2
ـ فرنسا وإيطاليا:

وجد دعاة التنويراليهودي حليفاً في الحكومة الفرنسية، حيث ركزت الثورة الفرنسية على التعليمومؤسساته بهدف دمج أعضاء الجماعات اليهودية. ولم تواجه عملية دمج السفارد أيةصعوبات ذات بال، لأن قيادات الجماعة اليهودية السفاردية كانوا من كبار المموِّلينالذين يحتاج المجتمع إلى خبراتهم واتصالاتهم الدولية، كما أن لغتهم (اللادينو) لغةلاتينية قريبة من الفرنسية وثقافتهم إسبانية قريبة من ثقافة فرنسا اللاتينيةالكاثوليكية. وقد كانت مؤسساتهم التربوية منفتحة للغاية ولا تستبعد العلومالعلمانية (وهذا ما بينه المفكر السفاردي دي بنتو في خطابه لفولتير). ولذا، يُلاحَظأن كل أطفال اليهود الذين بلغوا السن القانونية في عام 1808 كانوا يذهبون إلى مدارسحكومية في جنوب ووسط فرنسا، هذا على عكس يهود الألزاس واللورين الذين كانوا من يهوداليديشية، وكانت ثقافتهم ألمانية سلافية تفصلهم عن محيطهم الفرنسي اللاتينيالكاثوليكي. كما أنهم كانوا فقراء متخلفين، ولذا قاوموا المحاولات الرامية لدمجهم،ولم تَزد نسبة الأطفال اليهود الذين سجلوا في مدارس حكومية عن 10%. غير أن الدولةالفرنسية اتبعت سياسة نشطة في عملية الدمج وفتحت المدارس أمام أعضاء الجماعةاليهودية، وفتحت أبواب الحراك الاجتماعي أمام المتعلمين منهم. ولذا، فإننا نجد، معمنتصف القرن التاسع عشر، أن أعضاء الجماعات اليهودية أخذوا في إرسال أولادهم إلىالمدارس الحكومية العلمانية، واكتفوا بالمدارس التكميلية (بعد انتهاء اليومالمدرسي) لتعليم أولادهم الدين اليهودي وما يُسمَّى «التاريخ اليهودي».

وقدتدهور التعليم التقليدي، وأغلقت معظم المعاهد التلمودية العليا أبوابها. وبديلاً عنذلك افتُتحت في باريس عام 1859 كلية للدراسات الحاخامية تُسمَّى المدرسةالحاخامية.

ولم تختلف الأوضاع التعليمية في إيطاليا عنها في جنوب فرنساكثيراً حيث كانت الجماعة اليهودية في إيطاليا تتسم بالانفتاح النسبي. وقد تدهورالتعليم اليهودي التقليدي مع تزايد هجرة اليهود من البلدان الصغيرة إلى المدنالكبرى. وقد قام أعضاء الجماعة اليهودية المتيسرون بإرسال أولادهم إلى المدارسالعامة ثم تبعهم في ذلك باقي أعضاء الجماعة.

وفي عصر الاستنارة والتنوير،نشب صراع بين المحافظين والتجديديين حول منهج التعليم. ولكن أياً من الفريقين لميطالب بإلغاء المواد الدينية أو المواد العلمانية تماماً، وانصرف الخلاف إلى طريقةتحقيق التوازن بينهما.

وبلغ عدد الطلبة المسجلين في المدارس اليهوديةالمعترف بها من الحكومة 1,600طالب عام 1901، ولم تزد المواد الدينية التقليدية فيهذه المدارس عن ساعة واحدة يومياً، وشملت القراءة والصلوات وأجزاء من أسفار موسىالخمسة وكانت تُلقى المواعظ الدينية باللغة الإيطالية. كما تدهورت الأوضاعالتعليمية في معهد الدراسات الحاخامية المعروف باسم «كوليجيو رابينكو» وقلَّ عددطلابه.

