البابالثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية
الفلسفـة اليهـودية والفلاسفـة اليهـود
Jewish Philosophy and Philosophers
«الفلسفة اليهودية» عبارة تفترض أن رؤى الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية وكذلك أنساقهم الفلسفية متماثلة ومتجانسة وأن ثمة عناصر تجانس وتشابه ووحدة بينها، تفوق في أهميتها وتفسيريتها عناصر عدم التجانس وعدم التشابه. ولكننا لو وضعنا فيلسوفاً هيلينياً يهودياً مثل فيلون إلى جانب فيلسوف إسلامي الحضارة والتفكير يؤمن باليهودية مثل موسى بن ميمون إلى جانب فيلسوف فرنسي يهودي مثل برجسون لاكتشفنا أن عناصر الاختلاف وعدم التجانس بين الفلاسفة اليهود من الأهمية والضخامة بحيث أن المقدرة التفسيرية والتصنيفية لمصطلح «فلسفة يهودية» أو حتى «فلاسفة يهود» ضعيفة إلى أقصى حد. ولذا، فنحن نفضل استخدام اصطلاح «الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية» حتى يتم تفسير أنساقهم الفلسفية المختلفة بالعودة إلى التشكيلات الحضارية التي كانوا يعيشون في كنفها والتي تفاعلوا معها واستمدوا منها الإطار الأساسي لأنساقهم الفلسفية وخطابهم، بل والأبعاد الأساسية لرؤيتهم للكون.
الفـلاسـفة من أعضاء الجماعات اليهوديــة
Philosophers from Members of the Jewish Cmmunities
«الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية» عبارة ذات مقدرة تفسيرية وتصنيفية عالية (بالقياس إلى عبارات مثل «الفلسفة اليهودية» أو «الفلاسفة اليهود»).ويمكن أن نُقسِّم هؤلاء الفلاسفة من منظور موضوع فلسفتهم،فهناك من يتعامل مع اليهودية وبعض المشكلات الفلسفية المرتبطة بها وهناك من يتعامل مع القضايا الفلسفية العامة،وإن تعرَّض لقضايا يهودية فهو يتعرض لها بشكل عرضي.
ويمكن التمييز بين المحاولات التي يبذلها بعض المفكرين الذين يتبنون الموقف التحليلي من اليهودية ويدرسونها بطريقة منهجية. فإن كان المفكر غير يهودي فإن ثمرة فكره تكون جزءاً من الدراسة الفلسفية للدين. أما إذا كان المفكر يهودياً مؤمناً بالعقيدة اليهودية، فإن الثمرة تكون اللاهوت اليهودي أو دراسة أصول الدين (التي تناولناها في مدخل العقائد).
وغني عن القول أن المفكر من أعضاء الجماعات اليهودية حين يحاول أن يتأمل عقيدته فإنه، شاء أم أبى، يُطبِّق المقولات الفلسفية السائدة في عصره على اليهودية. ولا يمكن الفصل بين الجانب التحليلي والجانب التركيبي، فالتحليل مثل التركيب كان يتم من خلال المقولات الفلسفية السائدة في الحضارات التي كان الفيلسوف من أعضاء الجماعات اليهودية يعيش بين ظهرانيها. ومن ثم، لا يمكن الحديث عن «فلسفة يهودية» وإنما عن محاولات قام بها مفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية لتطبيق النظم الفلسفية المختلفة على العقيدة اليهودية والمزاوجة بينهما، وهي محاولة لا تتسم بكثير من التجانس نظراً لوجود الجماعات اليهودية داخل تشكيلات حضارية مختلفة تؤثر كل منها في المفكرين بطريقة مختلفة. ولذا، فإن دراسة فكر هؤلاء لا يكون إلا بالعودة للحضارات التي يعيشون بين ظهرانيها.
