3
ـ انطلق الصهاينة من المركزية الغربية هذه وعمَّقوها بإضافة المركزيةالصهيونية، وجوهر هذه المركزية هو أن اليهود كيان مستقل لا يمكن دراسته إلا منالداخل في إطار مرجعية يهودية خالصة، أو شبه خالصة، وهو ما أدَّى إلى ظهور ما أسميه «جيتوية المصطلح». فكثير من الدراسات التي كُتبت عن الموضوع اليهودي والصهيونيتستخدم مصطلحات من التراث الديني اليهودي (بعضها بالعبرية أو الآرامية) أو من تراثإحدى الجماعات اليهودية (عادةً يهود اليديشية) أو من الأدبيات الصهيونية لوصفالظواهر اليهودية والصهيونية، وكأن هذه الظواهر من الاستقلالية والتفرد بحيث لايمكن أن تصفها مفردات في أية لغة أخرى.

وتتضح جيتوية المصطلح الصهيونيالكاملة في أوجه عدة أهمها ظهور مصطلحات مثل «التاريخ اليهودي» و«العبقريةاليهودية» و«الجوهر اليهودي» وهي مصطلحات تفترض وجود تاريخ يهودي مستقل له حركياتهالمستقلة عن تاريخ البشر، ومن ثم لا يُفسَّر سلوك أعضاء الجماعات اليهودية في ضوءتاريخ المجتمع الذي يعيشون فيه وإنما في إطار حركيات تاريخ مقصور عليهم (ومما يجدرذكره أن المعادين لليهود يتبنون جيتوية المصطلح هذه فيتحدثون عن «الجريمة اليهودية»وعن «المؤامرة اليهودية»).

وتتضح هذه الجيتوية بشكل متطرف في رفض المراجعالصهيونية ترجمة الكلمات العبرية وفي الإصرار على إبرازها بمنطوقها العبري. وعدمترجمة المصطلح نابع من الإيمان "بتَفرُّد" التراث اليهودي و"تميُّز" الذات اليهوديةوقدسيتها.. إلخ. ولذا تتحدث هذه المراجع عن «الليكود» و «المعراخ» و «أحدوتهاعفوداه» و«المتسفاه». أما حرب أكتوبر فهي حرب «يوم كيبور».

والمراجعالعربية مع الأسف تتبع المصادر الصهيونية في معظم الأحيان، فنترجم عبارة Conservative Party إلى العربية فنقول «حزب المحافظين» (ولا نقول «كونسيرافتيفبارتي» مثلاً) بينما يظل «الليكود» أو «أحدوت هاعفوداه» على شكلهما العبري الغريبوالشاذ، وأقول غريباً وشاذاً، لا لأن اللغة العبرية غريبة وشاذة، فهي لغة مثل أيةلغة في العالم، لها قواعدها وقوانينها، ولكن الغرابة والشذوذ يكمنان في السياقالعربي نفسه. فإذا كانت عبقرية اللغة العربية تتجه نحو الترجمة، إذن فلنترجم ولانستثني من القاعدة إلا ما يُستثنى عادةً، مثل بعض الكلمات التي يتصور المترجمون عجزاللغة عن ترجمتها، مثل «الجمهورية الفيدرالية»، أو الاختصارات مثل «اليونسكو» وصاروخ «سام»، فهذه الاختصارات أصبحت مثل أسماء الأعلام (وإن كان يجرى أحياناًترجمة الاختصارات فحلف «الناتو» أصبح حلف شمال الأطلنطي). ولكننا لا نُطبِّق هذهالقواعد على المصطلح الصهيوني، ونتركه عبرياً دون تغيير أو تعديل وكأنه قدس الأقداسالذي يجب ألا يطأه إلا كبير الكهنة وحده، أو كأنه الشيم هامفوراش الذي ينطق بهكوهين جادول مرة واحدة كل عام. وبقاء المصطلح على شكله العبري يجعلنا مُستوعَبيننفسياً فيه وفي حالة انهزام كامل أمامه، فالتركيبة الصوتية التي تخلط بين الهاءوالعين (هاعفوداه)، والتركيبة الصوتية الأخرى «تسي» (الكيبوتس) لا تتواتران فياللغة العربية وبالتالي فهي تسبب جهداً لدى القارئ ولدى السامع العربيين على حدٍسواء، هذا على عكس التركيبات الصوتية المألوفة للأذن العربية. كما أن معنى «أحدوت»أو معنى «هاعفوداه» يظل شيئاً غريباً على العقل، يضرب الإنسان أخماساً في أسداسليصـل إليه، ولا يملك المرء أمام هذا إلا أن يكرر الأصوات التي يسمعها دون أن يحيطبها إحاطة كاملة.