وما حدث هو أن دارسي العلمانية فصلوا المصطلح (والظاهرة) عن غيره من المصطلحات بحيث تحولت العلمانية من كونها رؤية للكون (بالألمانية: فلتنشوونج Weltanschauung) إلى ظاهرة مستقلة من ضمن ظواهر عديدة، لها تاريخ مستقل. بل الأسوأ من هذا أن تاريخ العلمانية أصبح جزءاً من تاريخ الأفكار فتجمد المصطلح وانفصل عن مضامينه التاريخية والحضارية، وأصبحت العلمانية، في كثير من الدراسات، برنامجاً إصلاحياً أو برنامجاً تآمرياً وتم تجاهل عمليات العلمنة البنيوية الكامنة المسئولة الأساسية عن تحوُّل المجتمع. ثم تدهور الأمر بين أعداء العلمانية ودعاتها إذ يقول أتباع الفريق الأول: "إن العلمانية كفر وإلحاد وغزو ثقافي" ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو شراً مستطيراً. أما أتباع الفريق الثاني فيقولون: "إن العلمانية هي أن يكون الإنسـان إنسـاناً وأن يُحكِّم ضميره ويحب الخير كنهاية في ذاته ويُدافع عنه وعـن حرية الفكر والإبداع والتسامح والمحبة"، ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو جميلاً ورائعاً ونبيلاً. وانطلق دعاة العلمانية يلهجون بالثناء عليها ويتحدثون عن أن لا سلطان للعقل إلا للعقل ويشيرون إلى أوربا مهد النور والعقل والعلمانية... إلخ.

ولا شك في أن مثل هذه التعريفات المريحة لها قيمة نفسية عالية بالنسبة لمستخدميها، فهي ولا شك تُدخل على قلوبهم الراحة ولكن ليست لها أية قيمة تفسيرية، فهي ليست بتعريفات تحاول وصف الواقع وتفسيره وإنما هي أحـكام أخلاقية تعكـس لنا رؤية أصـحابها وموقفهم النفـسي والأخـلاقي من ظاهرة لم يقوموا بتعريف حدودها.

وربما كان الأجدى أن ينظروا إلى تاريخ أوربا الاستعماري من نهب وسرق وتدمير (لبلادنا ولبلاد غيرنا) ولعلهم لو فعلوا لعرفوا أن العقل لم يحكم حضارة العقل كثيراً، ولو نظروا لتاريخ أوربا المعاصر، ورأوا هتلر وستالين ومسرح العبث وسياسات النظام العالمي الجديد والعنصرية القديمة والنازية القديمة والجديدة ومادونا وأفلام العنف لأدركوا أن المقدمات العقلية للعلمانية لم تؤد دائماً إلى ازدهار العقل والمرشد.

ولكن بدلاً من مناقشة العلمانية في هذا الإطار المُركَّب أصبحت القضية: متى نشأت العلمانية وأين؟ هل العلمانية نسبة إلى العالَم أم إلى العلم؟ وهذا أمر مثير للدهشة باعتبار أن دعاة العلمانية هم في غالب الأمر دعاة لتَبنِّي مُثُل الحضارة الغربية ومن بينها الرؤية النقـدية. ولعلـهم لو قامـوا بتعريف العلمانية مسترشدين بدراسـة متعمقة للحضارة الغربية، مبينين حلوهـا من مرها، ولو قدَّموا لنا حساب المكسب والخسارة في التجربة العلمانية في الغرب لتم الحوار بشأن العلمانية بطريقة أكثر تركيبية ورحابة وأقل حدة.


يتبع ما بعد العلمانية