والعهد القديم، مثله مثل أي كتاب مقدَّس، لا يحوي نسقاً فلسفياً واضحاً، وإنما يستند إلى نسق كامن مركب يعبِّر عن نفسه في العقائد الأساسية الخاصة بطبيعة الخالق والخلق والوحي والتوحيد والعدالة الإلهية ومعنى التاريخ، وهلم جرا. كما أن التراث الديني اليهودي، من خلال الأجاداه، كان يحاول الإجابة على أسئلة فلسفية بطريقة غير فلسفية، من خلال الرموز والقصص. وتوجد تساؤلات فلسفية في كلٍّ من التلمود وكتب القبَّالاه، ولكن الاجابة عليها لا تتم بالطريقة الفلسفية المنهجية وإنما من خلال الأسطورة والأمثولة والصورة والمجاز. ولم يظهر التفكير الفلسفي المنهجي بين اليهود إلا في القرن الأول قبل الميلاد في فلسفة فيلون السكندري الذي حاول المزاوجة بين الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية والرواقية) والعقيدة اليهودية. ولكن فلسفته لم تترك أثراً في التطور اللاحق لليهودية، بينما تأثر بها اللاهوت المسيحي. وتأثر المفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية في الدولة الإسلامية بعلم الكلام (الذي هو بدوره، في جانب من جوانبه، رد الفعل الإسلامي للفلسفة اليونانية).
ويبدو أن اليهودية وجدت نفسها دين أقليات متناثرة تواجه دينين سماويين توحيديين تتبع كل منهما إمبراطورية مترامية الأطراف وترفض كلٌ منهما اليهودية. ولذا، ظهر فكر ديني يهودي يحاول تفسير هذه الظاهرة عقلياً ويرمي إلى الدفاع عن اليهودية وإثبات شرعيتها. وأولى هذه المحاولات محاولة داود بن مروان المقمص، وتبعتها محاولة سعيد بن يوسف الفيومي، اللذين نقلا فكر المعتزلة إلى الفكر الديني اليهودي. وهما، في هذا، لا يختلفان كثيراً عن القرّائين. وتأثر الفكر الديني اليهودي بالحوار الذي جرى داخل الفلسفة الإسلامية بين الفلسفة وأعدائها، فدافع عن الفلسفة أبراهام بن داود، وموسى بن ميمون، ولاوي بن جرشون (جيرونيدس)، وحسداي قرشقاش. وهاجم الفكر الفلسفي كلٌّ من سليمان بن جبيرول وابن فاقودة ويهودا اللاوي.
وفي العصر الحديث، يبدأ التفكير الفلسفي بين اليهود في كتابات إسبينوزا فيلسوف العَلمانية الذي وجَّه سهام نقده لليهودية خاصة، وللفكر الديني عامة، لدرجة يصعب معها الحديث عنه باعتباره مفكراً دينياً. ولذا، قد يكون من الأفضل أن نبدأ بموسى مندلسون فيلسوف حركة التنوير بين اليهود، والذي تبنَّى فكر حركة الاستنارة الغربية والفلسفة العقلانية وطبقه على اليهودية بعد إفساح المجال للوحي، وهذا ما جعل فكره ربوبياً إلى حدٍّ ما. وقد تأثر المفكرون اليهود بفكر هيجل كما يتضح في كتابات كروكمال. أما هرمان كوهين فتأثر بفلسفة كانط. وظهر فلاسفة يهود آخرون في العصر الحديث حاولوا إعادة صياغة اليهودية مستخدمين مقولات الأنساق الفلسفية السائدة. فنجد فرانز روزنزفايج، ومارتن بوبر، وليوبايك، وأبراهام هيشيل، يحاول كل منهم بطريقته استخدام مقولات نسق فلسفي ما (وجودي أو مثالي) لإعادة تفسير اليهودية (وقد تناولنا كتابات مثل هؤلاء المفكرين الدينيين في المجلد السادس الخاص باليهودية).
ويمكن أن نضع الصهيونية في هذا الإطار، فهي محاولة لتطبيق مقولات الفكر الرومانسي القومي العنصري على اليهودي. وتأثر معظم المفكرين الصهاينة (هرتزل ونوردو وآحاد هعام) بفلسفة نيتشه وأفكاره عن القوة وأخلاق العبيد والإنسان الأعلى أو الأسمى. ويُلاحَظ أن كثيراً من الموضوعات الصهيونية وجدت طريقها إلى كتابات الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية، حتى أولئك الذين لم يهتموا بالصهيونية أو ناصبوها العداء، ومن أهم هذه الموضوعات موضوع «سر بقاء الشعب اليهودي»، ومحاولة تفسيره إما من خلال مقولات هيجلية أو من خلال مقولات نيتشوية أو وجودية. ورغم أن الموضوع يُناقَش بشكل فلسفي مجرد للغاية، وليس له علاقة كبيرة بالتطبيقات السياسية، إلا أن هذا الموضوع نفسه يشكل الفكرة المحورية في النسق العقائدي الصهيوني الذي هو بدوره علمنة لفكرة الشعب المختار أو الشعب المقدَّس. ومن ثم، نجد أن هذه الكتابات إنما هي تسويغ واع أو غير واع للغزوة الصهيونية من خلال ديباجات فلسفية معاصرة.
