تطبيــــع الشـخصيـــة اليهــوديـــة
Normalization of the Jewish Character
بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، شاع مصطلح «تطبيع» في الخطاب السياسيفي مصر، بمعنى محاولة جعل العلاقات بين مصر والدولة الصهيونية علاقات عادية طبيعيةمثل العلاقات التي تنشأ بين أي دولتين. ولكن المصطلح في الأدبيات الصهيونية، حينمايُستخدَم للإشارة إلى ما يُسمَّى «الشخصية اليهودية»، تكون له مدلولات مختلفةتماماً. وقد شاع المصطلح في أوربا ابتداءً من القرن الثامن عشر مع مصطلحات أخرى إمامشابهة أو مرتبطة به، مثل «تحويل اليهود إلى قطاع منتج» أو «نفع اليهود»، وهي كلهامصطلحات تفترض شذوذ وضع اليهود وهامشيتهم، وتؤكد الحاجة إلى تغييره عن طريق «إصلاحاليهود» وتحويلهم إلى مادة بشرية استعمالية نافعة يمكن توظيفها في خدمة المجتمع،وهذا يعني أن يصبح اليهودي إنساناً طبيعياً لا يختلف عن غيره من البشر (والإنسانالطبيعي هو مفهوم محوري في فكر عصر الاستنارة) الذي ركَّز على العناصر العامة فيالبشر، وحاول أن يقلل من أهمية الخصوصيات وأن يلغيها تماماً.

ولكن الظاهرةنفسها، بغض النظر عن المصطلح، تعود إلى تواريخ قديمة، فقد كانت الحاجة إلى تطبيعاليهود أو إصلاحهم تنشأ حينما يواجهون حضارة متفوقة، كما حدث عند التهجير البابلي. وبرزت الظاهرة ذاتها بشكل أكثر إثارة في العصر الهيليني، إذ بدأ أعضاء الجماعةاليهودية التي كانت متركزة أساساً في فلسطين ثم في مصر يشـعرون بالإحسـاس بالنقصوبالتدني الحضـاري إزاء الحضارة المتفوقة، فاصطنعوا أساليبها، وتأغرقت أعداد كبيرةمنهم، وبخاصة أعضاء الطبقات الثرية، وبذلوا جهداً غير عادي ليصبحوا مثل الإغريق. وعلى سبيل المثال، كان بعض اليهود الذين يشتركون في الألعاب الأولمبية يجرون عمليةجراحية تجميلية حتى يبدو وكأنهم لم يُختنوا (أي حتى يبدوا وكأنهم مواطنون طبيعيون) فلا يكونوا محط سخرية المشاهدين أو نساء الأغيار. ويمكن اعتبار الحركات المشيحانيةأول محاولات تطبيع اليهود في الواقع. ولذا، كان من أهداف هذه الحركات إسقاط الأوامروالنواهي المسئولة عن تميُّز اليهود وعزلتهم.

ولكن عملية التطبيع التيتهمنا هي التي بدأت في نهاية القرن الثامن عشر نتيجةً للانقلاب الصناعي الرأسماليفي الغرب، والتحولات البنيوية التي خاضتها المجتمعات الغربية، إذ أدَّت هذهالتحولات إلى ظهور الدولة القومية الحديثة والرأسمالية الرشيدة والاقتصاد الحديثمما أدَّى إلى الاستغناء عن الجماعات الوظيفية، اليهودية وغير اليهودية، وقد تطلَّبهذا التحول نوعية جديدة من المواطنين ذوي كفاءات وولاءات محددة يختلفون بشكل جوهريعن عضو الجماعة الوظيفية. وقد كان مؤسسو الدولة القومية الحديثة في غرب أورباووسطها وشرقها يرون أن اليهود، بوضعهم الذي كانوا عليه، كجماعات وظيفية وسيطة،أصبحوا شخصيات هامشية غير منتجة وغير محددة الولاء أو الانتماء ودون دور محددتلعبه، أي أن وَضْعهم لم يعُد طبيعياً في الإطار القومي المركزي الجديد. ولذا،ينبغي تطبيعهم، أي صبغهم بالصبغة القومية ليتم دمجهم في المجتمع. فأصدرت حكومةفرنسا ثم النمسا وروسيا وغيرها قرارات لإعادة صياغة هوية أعضاء الجماعات. وقدتفاوتت درجات نجاح المحاولة وإخفاقها من بلد إلى آخر.