3
ـ إنجلترا:

ظلت إنجلترا خالية من اليهود تقريباً حتىالقرن السابع عشر حيث سُمح لهم بالاستقرار. وكان عدد أعضاء الجماعة اليهودية فيهاصغيرا للغاية. ومع هذا، كان للجماعة اليهودية في إنجلترا شبكة واسعة من المدارساليهودية، وذلك قبل تطبيق قانون التعليم الإجباري العام في إنجلترا عام 1870. وقدتأسس كثير من هذه المدارس خلال القرن التاسع عشر، خصوصاً شبكة المدارس الحرة (بالإنجليزية: «فري سكولز free schools») التي كان يَدرس بها عام 1850 نحو 2000 طفليهودي من إجمالي تعداد أعضاء الجماعة البالغ في تلك الفترة 35000 شخص. كما كانتتوجد مدارس يهودية خاصة ذات مستوى أفضل من المدارس الحرة. ومما يُذكَر أن غالبيةهذه المدارس، وخصوصاً المدارس الحرة، كان يقدم تعليماً علمانياً إلى جانب قدر ضئيلمن الدراسات اليهودية، كما وُجدت فصول دينية مسائية ومدارس أحد لتعليم اللغةالعبرية. كذلك أُسِّست مؤسسات يهودية للتعليم العالي في منتصف القرن التاسع عشر، منأهمها كلية اليهود Jews' College التي تأسَّست عام 1855.

ومع صدور قانونالتعليم الإجباري عام 1870، توقَّف تأسيس مدارس حرة جديدة. كما شهدت المدارساليهودية الخاصة تدهوراً حاداً. ولكن، مع بداية تدفق يهود اليديشية من شرق أورباعام 1881، أثارت ضحالة برامج الدراسات الدينية في المدارس اليهودية استياءالمهاجرين الجدد، ولذا فضلوا إقامة عدد من المدارس التقليدية وإرسال أولادهمإليهـا. فانتشرت المـدارس الابتدائية الدينية التقليـدية مثـل المـدارس الابتدائيةالخاصة (حيدر) والخيرية (تلمـود تـورا) في جميع أنحاء البلاد. إلا أن مستوى هذهالمدارس كان بدوره هابطاً للغاية ولا يُقــارَن بمـستوى مثيلتهـا في أوربا الشرقية،بل فشلت في تعميق ارتباط طلابها بالديانة والتقاليد اليهودية.

ورغم أن لندنكانت تضم في نهاية القرن واحدة من أكبر المدارس اليهودية في أوربا بل في العالمبأسره، إذ كانت تضم 3000 طالب، إلا أن الهدف الحقيقي من هذه المدرسة كان إضفاءالطابع الإنجليزي على هؤلاء المهاجرين الغرباء إلى إنجلترا وكسر حدة يهوديتهمالزائدة، وفقـاً لإسرائيل زانجويل، في كـتابه أطفال الجيتو (1892).

كما نجدأنه مع تحسُّن أوضاع المهاجرين الاقتصادية، وخروجهم من مناطق تمركزهم في لندن إلىالضواحي والمناطق السكنية الأرقى، بدأت تختفي أيضاً المدارس الدينية التقليديةلتحلّ محلها المدارس الملحقة بالمعبد حيث يتلقى الأطفال بضع ساعات من الدراسةالدينية خلال الأسبوع، وذلك في نظام مشابه لنظام مدارس الأحد اليهودية في الولاياتالمتحدة.

وبالتالي، أصبحت الصورة السائدة في العقد الأول من القرن العشرينهي التحاق الجزء الأكبر من الأطفال الإنجليز اليهود بالمدارس الابتدائية والثـانويةالحكومية وحصولهم على قدر ضئيل من المعرفة بالديانة اليهودية واللغة العبرية منخلال الدراسة التكميلية.