ويوجد فلاسفة يهود كان اهتمامهم باليهودية ضعيفاً أو منعدماً، أو تعبيراً عن موقف فلسفي عام يتجاوز اليهودية في حد ذاتها. ولذا، فإن إسهامهم الأساسي كان يصب في التيار العام للفلسفة الغربية، ومعظمهم من اليهود غير اليهود، أي اليهود الذين لا يؤمنون بالعقيدة اليهودية ولا يتمسكون بإثنيتهم اليهودية حقيقية كانت أم وهمية والذين ازدهروا في الحضارة الغربية بمقدار تمثُّلهم لقيمها وبمقدار تهميشهم هويتهم وفهمهم. وإسبينوزا هو أول هؤلاء الفلاسفة. ويمكن أن نذكر في هذا المقام كارل ماركس، وفرديناند لاسال، وإدموند هوسرل، وهنري برجسون، ولودفيج فيتجنشتاين، وهربرت ماركوز، وهوراس كالن، وجاك دريدا (أي كل الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية الذين ازدهروا على مستوى الحضارة الغربية). وقد يكون لهؤلاء الفلاسفة بعض الملاحظات أو العبارات المؤيدة للصهيونية أو المعادية لهـا أو لليهودية ولكنهـا تظل ملاحظات عرضية (إلا فـي حالة كالـن). وقد لاحظنا أن معظم الفلاسفة العلمانيين من أعضاء الجماعات اليهودية يُعبِّرون في فلسفتهم عن الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية وأنهم يتأرجحون بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع.
ومن الظواهر التي تستحق الدراسة عدم ظهور فلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية يُعتَد بهم عبر تاريخ العالم الغربي والإسلامي، وأن أول فيلسوف يُعتَد به هو إسبينوزا في القرن السابع عشر (هذا على عكس علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأنثروبولوجيا وعلم اللغة، حيث يُلاحَظ وجود عدد كبير من العلماء من أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا في تأسيس هذه العلوم وتطويرها). ولتفسير ذلك يمكن الإشارة إلى أن الفلسفة كانت دائماً مرتبطة بالدين وبرؤية المجتمع للكون، وهو ما كان يعني استبعاد أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم أعضاء في جماعة وظيفية تعيش في داخل المجتمع ولكنها ليست منه. ومع ظهور الرؤية العلمانية المادية للكون وترسُّخها، وتصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع، أصبح بإمكان أعضاء الجماعة الوظيفية (وهم عادةً من حملة الرؤية الحلولية العلمانية) أن يساهموا بدور أكثر فعالية ومباشرة في عملية الإبداع الفلسفي (وفي العلوم الأخرى التي ظهرت بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، أي بعد أن أصبحت رؤية الإنسان الغربي للكون حلولية علمانية). وقد لاحظنا أن الفيلسوف أو المفكر من أعضاء الجماعة اليهودية يحقق ذيوعاً إن تحرك على أرضية حلولية كمونية (روحية على طريقة فيلون أو مادية على طريقة إسـبينوزا) تجعـل التمييز بين عقيدة وأخرى أمراً عسيراً. ومع هذا يُلاحَظ أنه بعد إسبينوزا لم يظهر فيلسوف واحد بارز من أعضاء الجماعات اليهودية، وعلينا الانتظار حتى أوائل القرن العشرين لنقابل بعض الفلاسفة البارزين من بين أعضاء الجماعات اليهودية (برجسون وهوسرل). وقد ترك ماركس أثراً عميقاً في الفكر الفلسفي الغربي ولكنه لم يكن فيلسوفاً بالمعنى المتخصص للكلمة. ولتفسير هذه الظاهرة يمكن القول بأن إسبينوزا ظهر في لحظة انقطاع في الحضارة الغربية (نهاية الرؤية المسيحية وبداية الرؤية العقلانية المادية) وأن برجسون وهوسرل ظهرا هما الآخران في لحظة انقطاع في الحضارة الغربية (عالم ما بعد نيتشه وبداية اللاعقلانية المادية).
