موسوعة تأسيسية
وفي عام 1975، قررت تحديث موسوعةالمصطلحات اليهودية والصهيونية: رؤية نقدية (القاهرة 1975) وتعميق الجانب التفكيكيالنقدي، بعد أن أصبحتُ أكثر وعياً به. ولذا قررت أن أكتب ما سميته حينذاك «موسوعةمضادة» (بالإنجليزية: آنتي أنسيكلوبيديا anti-encyclopedia)، فدعوت حشداً كبيراً منالباحثين الشبان والمتخصصين وطلبت من كل واحد منهم أن يكتب مدخلاً في حقل تخصصه،على أمل أن أنتهي من تحديث الموسوعة في غضون عام أو عامين. واستغرقت العمليةالتفكيكية ما يقرب من عشر سنوات أي حتى عام 1985 حين اكتشفت أنني انتقلت من مرحلةإلى مرحلة أخرى دون أن أشعر، إذ وجدت أنني في واقع الأمر، شأني شأن الباحثين الذينتعاونوا معي، أقوم بعملية تمديد أفقي للمعلومات في الإطار التفكيكي العام. ولا شكفي أن التفكيك له فائدة، بل هو أمر حتمي وضروري، فهو يكشف المفاهيم الكامنة ويزيلالغشاوات، ولكنه يترك كثيراً من جوانب الظاهرة دون تفسير. فالتفكيك عملية هدم جذريةتطهيرية ولكنه ليس عملية تفسيرية. والتفسير غير التفكيك، فهو عملية إبداعية تركيبيةتتطلب نحت نماذج مختلفة والربط بينها والغوص في كل الأبعاد السياسية والاقتصاديةوالدينية والمعرفية للظاهرة، وإعادة ترتيب الوقائع وتصنيفها في ضوء النماذجالجديدة، واكتشاف حقائق جديدة مُهمَّشة ومنحها المركزية التفسيرية التي تستحقها،وتوليد مصطلحات جديدة وإعادة تعريف بعض المصطلحات القائمة.

وقد حدث شيء مهمجداً في حياتي الفكرية عام 1985 وهو أن همومي الفكرية الأساسية (الصهيونية كاستعماراستيطاني وكأيديولوجية لأعضاء الجماعات اليهودية ـ الهيجلية والحلولية ونهايةالتاريخ ـ الاستهلاكية ومصير الإنسان ـ التحيزات المعرفية والحاجة لمشروع حضاريمستقل ـ الحاجة إلى استخدام النماذج كأدوات تحليلية)، التي كانت مترابطة بشكل ما،تلاحمت تماماً وأدركت العلاقات فيما بينها، الأمر الذي كان يعني ضرورة البدء منجديد. ومما ساعد على تعميق هذا الاتجاه، اكتشافي معلومات مهمة، أي إدراكي أهميتهاالتفسيرية (فهي معلومات معروفة ولكنها مُهمَّشة تماماً)، فقد وجدت أن الغالبيةالساحقة من يهود العالم الغربي في نهاية القرن الثامن عشر كانوا يوجدون في بولندا،وأننا حينما نتحدث عن يهود العالم الغربي (أيمعظم يهود العالم) فإنما نتحدث فيواقع الأمر عن يهود بولندا الذين اقتسمتهم روسيا والنمسا وألمانيا باقتسام بولندانفسها، ومن صفوفهم خرجت الألوف والملايين التي هاجرت إلى إنجلترا وأستراليا وكنداوالولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ثم فلسطين. ولذا، لابد للمتخصص في اليهودواليهودية والصهيونية أن يُلم إلماماً كبيراً بتاريخ بولندا وتشكيلها الاجتماعيوالسياسي والاقتصادي الفريد. وهنا اكتشفت جهلي التام. هل سمع أحد منا بجمهوريةيحكمها ملك منتخب؟ وما علاقة بولندا بلتوانيا وما علاقتهما بأوكرانيا؟ هل سمع أحدمنا بطبقة الشلاختا (طبقة النبلاء البولنديين) أو بنظام الأرندا (نظام استئجارالأراضي من النبلاء)؟ وما دور اليهود في الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا؟إن هذه العناصر والمفردات هي التي تكوِّن تاريخ بولندا ومن ثم تاريخ الجماعةاليهودية فيها، ولا يمكن فهم المسألة اليهودية إلا بعد الإحاطة بهذه العناصر وغيرهاإحاطة كاملة.