متاهات المتكلمين

وقد خاض المتكلمون في بيان كلام الله على نهج الفلاسفة فأوقعوا الناس في متاهات أضلتهم عن سواء السبيل، حيث قسموا كلام الله تعالى إلى قسمين: نفسي قديم قائم بذاته تعالى ليس بحرف ولا صوت ولا ترتيب ولا لغة، وكلام لفظي هو المنزل على الأنبياء عليهم السلام، ومنه الكتب الأربعة، وأغرق علماء الكلام في خلافاتهم الكلامية المبتدعة: أيكون القرآن بهذا المعنى الثاني مخلوقًا أم لا؟ ورجحوا أن يكون مخلوقًا، وخرجوا بذلك عن منهج السلف الصالح فيما لم يرد به كتاب ولا سنة، وتناولوا صفات الله بالتحليل الفلسفي الذي يؤدي إلى التشكيك في عقيدة التوحيد.

ومذهب أهل السٌّنَّة والجماعة إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات أو أثبته رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه، وحسبك أن تؤمن بأن الكلام صفة من صفاته تعالى، قال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1. وأن القرآن الكريم؛ وهو الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- كلام الله؛ غير مخلوق.

: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2، وإثبات هذا ونحوه مما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله وإن كان يوصف به العباد فإنه لا ينافي كمال تنزيهه تعالى عما لا يليق به من نقائص عباده، ولا يقتضي مماثلته لهم.

إذ إن الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك في المسميات، فشتان بين الخالق والمخلوق في الذات والصفات والأفعال، فذاته تعالى أكمل، وصفاته أسمى، وأفعاله أتم وأعلى، وإذا كان الكلام صفة كمال للمخلوق فكيف ينتفي هذا عن الخالق؟ ويسعنا ما وسع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه في العصور المشهود لها بالخير قبل ظهور بدعة المتكلمين من الإيمان بما جاء عن الله أو صح عن رسوله في صفاته تعالى وأفعاله إثباتًا ونفيًا من غير تعطيل ولا تشبيه، ولا تمثيل ولا تأويل، وليس لنا أن نحكِّم رأينا في كنه ذات الله أو كيفية صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

1 النساء: 164.

2 التوبة: 6.

3 الشورى: 11.