ويُلاحَظ تزايد اشتراك أعضاء الجماعات اليهودية في صياغة الفكر الفلسفي النقدي في الغرب (ماركس وفرويد) خصوصاً في فلسفة اللغة، وهو تيار يصل إلى قمته في فكر تشومسكي (الثورة التوليدية) وفكر دريدا (الفلسفة التفكيكية التي تضم عدداً كبيراً من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية). وقد تلاحَظ بعض السمات الأساسية في أنساقهم الفلسفية التي لا يمكن تفسيرها إلا بالعودة لميراثهم اليهودي (مارانية إسبينوزا ومشيحانية ماركس العلمانية وحلولية دريدا... إلخ). ولكن نسقهم الفكري يظل في شكله ومضمونه جزءاً من الفلسفة الغربية ينبع منها ويصب فيها. ولذا، سيُلاحَظ أن تتابع فلسفات هؤلاء الفلاسفة وتغيُّرها ينبع من تاريخ الفلسفة في الغرب.
وفي هذه الموسوعة فرقنا بين المفكرين والفلاسفة، فالمفكرون هم من يتعاملوا مع القضايا الفكرية والفلسفية من خلال مقولات فكرية عامة ليست بالضرورة المقولات الفلسفية المتعارف عليها، كما أن آليات التحليل والخطاب المستخدم مختلفة عن تلك التي يستخدمها الفلاسفة. ومع هذا، بإمكان القارئ أن يعود للباب المعنون «المفكرون اليهود» للتعرف على فكر بعض المفكرين الفلاسفة مثل حنه أرنت وإرنست بلوخ وإيزياه برلين، وغيرهم.
فيلون (بين 10 و15 ق.م - 30 م) والأفلاطونية المُحدَثة
Philo and Neo-Platonism
فيلسوف سكندري هاجر أبوه إلى فلسطين من مصر ضمن الألوف الأخرى من اليهود التي هاجرت (قبل سقوط الهيكل) حتى فاق عدد يهود الإسكندرية يهود القدس. وكان أبوه يلعب دوراً بارزاً في فلسطين، أي أنه كان من أعضاء النخبة اليهودية، التي كانت متأغرقة إلى حدٍّ كبير. وكان أخو فيلون (ليسيماخوس) من كبار المصرفيين ومسئولاً عن الجمارك في الإسكندرية. وكان أثرى رجل في الإسكندرية، بل يُقال إنه كان من أثرى الناس في العالم آنذاك، إذ يقول يوسيفوس المؤرخ إنه أعطى قرضاً ضخماً « للملك » أجريبا الأول، كما أرسل كميات من الذهب والفضة لتزيين بوابات الهيكل اليهودي التسعة في القدس. وكان صديقاً للإمبراطور الروماني كلوديوس تايبيرو. وفيلون هو عم تايبريوس ألكسندر الذي ارتد عن اليهودية وكان حاكماً رومانياً وجنرالاً في الجيش الروماني أثناء حصار القدس عام 70م والذي انتهى حينما أمر تيتوس بهدم الهيكل.
وُلد فيلون في الإسكندرية التي كانت قد تأغرقت جماعتها اليهودية وتحولت إلى جماعة وظيفية (كما تدل على ذلك وظيفة أخى فيلون). وقد بلغ بهم التأغرق حد أنهم نسوا العبرية، فكانوا يؤمنون بأن الترجمة اليونانية للعهد القديم المعروفة باسم «الترجمة السبعينية» مُرسَلة من الإله.
وظهر في الإسكندرية عدد من الكتاب اليهود (ممن كتبوا باليونانية) تُظهر أعمالهم مدى تمثُّلهم قيم الحضارة الهيلينية. وظهر بين هؤلاء أدب يحاول المزاوجة بين الحضارتين اليونانية والعبرانية ولكنها كانت في واقع الأمر محـاولة لإعادة صـياغة اليهـودية على أسـس يونانية هيلينية. كما حاول هؤلاء الكُتَّاب أن يبينوا أن اليهود ليسوا أقل مكانة أو تحضراً من الشعوب الأخرى، خصوصاً اليونانيين.