التربية والتعليم عند الجماعاتاليهودية في أوربا الشرقية (روسيا وبولندا) حتى الحرب العالمية الأولى
Education of the Jewish Communities in Eastern Europe (except Russia and Poland) to the First World War
بعد تقسيم بولندا للمرة الثالثة، ضمت روسياغالبية يهود اليديشية. وتزامنت هذه العملية مع تغيرات سياسية واقتصادية كان المجتمعالروسي يمر بها في مجرى انتقاله من مجتمع زراعي إقطاعي إلى مجتمع صناعي. فعلىالصعيد السياسي، قامت محاولة لفرض ضرب من الوحدة على مئات الأقليات والتشكيلاتالحضارية حتى يتسنى للحكومة المركزية التعامل معهم. وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأتتظهر في روسيا اتجاهات نحو التصنيع، وتحديث بنية المجتمع الاقتصادية. وكانت عمليةالتحديث هذه تتم تحت إشراف القياصرة المطلقين وطبقة النبلاء الإقطاعيين، ومن خلالبيروقراطية غير مستنيرة وغير مؤهلة عرقلت عملية تحديث المجتمع، فأدَّى ذلك إلى قيامالاضطرابات والثورات التي انتهت بالثورة البلشفية عام 1917.

وقد حدَّدت هذهالأوضاع علاقة الجماعات اليهودية بكل من المجتمع الروسي والدولة الروسية. فاتبعتالدولة معهم، مثلهم مثل غيرهم من الأقليات، سياسة الترويس بالقوة حتى يتم استيعابهمودمجهم في الثقافة الروسية.

ومنذ بداية القرن التاسع عشر، ومع المحاولاتالأولى للحكومة الروسية في مجال تحديث وترويس الجماعات اليهودية، أدرك المسئولون فيالحكومة الدور الفعال الذي يمكن أن يلعبه التعليم الحديث في هذا المضمار، ومن ثماتخذ المسئولون من التعليم وسيلة لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية ودمجهم فيالإطار الثقافي العام للمجتمع. وساعد الحكومة القيصرية في جهودها رواد حركةالتنوير.

بدأ التيار التنويري يدخل روسيا عن طريق أوربا الغربية وبالذاتألمانيا منذ بداية القرن التاسع عشر. وكانت ليتوانيا وأوكرانيا من المناطق الأولىالتي دخلها الفكر التنويري، وقد حمله إليهما التجار والعلماء المتجولون والأطباء. كما ساعد اشتراك بعض اليهود من مدن ليتوانيا وبولندا في الدوريات التي أصدرها دعاةالتنوير في ألمانيا في نشر الفكر التنويري بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية فيروسيا.

وكان من أوائل دعاة التنوير إسرائيل زاموسك ويهودا هرديتس ويهودامرجوليوث وباروخ تشيك ومنديل ليفين. وقد ساهم هؤلاء التنويريون الأوائل في نشرالثقافة الحديثة عن طريق كتابة أو ترجمة بعض كتب العلوم الحديثة إلى العبرية، فقامباروخ تشيك بكتابة عدة كتب في الرياضيات والفلك، كما ترجم منديل ليفين كتباً فيالطب والرحلات. وقام جونزبرج بترجمة كتاب اكتشاف أمريكا الذي ألَّفه كامب وكتابتاريخ العالم لفولتير، كما ألَّف كتاباً عن تاريخ الحرب الفرنسية الروسية عام 1812. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها اللغة العبرية لنقل العلوم الحديثة.

كذلك قام أحد اليهود الأغنياء (يهوشاو زيتلين) بتأسيس مركز للمستنيرين فيضيعته. واعتمد هؤلاء المستنيرون الأوائل على علاقتهم بالسلطات الروسية كتجار وأطباءوموردي مواد غذائية، وقدموا مجموعة من المقترحات إلى الإدارة الروسية لتحسين وضعاليهود من أهمها إتاحة الفرصة لأعضاء الجماعات اليهودية للاشتغال بالحرف المختلفةوالعمل بالزراعة وفتح مدارس حديثة لهم.

