الباب الرابع: إشكالية العزلة والخـصوصية اليهودية
العزلـــة اليهوديــة
Jewish Isolationism
«الانعزالية اليهودية» عبارة تفترض أن اليهود يعيشون في حالة عزلة عن الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. وتُفسَّر هذه الانعزالية في الأدبيات الصهيونية على أساس أنها فُرضت فرضاً على اليهود وأنهم غير مسئولين عنها. كما تُفسَّر أيضاً بأن اليهود لا يمكنهم الاندماج في مجتمعات الأغيار بسبب هويتهم أو شخصيتهم أو طبيعتهم أو تاريخهم أو جوهرهم اليهودي. ولا يختلف تفسير معاديي اليهود لهذه الظاهرة عن تفسير الصهاينة، فاليهود بحسب تصورهم يعزلون أنفسهم عن الأغيار لأن هذه هي طبيعتهم وشخـصيتهم وهوـيتهم، وتنعكـس هذه السمة في سلوكهم وتاريخهم. يتفق الصهاينة والمعادون لليهود، إذن، على أن الانعزالية سمة أساسية وأنها لا علاقة لها بالحركيات الاجتماعية التي يوجد فيها اليهود، وإنما يُسبِّبها شيء ما داخلهم.
ولا يمكن، بطبيعة الحال، إنكار أهمية بعض جـوانب النسـق الديني اليهودي مثل عقيدة الشــعب المختـار، وكذلك كثرة الشـعائر الدينية، في تشجيع اليهود على العزلة. وقد وصل هذا الاتجاه في النسق الديني اليهودي إلى ذروته في القبَّالاه اللوريانية الدينية، حيث تُطرح فكرة أن اليهود خُلقوا من طينة مغايرة للطينة التي خُلق منها البشر. ولكن علاقة الأفكار الدينية، وأية أفكار، بسلوك الإنسان ليست علاقة سببية بسيطة. فالأفكار لا تحدد سلوك الإنسان أبداً ولكنها تخلق لديه استعداداً كامناً أو قابلية ليسلك سلوكاً معيَّناً ويبتعد عن أنماط معينة من السلوك. كما أن من الصعب بمكان تحديد ما إذا كانت فكرة مثل فكرة الشعب المختار هي التي أدَّت إلى عزلة اليهود أو أن الفكـرة هي نتيجة هذه العزلة، أو أن العلاقة هي علاقة تأثير وتأثر، وما مدى التأثير وما عمق التأثر.
وعلى أية حال، لا يكمن الخلل الأساسي في النموذج التفسيري الصهيوني والمعادي لليهود في سببيته البسيطة وحسب وإنما في مستواه التعميمي المرتفع وفي تجريديته الزائدة، إذ أن كلا الفريقين يتحدث عن « اليهود ككل » وبشكلٍّ عام ويُفسِّر الظاهرة داخل هذا الإطار. ولو أننا تحركنا في إطار الجماعات اليهودية لأمكننا اكتشاف التنوع وعدم التجانس، وأن أعضاء الجماعات اليهودية انعزلوا عن بعض المجتمعات واندمجوا في البعض الآخر، وأنهم انصهروا في بعض المجتمعات وطُردوا من البعض الآخر، وأن هذه الظواهر يمكن تفسيرها من خلال مُركَّب من الأسباب الحضارية والاقتصادية الخارجيــة التي تختـص بمجتمع الأغلبية، والأسباب الداخلية التي تختص بأعضاء الجماعة. ومن أهم هذه الأسباب، في تَصوُّرنا، اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة في كثير من المجتمعات، خصوصاً المجتمع الأوربي ابتداءً من العصور الوسطى. والجماعة الوظيفية الوسيطة لا يمكنها أن تقوم بدورها إلا في حالة عزلة، إذ أنها تضطلع بوظائف مشينة أو بوظائف تتطلب الحياد والموضوعية مثل البغاء أو التجارة.
ومن أشهر حالات عزلة اليهود، وجودهم داخل الجيتوات القسرية في أوربا ابتداءً من أواخر عصر النهضة. ولكن العزلة وصلت قمتها في أوكرانيا، حيث كان اليهود يشكلون جماعة وسيطة تمثل طبقة النبلاء (شلاختا) الحاكمة في بولندا. وكانت عزلة اليهود على عدة مستويات:
1 ـ طبقية: جماعة تجارية مالية تمثل النخبة الحاكمة في وسط زراعي فلاحي وتساندها القوة العسكرية البولندية.
2 ـ لغوية: جماعة تتحدث اليديشية في وسط يتحدث الأوكرانية.
3 ـ ثقافية: جماعة ترتدي أزياءً وتأكل طعاماً يختلفان عن أزياء وطعام الفلاحين.
4 ـ دينية:جماعة يهودية تمثل النبلاء الكاثوليك في وسط أرثوذكسي.
وحينما تصبح العزلة على كل هذه المستويات، فإنها عادةً ما تكون متطرفة، إذ إن العزلة على مستوى ما تدعم العزلة على مستوى آخر. ولكن، ورغم هذه العزلة، فإن من المعروف أن الجماعة اليهودية تأثرت بوسطها الفلاحي السلافي، وظهر هذا التأثر في انتشار الحسيدية التي نبعت من الفلكلور الديني المسيحي السلافي، أي أنه لا يمكن أن تُوجَد عزلة مطلقة إلا في كتابات العنصريين الاختزاليين من الصهاينة والمعادين لليهود.
المفضلات