وكان يهود الإسكندرية يرسلون أبناءهم للجمنيزيوم اليوناني (وهو يعادل المدرسة الثانوية) عندما يبلغون العاشرة من عمرهم تقريبــاً. والجمنيزيوم كان مدرسـة كاملة للجسـد والـروح، مرتبـطة تمام الارتباط بالعقيدة الوثنية اليونانية. ولا شك في أن اليهود الذين درسوا في مثل هذه المعاهد فقدوا ما تبقى لهم من هوية «عبرانية ». وقد أجهـزت المؤسسـات الثقـافية الشعـبية الأخـرى (مثل المسرح والسيرك) على ما تبقى من ترسبات عبرانية في وعيهم وذاكرتهم. ثم كان هناك أخيراً الحراك الاجتماعي، فاليهودي الذي كان يود أن يخدم المدينة، كان عليه أن يصبح وثنياً إذ أن طقوس المدينة السـياسية كانت مرتبــطة تمـام الارتبـاط بالشعائر الدينية الوثنية (وهذا ما فعله تايبريوس ألكسندر، ابن أخي فيلون، وهو بذلك ينتمي إلى نمط أبناء الجيل الثالث من المهاجرين الذين ينسون كل شيء عن وطنهم الأصلي (إلا بضعة قصص أو كلمات) وينتمون تماماً إلى وطنهم الجديد،على عكس أبناء الجيل الثاني ممن يحتفظون ببعض القشور الحضارية من الوطن الأصلي من خلال احتكاكهم بآبائهم).
ولم يكـن فيلـون اسـتثناء من هذه القاعدة، إذ تلقى تعليماًً هيلينياً كاملاً. فهو يذكر في كتاباته عدداً ضخماً من الكُتَّاب اليونانيين وكان يعرف جيداً أسرار الخطابة اليونانية، وتلقى تعليمه في الجمنيزيوم (ويشير إليه في عبارات إيجابية). وحينما تحدث فيلون عن العلوم التي أتقنها موسى، فإنه يذكر أنها الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى والفلسفة والنحو والخطابة والمنطق، وهي العلوم التي كانت تُدرَّس في الجمنيزيوم، والأغلب أنها العلوم التي درسها فيلون نفسه. ومن المعروف عن فيلون أنه كان مغرماً بالمسرح والموسيقى وبمباريات الملاكمة وحضر كثيراً من سباق العربات. كما أنه يذكر في كتاباته أنه كثيراً ما كان يحضر مآدب العشاء التي كانت تتبعها أنواع من التسلية التي سادت في الإمبراطورية الرومانية، أي أنه (على المستوى الثقافي العام) كان متأغرقاً تماماً.
وفي مقابل هذا، لا يذكر فيلون شيئاً عن تعليمه اليهودي رغم أنه كان يعتبر نفسه يهودياً ممارساً للعقيدة اليهودية. والإشارة الوحيدة للتعليم اليهودي في أعماله تبيِّن مدى ضعف صلته، فهو لا يذكر سوى مـدارس السـبت اليهـودية التي كانت تُعقَد لسـماع محاضرات عن الأخلاق. ولم يكن فيلون يعرف العبرية ولا الشريعة الشفوية،كما كان يستخدم الترجمة السبعينية اليونانية. ويبدو أنه،في مرحلة من حياته،انضم إلى جماعة المعالجين (ثيرابيوتاي) وهي جماعة يهودية ذات طابع غنوصي كانت توجد بجوار الإسكندرية،كما أنه عبَّر عن إعجابه بجماعة الأسينيين (أي أنه كان معجباً بجماعات دينية يهودية هامشية).
ومما يُعرَف عن فيلون أنه زار فلسطين ذات مرة، كما أنه كان ضمن الوفد اليهودي الذي ذهب إلى روما ليعرض شكوى يهود الإسكندرية على الإمبراطور كاليجولا بعد ثورة سكان الإسكندرية اليونانيين على أعضاء الجماعة اليهودية فيها. وكان أبيون قد اتهم اليهود بأنهم لا يدينون بالولاء للمدينة أو للإمبراطورية، فأعد فيلون دفاعاً ليلقيه بين يدي الإمبراطور. ولكنه ما أن بدأ في إلقائه حتى قاطعه كاليجولا وصرف الوفد اليهودي.