واهتم دعاة التنوير في روسيا منذالبداية، مثلهم مثل دعاة التنوير الألمان، بتأسيس مدارس تجمع مناهجها بين الموادالعامة والمواد اليهودية كوسيلة لتحديث ثقافة الجماعات اليهودية. وكانت أولىالمدارس التي تم تأسيسها على هذا النمط مدرسة أومان التي أسسها هايمان هورويتز. كماأسَّس بزاليل ستيرن مدرسة مماثلة في أوديسا عام 1826، وتلتها مجموعة من المدارس فيكل من ريجا وكشينيف وفلنا. وخلال هذه الفترة، قام إسحق ليفنسون بتوضيح برنامج دعاةالتنوير الروس لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية وتعليمهم. وقام هذا البرنامجأساساً على تأسيس شبكة من المدارس الابتدائية للبنين والبنات تجمع مناهجها بينالمواد الدينية واليهودية والمواد العامة والتدريب على بعض الحرف. كما تضمَّنالبرنامج تأسيس مدرسة ثانوية للمتميِّزين من الطلبة، كما أكد ضرورة نشر الحرفالمنتجة (وبالذات الزراعة) بين الجماهير اليهودية، وضرورة استخدام اللغة الألمانيةأو الروسية في التعليم. وبطبيعة الحال، قاومت القيادات الحاخامية الفكر التنويريالتربوي واتخذت إجراءات عنيفة ضد أيِّ شاب يُقلِّد « البرلينيين ».

ونظردعاة التنوير إلى الحكومة الروسية كنصير لهم في محاولتهم تحديث تربية وتعليمالجماعات اليهودية وأعانوها في تأسيس شبكة من المدارس الحديثة المخصَّصة لليهودوالتي أُطلق عليها اسم «مدارس التاج». وقد أشرف ماكس ليلينتال على تأسيس هذه الشبكةكما حاول إقناع الجماعات اليهودية في روسيا بإرسال أولادهم إليها.

واتجهتجهود الحكومة الروسية، في محاولتها تحديث ثقافة وتربية الجماعات اليهودية، اتجاهين: فتح أبواب التعليم الحكومي لأعضاء الجماعة اليهودية وإقامة مدارس يهودية مخصَّصةلهم تحت إشرافها من جهة، وتحديث نظام التعليم اليهودي القائم من جهة أخرى.

فتحت الحكومة أبواب المدارس والجامعات الروسية للأطفال والشباب اليهودبقرار صدر عام 1804 خلال حكم القيصر ألكسندر الأول (1801 ـ 1825)، إلا أن عددالأطفال والشباب اليهود الذين انضموا إليها ظل منخفضاً جداً حتى عام 1840، فبلغ عددالتلاميذ اليهود في المرحلتين الابتدائية والثانوية 48 تلميذاً من المجموع الكليللتلاميذ المسجلين في المدارس والبالغ عددهم 8017. ولم يختلف الوضع بالنسبة إلىالجامعات، فقد بلغ عدد الطلاب اليهود 15 طالباً من مجموع الطلاب البالغ عددهم 2866.

ويبدو أن سلطة القهال وقفت بشدة ضد هذا القرار ومارست سلطتها في منع الطلاباليهود من الالتحاق بالمدارس والجامعات الروسية. ونظراً لفشل الحكومة في جذب أعضاءالجماعة اليهودية للتعليم في المدارس الحكومية، وضعت الحكومة خطة لتأسيس مدارستُخصَّص لليهود تخضع لإشرافها دون النص على حرمان التلاميذ اليهود من الالتحاقبالمدارس الحكومية، وأصدرت قراراً عام 1844 بتأسيس شبكة من مدارس التاج. وقد تكونتهذه الشبكة من المدارس التالية:

أ ) مدارس أولية من الدرجة الأولى فيالمدن.

ب) مدارس أولية من الدرجة الثانية في الأقاليم.

جـ) مدارسحاخامية لتدريب المدرسين والحاخامات.

