزل هذهالظواهر عن كثير من السياقات الفكرية والدينية والحضارية، وتم اختزالها إلى بُعدواحد واضح وسهل ومباشر.

5
ـ ويرتبط بهذا عيب آخر هو أن "الفكر الصهيوني" ينحل في عقل كثير من الباحثين إلى "أفكار صهيونية"، أي مجموعة من الأفكار لا يربطهارابط وليست جزءاً من منظومة مترابطة متكاملة. وعملية التفتيت هذه تؤدي إلى مزيد منالتسطح وتعوق عملية التفسير النقدية المتعمقة.

6
ـ ويرتبط كل هذا ببُعد آخرنطلق عليه «التطبيع المعرفي والتحليلي للظواهر الصهيونية» إذ يهمل كثير منالدارسـين خصـوصية الظاهرة الصهـيونية الإسرائيلية من حـيث هي ظـاهرة استيطانيةإحلالية ذات ديباجات يهودية. ويتعامل هؤلاء الدارسون مع النظام الحزبي الإسرائيلي (على سبيل المثال) مثلما يتعاملون مع النظام الحزبي في إنجلترا أو فرنسا متجاهلينأن الأحزاب الإسرائيلية مُمثَلة في المنظمة الصهيونية العالمية وأن لها فروعاً فيالخارج وأنها مُموَّلة من الخارج وأن لها نشاطات لا تقوم الأحزاب السياسية عادةًبمثلها. فالتطبيع هنا يعني تجاهل خصوصية الكيان الاستيطاني الصهيوني وإدراكهباعتباره كياناً سياسياً عادياً طبيعياً مثل الكيانات السياسية الأخرى.

7
ـويمكن أن أشير أيضاً إلى إهمال الخطاب التحليلي العربي لما أسميه «قضية المنظور» (الوعي ـ الدوافع ـ التوقعات) والمعنى، وهو الدلالة الداخلية التي يراها الإنسانفيما يقع له من أحداث وفيما يحيط به من ظواهر وفيما يقوم به من أفعال. فالإنسانليس، مثل الحيوان، مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات المادية، وسلوكه ليس مجردأفعال وردود أفعال مشروطة بالبيئة المادية أو العضوية، فهو أكثر تركيباً من ذلك. فالمعنى الذي يُسقطه على الظواهر يحدد وعيه ودوافعه وتوقعاته. ولكل هذا، لا يمكنرصد الإنسان من الخارج كما يُرصد الدجاج أو النحل. وأعتقد أن كثيراً من الدراساتالعربية تُسقط هذا البٌعد المهم للظاهرة الصهيونية، أي باعتبارها ظاهرة اجتماعيةتاريخية إنسانية مركبة، وأن الصهاينة والإسرائيليين بشر لا يمكن ردسلوكهم‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ إلى مجموعة من العناصر والملابسات المادية، فدوافعهم وتوقعاتهممرتبطة برؤيتهم. ولذا، نجد كثيراً مما كُتب عن إسرائيل يدور في إطار وهم الموضوعيةالمادية المتلقية، بحيث تتحول عملية رصد المجتمع الإسرائيلي إلى مجرد رصد برانيللظواهر والتفاصيل المتفرقة لا يكترث بالوعي أو بالدوافع ويُسقط فكرة المعنى تماماً (أي المعنى الذي يخلعه الصهاينة على أفعالهم وأفعال الآخرين) ويتجاهل قضيةالتوقعات، فيأتي الحكم على مدى نجاح الظاهرة الصهيونية أو فشلها بمقاييس كميةخارجية عامة مثل «القوة العسكرية للمجتمع» و«مستوى التقدم الاقتصادي للمجتمع» و«معدلات الدخل المرتفعة للمواطن الإسرائيلي» و«مدى اتساع حدود الدولة الصهيونية أوضيقها»، دون أن يؤخذ في الاعتبار إدراك المستوطنين الصهاينة أنفسهم لهذه الظواهروكيفية استجابتهم وتفسيرهم لها، ودون تحديد لطبيعة توقعاتهم من مجتمعهم الصهيونيسواء من الناحية المادية أو من الناحية المعنوية.