وأهم مصادر فكر فيلون الفلسفة الأفلاطونية، كما أنه تأثر بأرسطو والفيثاغورثيين الجدد والكلبيين والرواقيين. وقد حاول أن يمزج بين روح الفلسفة اليونانية (خصوصاً فلسفة أفلاطون) وعقائد الدين اليهودي (خصوصاً فكرة الوحي الإلهي والعهد القديم)، فكان يرى أن الفلسفة اليونانية وحي عميق، ومصدراً لبيان الحقائق بينما الكتاب المقدَّس وحي واضح جلي لبيان ما في هذا الكون من حق. بل إنه كان يرى، شأنه شأن كثير من الكُتَّاب اليهود المتأغرقين. أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التقاليد العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذا تعاليمهما من موسى ومن التوراة. ورغم كل هذا، لا يمكن تصنيف فلسفة فيلون إلا على أنها فلسفة يونانية تنتمي أساساً إلى التقاليد الأفلاطونية بعد اختلاطها بالعبادات السرية.
والوجود الإلهي في نظر فيلون هو الكمال المطلق، والوجود الحق، والموجود حقاً، والصلة الأولى، وأبو العالم ونفسه وروحه الذي لا يمكن أن نعرفه بإدراك عقلي ولا يستطيع الفكر إدراك كنهه، أو هو (بمعنى أدق) لا يدخل في نطاق العقل الإنساني (وبهذا فهو يشبه الإله الخفي في الفكر القبَّالي والفكر الغنوصي). والإله لا يسـتطيع أن يحكم هذا العالم مباشـرةً، فاستعان فيلون بالمفهوم الأفلاطوني الخاص بالأشكال أو النماذج المثالية أو الأفكار المطلقة والتي يسميها فيلون «القوى التي تحدد أشكال العالم المرئي». هذه الأشكال هي أفكار الإله قبل خلق العالم، ولذا، فهي أدواته التي يفرض من خلالها النظام على العالم. ويُفسِّر فيلون رغبة موسى في أن يرى جلال الإله رؤية العين، فيقول: إنها رغبة في رؤية القوى الإلهية، لكن الإله يخبره أن أحداً لا يمكنه أن يدرك هذه القوى، بل يمكن فقط رؤية أثرها في العالم تماماً كما يرى الإنسان أثر الختم في الشمع دون أن يرى الختم نفسه. فهذه القوى هي مصدر كل من البنية الكامنة والنظام الواضح في العالم، وهي بمنزلة الوسيط بين الملك والكون.
وأهم الوسطاء (والفكرة العليا التي توحِّد القوى كافة) اللوجوس (الكلمة) التي تُعبِّر عن الإله ولكنها منفصلة عنه. فمن خلالها خلق الإله العالم، وبواسطتها يتجلى في الوجود كما تتجلى آثار الشمس في أضوائها. وبهذه الوسيلة، فإنه موجود دائماً، حاضر في كل شيء، فعّال في الأشياء التي تفيض منه دون أن ينفعل على الإطلاق. إن اللوجوس هو الوكيل الذي تتجلى من خلاله عظمة الإله في العالم المادي. وقد سماه فيلون «أول أبناء الإله» و«صورة الإله». وقد يكون اللوجـوس هو ما يتجسـد في التوراة التي أرسـلها الإله للبشـر. واللوجوس لا يحل فقط في الكون والتوراة وإنما يحل في الإنسان نفسه أيضاً. فأرواح البشر أصلها الإله، ولذا فإن الإنسان يمكنه أن يصل إلى فهم طبيعة الإله لا من خلال الإدراك الروحي وإنما من خلال التأمل الصوفي وروح النبوة. وحتى يتم ملء كل الثغرات تماماً (وهذا متوقع في رؤية حلولية كمونية فيضية للإله). يقول فيلون: بعد اللوجوس، يأتي نموذج العالم ويليه الحكمة ثم رجل الإله أو آدم الأول ثم الملائكة ثم الإله نفسه، وأخيراً القوى وهي كثيرة: ملائكة وجن ناريون وهوائيون يُنفِّذون الأمر الإلهي. والتماثل البنيوي بين هذه الأفكار والقبَّالاه واضح للغاية. وعلى كلٍّ، ورغم مهاجمة فيلون للغنوصية، فثمة أثر واضح للغنوصية في فكره يتضح بشكل خاص في رؤيته للجسد باعتباره سجن الروح التي تهرب من الجسد وتعود للإله وتلتحم به.