وتقرر تمويل هذه المدارس عن طريق فرضضريبة على الشموع التي يستخدمها اليهود في منازلهم يوم السبت. كذلك قررت الحكومةمنح خريجي هذه المدارس الامتيازات نفسها التي ينالها خريجو المدارس الحكومية. وتضمنمنهج هذه المدارس بعض المواد الدينية مثل العهد القديم وتاريخه والصلوات واللغةالعبرية، علاوة على المواد غير الدينية مثل اللغة الروسية وقواعدها والحسابوالجغرافيا وعلمي النبات والحيوان والخط والرسم. وكلفت الحكومة الروسية ماكسليلينتال، وهو تربوي يهودي من دعاة التنوير من ألمانيا، بتأسيس مدرسة يهودية حديثةفي ريجا عام 1840، إلا أن محاولاته باءت بالفشل إذ قاومت الجماعات اليهودية هذهالمدارس مقاومة شديدة، حتى أنها حينما فُتحت كانت شبه مهجـورة ولم يلتحـق بها سـوىأولاد الفقـراء من اليهود. وحتى عام 1857، لم يزد عدد الطلبـة اليهـود المسـجلين فيهـذه المدارس عن 3293.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، ومع تزايد معدلاتالتحديث، وكنتيجة للسياسة الليبرالية التي انتهجها القيصر ألكسندر الثاني والتيفتحت أبواب الحراك الاجتماعي والاقتصادي أمام أعضاء الجماعات اليهودية، تزايدت نسبةالأطفال والشباب اليهود المسجلون في المدارس الابتدائية والثانوية. ففي عام 1853،بلغت نسبة الطلبة اليهود 1.25% من العدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 3.2% عام 1863 حتى وصلت نسبة الطلاب اليهود المسجلين في المدارس الثانوية 13.2% من المجموعالكلي للطلاب عام 1873، وهي نسبة تتجاوز نسبتهم إلى عدد السكان. كذلك زاد عددالطلاب اليهود المسجلين في الجامعات الروسية، ففي عام 1865 بلغت نسبتهم 3.2% منالعدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 8.8% عام 1881. ومع ازدياد تسجيل الطلاباليهود في المدارس الحكومية، أصدرت الحكومة قراراً عام 1872 بإغلاق مدارس التاجالتي أنشأتها الحكومة (إلا في الأماكن التي لا توجد فيها مدارسحكومية).

وقد نال دعاة التنوير دفعة قوية وانتشر فكرهم بين كثير منالشباب اليهودي خلال حكم القيصر ألكسندر الثاني (1850 ـ 1881)، حيث أدَّت السياسةالليبرالية إلى تشجيع كثير من اليهود على إرسال أولادهم إلى المدارس الروسيةالحكومية. كذلك لعبت الصحافة اليهودية، التي كان معظـم مؤسـسيها وصحفييـهاوناشـريها من أتبـاع حركة التنوير، دوراً مهماً في نشر الفكر التنويري داخل مدارسالتاج، مثل: مدرسة ريجا، ومدرسة أوديسا، ومدرسة سانت بطرسبرج التي أسستها جمعية نشرالتنوير.

كما قام بعض المستنيرين من اليهود بتأسيس مدارس لتعليم البنات،فأُنشئت مدرسة في كل من تشرينجوف (1861) وكيشينيف (1864)، ومدرستان في منسك. وجمعتهذه المدارس بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، فدرست المواد الدينية علاوةعلى الروسية والعبرية والألمانية. وقام دعاة التنوير بتأسيس جماعة نشر الثقافة بينيهود روسيا عام 1863 لتشجيع الشباب اليهودي على الالتحاق بالتعليم الحديث وتبنِّيالثقافة واللغة الروسية. وعاونت هذه الجمعية كثيراً من الشباب على الالتحاقبالمدارس الحكومية الحديثة، كما نشرت كثيراً من المطبوعات بالروسية والعبريةواليديشية.

