الحرب السياسية
خطط كينان لبرنامجه للحرب السياسية في وثيقة مايو 1948 المقدمة لمجلس الأمن القومي8. على الرغم من أن البرنامج يحتوي على العديد من السمات التي تأتي بخلاف عمليات الاستخبارات وبناء الشبكات، لكن هذا البرنامج جدير بالذكر من أجل الوصول إلى رؤية أشمل لدور الحرب السياسية في استراتيجية الولايات المتحدة والمراحل الأولية للحرب الباردة. وقد بدأ كينان البحث بتعريف الحرب السياسية كالتالي:
الحرب السياسية هي التطبيق المنطقي لمذهب كلوسفيتس في وقت السلام. وفي التعريف الأشمل، تكون الحرب السياسية هي توظيف لكل الوسائل تحت أمر الدولة وقصر فترة الحرب لتحقيق أهدافها القومية. وتكون مثل هذه العمليات سرية وعلنية. فهي تتحول من تلك النشاطات العلنية مثل الحلفاء السياسيين والمعايير الاقتصادية و"الدعاية البيضاء" إلى تلك العمليات السرية مثل الدعم السري للعناصر الأجنبية "الصديقة"، والحرب النفسية "السوداء" وحتى تشجيع المقاومة السرية في الدول المعادية9.
وقد لاحظ كينان أن الولايات المتحدة كانت مشتركة بالفعل في تلك النشاطات من خلال مبدأ ترومان وخطة مارشال واللتين تم تنفيذهما استجابة لجهود "الحرب السياسية السوفيتية العدوانية". ومع ذلك، فقد فشلت الولايات المتحدة في تعبئة كل مواردها المطلوبة لكي تقوم بشكل ناجح بشن حرب سياسية سرية ضد الاتحاد السوفيتي.
وقد شمل برنامج كينان للحرب السياسية أربع أنواع متسعة من النشاطات بعضها علني وبعضها سري. وكانت المجموعة الأولى من المشاريع التي وصفها البحث عبارة عن خطط لإنشاء "لجان تحرير". وقد كان الهدف من هذه اللجان أن تكون "مؤسسات أمريكية عامة" بالشكل الأمريكي التقليدي؛ "دعم عام منظم لمقاومة الطغيان في الدول الأجنبية"، وقد كان الغرض منها يتكون من ثلاث أبعاد: العمل "كمراكز نشاط للأمل القومي" للاجئين السياسيين من الجبهة السوفيتية، من أجل تقديم "إيحاء باستمرار المقاومة الشعبية" في دول الجبهة الغربية" والعمل كنواة لكل الحركات البعيدة عن التحرر في حالة الحرب"10. وقد وصف البحث هذه الجهود بأنها "عملية علنية بشكل رئيسي يجب مع ذلك أن يكون لها دعم سري ومساعدة ممكنة من الحكومة". وقد كان يجب ترك عملية تنظيم هذه اللجان إلى"مواطنين أمريكيين خصوصيين موثوق بهم" من أجل تعبئة "القادة اللاجئين المختارين".
وقد كان يجب منح هؤلاء القادة اللاجئين حق الحصول على المطبوعات والميكروفونات للحفاظ عليهم أحياء كرموز عامة في أوطانهم. وقد كانت هذه المجموعة الأولى من البرامج هي التي عملت على إنشاء أو خلق وتنظيم مبادئ اللجنة القومية لأوروبا الحرة (NCFE ) واللجنة الأمريكية للتحرر من الشيوعية الروسية، وهي المنظمات التي قامت برعاية إذاعة أوروبا الحرة (RFE ) وإذاعة التحرير(RL ) والتي عرفت فيما بعد بـ "إذاعة صوت الحرية " بعد عام 1959.
أما المجموعة الثانية من المخططات والتي ما زال العديد منها داخل في حيز التصنيف قد كانت عبارة عن أعمال تهدف بشكل رئيسي إلى إعاقة القوى السوفيتية في أوروبا الغربية وداخل الاتحاد السوفيتي نفسه11. وهذا كان يجب تنفيذه من قِبَل منظمات أمريكية خاصة قد تقيم علاقة مع ممثلين محليين سريين في بلاد حرة ومن خلال هؤلاء الوسطاء تستطيع تقديم يد العون والإرشاد لحركات المقاومة من خلف "الستار الحديدي"12.
