هذا بالنسبة لليهود. أما بالنسبة لليهودية، فقد اكتشفت الدورالمتزايد الذي لعبته القبَّالاه اللوريانية (أي الصوفية اليهودية على طريقة إسحقلوريا) في تقويض دعائم التلمود حتى حلّت كتب القبَّالاه محله. وبناءً على هذا، فقدأحضرت عدداً كبيراً من الدراسات في تاريخ بولندا والقبَّالاه وفي غير ذلك لأملأالفراغات في تكويني الثقافي.
عند هذه اللحظة، أدركت أنني تركت مرحلةالتفكيك بصورة تلقائية وانتقلت إلى مرحلة التركيب، وأنني لم أعد أفكك وحسب وإنمابدأت أطرح أسئلة وإشكاليات ومصطلحات ونماذج ومقولات تحليلية جديدة كان من شأنهاتركيب تصوُّر جديد لتاريخ اليهودية ولأعضاء الجماعات اليهودية. وعلى هذا، فإنالموسوعة لم تعد موسوعة معلوماتية تحاول توفـير المعـلومات للقارئ، ولا حتى موسوعةتفكيكية تحاول أن تهدم النماذج القائمة، وإنما هي موسوعة تأسيسية. ولو كانت هذهالموسوعة موسوعة معلوماتية، لأصبح هذا العمل ضعف حجمه الحالي ولتم إنجازه في بضعسنوات، ولو كانت موسوعة تفكيكية وحسـب لنُشرت عام 1983 مع انتهاء السادة الباحثينالذين قدَّموا إسهاماتهم في موعدها، ولكنها موسوعة تأسيسية كما أسلفت.
دراسـة حـالة
«دراسة حالة» هي ترجمة لعبارة «كيس ستدي case study» الإنجليزية التي تعني دراسة الظواهر الإنسانية من خلال التحليل المتعمق لحالة فردية (قد يكون شخصاً أوجماعة أو حقبة تاريخية). ويفترض هذا المنهج أن الباحث يرى أنالحالة الفردية موضع الدراسة هي حالة ممثلة لحالات أخرى كثيرة (حالة نماذجية فيمصطلحنا)، أي أنها جميعاً تنتمي لنفس النموذج. وهدف الدراسة هو الوصول لهذا النموذجمتمثلاً بشكل متبلور في الحـالة عن طريق التحـليل المتعمق. وبعد الوصول إلى هذاالنموذج يمكن تطبيقه على حالات أخرى تندرج تحته.
وهذه الموسوعة قامت بتطويرنماذج ثلاثة أساسية: الحلولية الكمونية الواحدية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعاتالوظيفية، ثم حاولت تحديد معالم هذه النماذج، ثم قامت باختبارها عن طريق تطبيقهاعلى حالة محددة هي الجماعات اليهودية في العالم منذ ظهورها على مسرح التاريخ حتىالوقت الحاضر.
ثلاثة نماذج أساسية: الحلولية - العلمانية الشاملة - الجماعةالوظيفية
يمكن القول بأن الأداة التحليلية الأساسية في هذه الموسوعة هي النموذجالمعرفي التحليلي المركب الذي يبتعد عن الاختزالية والتفسيرات أحادية البُعد. فقدقمنا بصياغة نموذج مركب فضفاض يحاول أن يتناول الظواهر اليهودية والصهيونية فيأبعادها السياسية والاقتصادية والحضارية والمعرفية، بل يشير إلى بعض العناصر التيقد يعجز هو ذاته عن تفسيرها. والنموذج التحليلي المركب الذي طورناه يتسم (فيتصورنا) بأنه لا يتأرجح بحدة بين العمومية الشاملة والخصوصية المتطرفة (المتأيقنة) فهو نموذج على مستوى معقول من العمومية والخصوصية يرمي إلى وضع اليهود واليهوديةوالصهيونية، باعتبارهم حالة محددة، في سياق إنساني عالمي مقارن يضم كل البشر ويدركإنسانيتنا المشتركة، حتى ندرك أن الحالة المحددة ليست شيئاً مطلقاً وإنما تنتمي إلىنمط إنساني عام ومجرد، ومع هذا يحاول النموذج التحليلي في الوقت نفسه ألا يهملالملامح الفريدة والمنحنى الخاص للظواهر اليهودية والصهيونية. ولذا لم نقذف باليهودواليهودية والصهيونية في صحراء العمومية المُسطَّحة التي وضعهم فيها أصحاب النماذجالتحليلية الموضوعية الملساء (ومن بينهم صهاينة يريدون تطبيع اليهود) الذين يروناليهود باعتبارهم وحدات مادية، اقتصادية أو سياسية عامة، ليست لها ملامح متميِّزةولا تتمتع بأية خصوصية. كما أننا لم نتركهم في جيتو الخصوصية اليهودية، المفاهيميوالمصطلحي، جيتو التفرُّد المطلق، والقداسة والدناسة، والطهارة والنجاسة، والاختياروالنبذ. ذلك الجيتو الذي وضعهم فيه أصحاب النماذج التحليلية من الصهاينة وأعداءاليهود الذين يرون اليهود باعتبارهم ظاهرة مستقلة، مكتفية بذاتها، تحوي داخلها كلأو معظم ما يكفي لتفسيرها. وانطلاقاً من هذا التصور تم تأسيس مخصصاً "علمياً" يُسمَّى «الدراسات اليهودية».
بدلاً من كل هذا، حاولنا أن ندخل الظواهراليهودية والصهيونية المجال الرحب للعلوم الإنسانية وعلم الاجتماع وعلمالأنثروبولوجيا والتاريخ الإنساني، حيث يمكن من خلال نماذج مركبة رؤية علاقة الكل (العام) بالجزء (الخاص) دون أن يفقد أيٌّ منهما استقلاله وحدوده.
ولإنجازكل هذا، قمنا بتفكيك مقولات مثل «اليهودي العالمي» و«اليهودي المطلق» و«اليهوديالخالص» و«المؤامرة اليهودية» و«التاريخ اليهودي» (... إلخ) لنبيِّن المفاهيمالكامنة فيها، فهي تفترض أن اليهود لا يتغيرون بتغير الزمان أو المكان، وحتى إنتغيَّروا فإن مثل هذا التغيُّر يحدث داخل إطار يهودي مقصور على اليهود داخل حركياتوآليات التاريخ اليهودي. وبيَّنا عجز مثل هذه المقولات عن تفسير الواقع بأن أشرناإلى عدد كبير من العناصر التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية التيلم تتعرض لها هذه المقولات لأنها تقع خارج نطاق مقدرتها التفسيرية. وبيَّنا أن هذهالمقولات تتسم بالعمومية المفرطة (اليهود في كل زمان ومكان) والخصوصية المفرطة (اليهود وحدهم دون غيرهم). وأوضحنا كذلك أن من المستحيل أن نفهم سلوك اليهود،وآلامهم وأشواقهم وخيرهم وشرهم، من الداخل، أي بالعودة إلى كتبهم المقدَّسة (التوراة والتلمود) أو شبه المقدَّسة (القبَّالاه) أو غير المقدَّسة (البروتوكولاتكما يزعم المعادون لليهودية) أو بالعودة إلى تصريحات الصهاينة وغيرهم.
المفضلات