وكوسيلة لترويس وتحديث الجماعات اليهودية، حاولت الحكومةالقيصرية تحديث النظام التعليمي اليهودي التقليدي، ففرضت إشرافها على المدارسالأولية الخاصة (حيدر) وعلى معلميها، كما حاولت تغيير مناهجـها وتحسـين طرق التدريسفيها وتحسين الأوضاع التعليمية داخلها، إلا أن هذه المدارس كان بمقدورها تجاهلقرارات الحكومة نظراً لأنها كانت مدارس خاصة بعيدة عن قبضتها. ومع هذا، فقد تحسنتتجهيزات بعض هذه المدارس وكذلك الأوضاع الصحية داخلها تحت تأثير حركة التنوير، كمازادت رواتب معلميها، إلا أن مناهجها وطرق التدريس فيها لم تتغيَّر كثيراً عما قبل. ولكن أثر جهود كلٍّ من الحكومة وحركة التنوير في المدارس الأولية الخيرية (تلمودتورا) كان أكثر وضوحاً منه في المدارس الأولية الخاصة (حيدر) حيث إنها كانت مؤسساتتمولها الجماعة، فأدخلت بعض المواد غير الدينية على منهجها مثل اللغة الروسية (والترجمة منها إلى العبرية) والحساب، كما أدخلت التعليم المهني والحرف اليدوية فيبرامجها. وأُدخل في هذه المدارس نظام الامتحانات كطريقة للتقييم داخلها. كذلك حاولتالحكومة تحديث المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، فأصدرت عدة قرارات شملت ضرورةتدريس اللغة الروسية والحساب والخط إلى جانب المواد الدينية، وتنظيم أوقات الدراسةداخلها. إلا أن قرارات الحكومة لم تؤثر كثيراً في هذه المدارس نظراً لكونها - كماأسلفنا - مؤسسات خاصة. ولعل أهم نتائج محاولات الحكومة الروسية تحديث ثقافة وتربيةالجماعات اليهودية هو بروز فئة من المثقفين والرأسماليين اليهود لديهم ثقافةعلمانية حديثة.

وباغتيال ألكسندر الثاني عام 1881، زادت الاتجاهات الرجعيةفي روسيا القيصرية، وصدرت عدة قوانين تحدُّ من الحريات ومن فرص الحراك الاجتماعيوالاقتصادي للأقليات والجماعات غير الروسية. ولم تكن الجماعة اليهودية سوى إحدىالجماعات التي وقعت ضحية عملية القمع الرجعية، حيث صدرت قوانين مايو عام 1882 التيقلصت حقوقهم كثيراً. كما صدر قانون النسب (1887) الذي حدَّد نسبة قبول التلاميذوالطلبة اليهود في المدارس والجامعات الروسية، فحُدِّدت نسبة الطلبة اليهودالمسجلين في التعليم العالي والجامعي بـ 11% في منطقة الاستيطان، و5% خارج منطقةالاستيطان، و3% في كل من مدينتي موسكو وبتروجراد، ثم خُفِّضت النسَب إلى 7% و 5% و 2%على التوالي. وأدَّت القوانين الرجعية التي صدرت خلال هذه الفترة إلى تسييس طبقةالمثقفين والمتعلمين من اليهود وانضمامهم إلى الحركات الثورية الروسية أو اعتناقهمالأفكار القومية الصهيونية أو اليديشية. أما الجماهير اليهودية، فقد تعرقل حراكهاوبطؤت عملية استيعابها ودمجها في المجتمع الروسي.