أما المجموعة الثالثة من المخططات فقد كانت تهدف إلى دعم العناصر الطبيعية المضادة للشيوعية في الدول المهددة من دول العالم الحر. وتعتبر كل من فرنسا وإيطاليا دليلان للاستشهاد بهما لأنهم ظلوا في وضع غير مستقر في عام 1948. وهذه كانت أيضا عملية سرية يجب الاستفادة فيها من الوسطاء الخصوصيين. وقد كتب "كينان" أن هذا يعتبر مهم من أجل "فصل" هذه المنظمات الخاصة عن منظمات المجموعة الثانية من المخططات، التي من المحتمل أن تشير إلى المنظمات التي في المقدمة والتي قد توجه أسلحتها بشكل مركز على الجماعات المتخفية وراء "الستار الحديدي"(الحاجز الذي يفصل بين الدول الشيوعية الواقعة في أوروبا الغربية وبين باقي دول أوروبا)13. وهذه كانت المخططات المتعلقة بشكل كبير بنشاطات بناء الشبكات. وقد تم دفع مبالغ ضخمة من قِبَل مكتب التنسيق السياسي OPC ))ومؤخرا من (CIA ) للأحزاب الساسية المعارضة للشيوعية واتحادات العمال والجماعات الطلابية والمؤسسات الفكرية. أما عن كيفية تمويل وتنظيم وتأسيس هذه الجماعات، فهذا ما سوف يتم مناقشته بالتفصيل في الفصل التالي.
أما عن المجموعة الرابعة والنهائية من المخططات التي ذكرها كينان فهي"الأعمال المباشرة الوقائية في البلاد المتحررة"14. وهذه الأعمال لم تكن إلا "ضرورة ملحة" من أجل "منع المعسكرات الحيوية أو المواد الأخرى أو
الأشخاص الموظفين من أن (1) يتم تصفيتهم أو تدميرهم أو(2) من أن يتم أسرهم من قِبَل العملاء أو المؤسسات الخاضعة لكريملن"15. وقد سرد هذا البحث أمثلة لهذه الأنواع من الأعمال السرية مثل "السيطرة على النشاطات التخريبية في حقول النفط الفنزويلية" و "تعيين أفراد رئيسيين مهددين من قبل كريملن ويجب حمايتهم أو التخلص منهم في مكان آخر"قد تمت الموافقة السرية جداً على رؤية كينان من أجل الحرب السياسية وأصبح توجيه صادر من NSC 10/ 2 16. وقد قام هذا التوجيه بالعمل على تأسيس مكتب المخططات الخاصة (الذي تم إعادة تسميته سريعا باسم مكتب التنسيق السياسي( OPC ). وقد كانت نشاطات OPC تحت رعاية CIA بشكل رئيسي. في الواقع، من عام 1948 حتى عام 1952 كانت OPC قانون حتى على نفسها وتشترك في مجموعة من النشاطات غير المتفق عليها خلف "الستار الحديدي"17.
الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة في إنشاء الشبكات
تم إدارة الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة من أجل خلق شبكات معادية للشيوعية بواسطة OPC تحت قيادة فرانك وينسر. وفي عام 1951، تم دمج الجزء الخاص ببناء الشبكات الذي ستقوم به OPC في إدارة المنظمات الدولية(IOD)، وهي إدارة كاملة من CIA مخصصة لتمويل النشاطات المخصصة للتأثير على أهل الفكر والعمال والطلاب الأوروبيون على كلا جانبي "الستار الحديدي"18. ومن بين المنظمات المشهورة التي تقوم IOD بدعمها هيئة التحرير الثقافي و REF و RL ولجنة اتحاد التجارة الحرة (FTUC)
وجمعية الطلاب المحليين (NSA) وقد كانت كلها جزء مما أطلق عليه بيتر كولمان "المؤامرة التحريرية" لـ CIA" 19.
وقد كان أحد السمات المهمة لهذا المجهود هو الربط بين القطاعات العامة والخاصة. وكما لاحظ ورأى المؤرخ سكوت لوكاس، في هذه "الشبكات الخاصة بالدولة"، تأتي القوة الدافعة لهذه الأعمال ضد الشيوعية من الجانب الخاص بعمل التسويات20. ففي الولايات المتحدة وأوروبا، قد كان هناك بالفعل حركة فكرية مضادة للشيوعية خاصة من اليسار الغير شيوعي. ومع ذلك فقد كان هناك حاجة للتمويل والتنظيم لتحويل الجهود الفردية إلى حملة متماسكة. لم تقم CIA بإنشاء هذه الشبكات من العدم، بل هي نشأت من الحركات السياسية والثقافية المتسعة والتي قامت الولايات المتحدة والحكومات الأخرى بدعمها بشكل منسق.