وثمة رأي يذهب إلى أن النزعة الحلولية القوية في فكر فيلون هي في واقع الأمر محاولة من جانبه لأن يجعل اليهودية قادرة على التنافس مع عبادات الأسرار (الحلولية) ذات الطابع التبشيري القوي والتي جذبت كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية. وهذا تفسير براني تراكمي، فالفلسفات والعبادات التي انتشرت في العالم الوثني الروماني بعد أفلاطون وأرسطو (الرواقية ـ الأبيقورية ـ الفيثاغورثية الجديدة ـ الأفلاطونية الحديثة ـ الغنوصية ـ الأورفية... إلخ). كانت فلسفات وعقائد حلولية. وفيلون السكندري جزء من هذا التيار الحضاري العام بغض النظر عن البُعد اليهودي في تفكيره ووجدانه.
وتأخذ الحلولية عند فيلون طابعاً كوزموبوليتانياً كونياً (كما هو الحال في الرواقية والأبيقورية والأفلاطونية الحديثة). ولذا، فإن الإله ليس رب اليهود وإنما هو رب الكون. ويتوقف الحديث عن الشعب المقدَّس، ولا يوجد أثر للنزعة المشيحانية المرتبطة بالحلولية اليهودية. وقد أوَّل فيلون قضية جمع شمل اليهود في بلد واحد بعد توبتهم (أي الشتات والعودة) بأنه يعني اجتماع الفضائل في النفس وتناسقها بعد ما تُحدثه الرذيلة من تشتُّت. أما الوعد بخيرات مادية للشعب، فهو وعد بالخيرات الروحية للنفس الصالحة وسيادة الشريعة على العالم. ويفسر فيلون كلمة «يسرائيل» بأنها « الرجل أو الشعب الذي يرى الإله ». وهذا أمر ليس مقصوراً على اليهود وحسب، وكل ما في الأمر أن اليهود يقومون على خدمته. واليهودية، من ثم، ليست انتماء عرْقياً وإنما عقيدة دينية. وعلى ذلك، فقد كان فيلون من دعاة التبشير باليهودية وبأنه يتعيَّن على اليهودي أن يكون مواطناً في البلد الذي يقيم فيه.
ويتجاوز فيلون أحياناً المنظومة الحلولية، فيُظهر الإله منزهاً عن الكون، غير خاضع لقوانين الطبيعة، قادراً على أن يوقفها. كما أن التشبيهات الغليظة والصور التجسيمية التي ترد في العهد القديم (وهي تعبير عن الحلولية اليهودية) يتم تأويلها وتخليصها من ماديتها. كما لجأ إلى التفسير الرمزي لمعاني العهد القديم حتى يخلِّص كثيراً من النصوص من معانيها الحلولية الوثنية إن فُسِّرت حرفياً. وفي المجال الأخلاقي، يتميَّز فيلون عن الحلولية الوثنية بأنه يؤمن بحرية الإرادة. وحينما تحدث عن الفضائل فقد تحدث عن فضيلة العدالة وأدرج الإيمان الديني والإنسانية ضمن الفضائل، كما أنه يرى أن الندم على الخطايا فضيلة (بينما هو ضعف من وجهة نظر الفلاسفة الوثنيين).
وكتابات فيلون إسقاط لكثير من القيم الهيلينية على التراث الديني اليهودي وليست مزجاً بينهما. ومن ثم، فإنه لم يترك أثراً واضحاً في التطور اللاحق للفكر الديني اليهودي، في حين استفاد منه الآباء المسيحيون (أمبروزو و أوريجين) استفادة بالغة بحيث يمكن أن نقول إن فلسفة فيلون هي مسيحية جنينية. وقد تركت طريقته في التأويل الرمزي أعمق الأثر في التراث المسيحي ومن أهم إضافاته أيضاً رموز الأنبياء.
وقد صنفته الموسوعة البريطانية كرائد من رواد اللاهوت (بالإنجليزية: فورانر forerunner) المسيحي ومؤسس الفلسفة الوسيطة المسيحية.
المفضلات