ورغم صدور قوانين عام 1887 التي حددت عدد الطلبة اليهود في التعليم العلماني الحديث، إلا أن الطلب علىالتعليم العلماني استمر بصورة عامة وإن تذبذب بين الارتفاع والانخفاض وفقاً لتطبيقأو عدم تطبيق سياسة النسب التي حددها القانون. وقد بلغت نسبة الطلبة اليهودالمسجلين في الجامعات والمعاهد العليا الروسية 13,2% عام 1894، وهبطت إلى 7% عام 1902، ثم ارتفعت مرة أخرى إلى 12% عام 1907، وعاودت الانخفاض مرة أخرى عام 1913 حتىبلغت 7,3%. فإذا ما أضيف أن عدد الطلاب اليهود المسجلين في جامعات أوربا الغربية،وكان يتراوح بين 1895 و2405 طالب عام 1902/1903، لاتضح أن عدد الطلاب اليهودالمسجلين في التعليم العالي العلماني كان آنذاك آخذاً في الزيادة، ومن ثم استمرتحركة علمنة وتحديث ثقافة طبقة المثقفين والمهنيين اليهود. كذلك تزايد عدد المدارساليهودية الخاصة المتأثرة بالفكر الاندماجي والتي استخدمت اللغة الروسية لغةللتدريس وجمع منهجها بين المواد الدينية وغير الدينية، وإن التحق بها أولادالميسورين فقط من اليهود. فقد بلغ عدد التلاميذ المسجلين في هذه المدارس قبل الحربالعالمية الأولى نحو 30 ألف تلميذ (نحو 7,5% من مجموع التلاميذ اليهود ممن كانوا فيسن التعليم). وظل التعليم في المدرسة الأولية الخاصة (الحيدر) يمثل تعليم المرحلةالأولى لأكثر من نصف الأطفال اليهود المسجلين حيث بلغت نسبتهم 53,8% من مجموعالأطفال اليهود. ولم تنخفض هذه النسبة حتى عام 1910، الأمر الذي يشير إلى أناستيعاب الجماهير اليهودية في الثقافة الروسية كان يتم ببطء شديد. إلا أن التعليماليهودي التقليدي في الفترة 1881 ـ 1917 شهد تغيرات أثرت في فلسفته ومحتواه، إذانعكست عليه عملية التسييس التي حدثت على مستوى المثقفين اليهود، ومن ثم فإن هذاالنوع من التعليم خضع للتيارات الأيديولوجية القومية السائدة بين هؤلاء المثقفين،حيث اتجه كل تيار إلى إقامة مدارس يهودية خاصة به تعكس فكره وأيديولوجيته، كماتكاثرت المدرسة الأولية اليهودية وظهرت أشكال عديدة منها.

وفي أواخرالتسعينيات من القرن الماضي، بدأت المدرسة الأولية المطوَّرة (بالعبرية: حيدرمتوكان) في الظهور. وخضع هذا النوع من المدارس لتأثير الحركة الصهيونية، فكانتالمناهج فيها تجمع بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، إلا أن المواد الدينيةوُجِّهت وجهة صهيونية، فاحتوى منهج هذه المدارس على تعليم اللغة العبرية لا كلغةمقدَّسة، وإنما كلغة قومية تستخدم في شتى المجالات المختلفة للحياة. كما تمت دراسةما يُسمَّى «تاريخ اليهود» وجغرافية إرتس يسرائيل، أي أرض فلسطين، وزاد الاهتمامبالعهد القديم باعتباره التعبير الحقيقي عن الجوهر اليهودي الأصلي والتعبير الأمثلعن اليهود المرتبطين بأرضهم، على عكس التلمود الذي كُتب بعد النفي (أي بعد انتشاراليهود) خارج فلسطين. كذلك دُرِّست بعض المواد غير الدينية الأخرى مثل التاريخالعام والرياضيات واللغة الروسية حيث تمت دراستها بشكل موجز ومختصر. وقد اتبعت هذهالمدارس تنظيماً حديثاً، فحدَّدت ساعات الدراسة وأدخلت نظام الامتحانات ومنحتشهادات لخريجيها. كذلك تم تحسين معداتها وطرق التدريس المتبعة فيها. وكان بعض هذهالمدارس مختلطاً، ثم قامت جمعية أحباء صهيون بتأسيس مدارس مخصَّصة للبنات حيث بدأتإقامة هذه المدارس في جنوب روسيا في منطقة كييف وبساربيا وأوديسا، ثم انتشرت فيمنطقة الاستيطان وفي جاليشيا النمساوية، وكذلك في بعض أجزاء من رومانيا.