والتطبيع هو أيضاً منأهـم المفاهيم المحـورية في الفكر الصهيوني، فهو العملية التي يتخلَّص اليهودي منخلالها من أمراض المنفى أو الشـتات (الانتشـار في العـالم) خـارج الوطن القومي،والتي تتمثل في عقلية استجداء الأغـيار والاعتماد السياسي عليهم وتتمثَّل كذلك فيازدواج الولاء. وهي تعني أيضاً التخلُّص من أية قداسة يخلعها عليه تراثه الديني،وبالتالي يتعيَّن على اليهود الجدد من المستوطنين الصهاينة ألا ينغمسوا في أعمالالسمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة مثل بني ملتهم أو جلدتهم من يهودالمنفى، وعليهم أن يتحولوا إلى شعب يهودي منتج بمعنى الكلمة، يسيطر على كل مراحلالعملية الإنتاجية، وبالتالي على مصيره الاقتصادي والسياسي. كما أن عليهم أن يطرحواكل المفاهيم الدينية مثل «الشعب المختار» و«الالتزام بأداء الأوامر والنواهي»، وأيةمطلقات دينية أو أخلاقية. وقد عبَّر المفكر الصهيوني العمالي دوف بير بوروخوف عنالقضية نفسها بقوله إن اليهود أعضاء في هرم إنتاجي (أي أنهم مادة إنتاجية)، وأنالحل الصهـيوني يتلخَّص في أن يقـف الهــرم الإنتاجي اليهودي على قاعدته، بحيثيتركز اليهود في العمليات الإنتاجية في قاعدة الهرم ويعملون بأيديهم وتصبح أغلبيتهممن العمال والفلاحين، أما المهنيون والعاملون في القطاع التجاري والمالي فإنهميصبحون قلة في قمة الهرم، شأنهم في هذا شأن قرنائهم في أي مجتمع آخر. وهذا مايُطلَق عليه مصطلح «العمل العبري» و«غزو العمل»، أي أن يستولى الصهيوني على الأرضعن طريق العنف الذي يُطهِّره من مخـاوف المنفى، ويعمل فيهـا بيديه ويسيـطر على كلمراحـل الإنتاج. وهو، إن فعل، يكون قد أنجز الثورة الصهيونية الحقَّة، فاستولى علىالأرض وزرعها، وعلى الهيكل الاقتصادي وعمل فيه، وعلى الهيكل السياسي وتحكَّم فيه. ثم تحوَّل هو نفسه من شخصية هامشية خائفة لا سيادة لها، إلى شخصية شجاعة منتجة ذاتسيادة قومـية، وبذلك يكـون قد تم تطــبيعه، ويصير اليهود شعباً، مثلهم مثل كلالشعوب، لهم وطنهم ولغتهم وجيشهم. ومن هنا، لا يكون الاستيطان الإحلالي (الاستيلاءعلى الأرض وطرد سكانها والعمل فيها) مجرد فعل خارجي يحمل مدلولاً اقتصادياًمحدوداً، وإنما فعل شامل ذو أبعاد سياسية وقومية، وفي نهاية الأمر نفسية. وهو أيضاًيحل مشكلة المعنى بالنسبة للصهاينة، ويُعقلن وجـودهم في فلسـطين التي تلفظـهم والتييقاتل أهلها ضدهم.

ولكن التطبيع في السياق الصهيوني يعني أيضاً التغريب، أيأن يصبح لليهود وطن يؤسَّس على النسق العلماني الغربي. فالصهاينة يرون دولتهمالاستيطانية جزءاً من التشكيل الإمبريالي الغربي. وقد أسس الصهاينة دولتهم، التيحوَّلت الدين إلى رموز قومية خالية من المضمون الأخلاقي على طريقة الدول الغربيةالحديثة، المتمسكةبقيم المنفعة وبالقوة كوسيلة لحل كل مشاكلها. وبعد حرب 1967، معتلاشي ما تبقى من أوهام عن روح الريادة والعمل العبري، ازدادت الروح النفعيةوالاستهلاكية. ولذا، زادت حدة التطبيع، وأصبح يهود إسرائيل مثل كل الشعوب،والأمريكيين على وجه الخصوص. وربما يفسر هذا نزوح كثير من الإسرائيليين إلىالولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية الاستهلاكية، فهذه هي النتيجة المنطقيةلمنطق التطبيع بمعنى التغريب.

ولكن، يبدو أن الدولة الصهيونية لم تنجحتماماً في أن تُطبِّع نفسها أو سكانها، فهي دولة تعتمد على الغرب، وتنتشر فيهاالجريمة، كما أن عدداً كبيراً من سكانها يشتغلون بأعمال السمسرة ويرفضون العمـلاليـدوي، وهـو الأمر الذي كشفت عنه الانتفاضة بشكل واضح وجليّ. أما أعضاء الجماعةاليهودية في الولايات المتحدة، وهم أكبر جماعة يهودية في العالم، فقد تم تطبيعهموعلمنتهم تماماً، فقد تبنُّوا أسـلوب الحـياة الأمريكي دون تحـفُّظ. ونصفهم لا يؤمنبالخالق، كما أن الأغلبية الساحقة ممن يظنون أنهم يؤمنون بالعقيدة اليهودية ينتمونإلى اليهودية الإصلاحية والمحافظة والتي لا تعترف بها اليهودية الأرثوذكسية، ولايقيمون شعائر السبت، وإن احتفلوا به فهم يرونه جزءاً من عطلة نهاية الأسبوع (الويكإند) بما تتضمنه من نشاطات علمانية عديدة لا يربطها رابط بشعائر السبت. بل يُقال إنيهود الولايات المتحدة أكثر ملكية من الملك، وأكثر طبيعية وأمريكية من الأمريكيينأنفسهم. وثمة رأي يذهب إلى أن النشاط الصهيوني، الهستيري في شكله، المترهل فيمضمونه، والذي لا يتجاوز في واقع الأمر دفع التبرعات والاشتراك في التظاهرات ووضعاللافتات على السيارات، ولا يأخذ شكل سلوك ديني في المنزل أو هجرة إلى إسرائيل، ماهو إلا تغطية لعملية التطبيع الجذرية التي تتم بين أعضاء الجماعة اليهودية، والتيتترجم نفسها إلى أمركة كاملة وانصهار تام في المجتمع الأمريكي. ولهذا السبب، يطلقبعض الصهاينة على يهود الولايات المتحدة اسم «الهيلينيين الجدد».

وغنيٌّ عنالقول إن مفهوم شذوذ الشخصية اليهودية مفهوم محوري في أدبيات معاداة اليهود، وبخاصةفي الفكر النازي. وقد وجد النازيون أن حلَّ قضية الشذوذ هذه لا يتم عن طريق تطبيعاليهود كما يقترح الصهاينة، وإنما عن طريق إبادة العناصر غير النافعة منهم.