وارتبط انتشار المدرسة الأولية المطوَّرة بحركة إحياء اللغة العبرية، فنادىآحاد هعام بـ «أُسَر المدارس» كوسيلة لنشر الفكر الصهيوني واللغة العبرية، وكان منقادتها عدد من الصهاينة مثل وايزمان وديزنجورف والشاعر بياليك. وبعد اعتراف الحكومةالروسية بجمعية أحباء اللغة العبرية عام 1907، أشرفت هذه الجمعية على العديد منالمدارس الأولية للبنين والبنات ودور الحضانة، كما أقامت فصولاً مسائية لتعليماللغة. وفي الوقت نفسه لعبت جماعة نشر الثقافة بين يهود روسيا دوراً مهماً في نشرهذه المدارس، وجُنِّد بعض خريجي المدارس التلمودية للتدريس في هذه المدارس. وطوِّرمنهج جديد لهذه المدارس، وافتُتح فصل جديد لتدريس العبرية عن طريق المحادثة، كماعُقدت برامج صيفية لتدريب معلميها. وفي وارسو، فُتحت حضانة للأطفال اليهود عام 1909، وبدأت دورات تدريبية لمعلمي الحضانات على طريقة فروبل. ونظم معلمو هذهالمدارس أنفسهم في نقابة في جاليشيا. ولعبت نقابة المعلمين دوراً في تحسين التدريبداخل هذه المدارس، فظهرت كتب مدرسية ومطبوعات للأطفال والشباب والكبار باللغةالعبرية.

كما ظهرت مدارس أولية خاصة متأثرة بالفكر القومي اليديشي. ففيعام 1908، صرح مؤتمر شيرنوفتس الذي عقده أتباع هذا الاتجاه بأن اليديشية هي اللغةالقومية للجماعات اليهودية في روسيا، ومن ثم كثفت الدوائر اليديشية جهودها لتأسيسشبكة من المدارس تستخدم اللغة اليديشية كلغة للتعليم. لكن نجاح هذه الحركة كانمحدوداً نظراً لمعارضة كل من الحكومة الروسية والاندماجيين من اليهود والصهاينةلهذا التيار الفكري. ورغم هذا، فإن جماعة نشر الثقافة قامت عام 1909 بإعانة نحو 27مدرسة منها 16 مدرسة للبنات و3 للبنين و 8 مدارس مختلفة احتوى منهجها على تعليماليديشية. وخلال الحرب العالمية الأولى، حينما رفع الحظر عن هجرة يهود منطقةالاستيطان إلى داخل روسيا، كان هناك 42 مدرسة تستخدم اللغة اليديشية مقيَّد بها 6000 تلميذ و130 مُعلماً، كما منحت السلطات الروسية المدارس الخيرية الأولية (تلمودتورا) تصريحاً بتدريس بعض المواد باليديشية. أما المدارس التلمودية العليا، فلميحدث فيها كثير من التغير لا في مناهجها ولا في طرق تدريسها، بل أغلقت الحكومةالروسية عام 1892 مدرسة فولوجين التلمودية العليا لتجاهلها التنظيمات التي أصدرتهاالحكومة الروسية. وقد ظهرت شبكة من المدارس التلمودية العليا في بعض المدن الروسيةتحت تأثير حركة الموزار. كما ظهرت بعض المدارس التلمودية المطوَّرة مثل مدرسة ليداالعليا عام 1905، والتي كان من مهامها إعداد الحاخامات والمعلمين من خلال تعريفهمبالثقافة عامة وإعطاء الطلبة الذين سينخرطون في الأعمال التجارية ثقافة يهودية. وأُسِّست في العام نفسه مدرسة عليا للدراسات اليهودية.

ومع بداية الحربالعالمية الأولى، كان هناك ثلاثون مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) مسجلاً فيها حوالي 10آلاف طالب في روسيا، وقد غطت هذه المدارس معظم دول البلطيق ومعظم بولنداوبساربيا.