مسألة
واحتج المخالف بوجوه :

الأول : أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم عليه السلام كان مسجودا للملائكة ، وما كان محمد عليه السلام كذلك ، وأن إبراهيم عليه السلام ألقي في النيران العظيمة فانقلبت روحا وريحانا عليه ، وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة ، ومحمد ما كان [ ص: 169 ] له مثلها ، وداود لان له الحديد في يده ، وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له ، وما كان ذلك حاصلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلا لمحمد صلى الله عليه وسلم .

الحجة الثانية : أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلا ، فقال : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) [ النساء : 125 ] ، وقال في موسى عليه السلام ( وكلم الله موسى تكليما ) [ النساء : 164 ] ، وقال في عيسى عليه السلام : ( فنفخنا فيه من روحنا ) [ التحريم : 12 ] وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام .

الحجة الثالثة : قوله عليه السلام : " لا تفضلوني على يونس بن متى " وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروا بين الأنبياء " .

الحجة الرابعة : روي عن ابن عباس قال : كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحا بطول عبادته ، وإبراهيم بخلته ، وموسى بتكليم الله تعالى إياه ، وعيسى برفعه إلى السماء ، وقلنا : رسول الله أفضل منهم ، بعث إلى الناس كافة ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو خاتم الأنبياء ، فدخل رسول الله فقال : فيم أنتم ؟ فذكرنا له فقال : " لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا " وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها .

والجواب : أن كون آدم عليه السلام مسجودا للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة " وقال : " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وهذا أعظم من السجود ، وأيضا أنه تعالى صلى بنفسه على محمد ، وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه ، وذلك أفضل من سجود الملائكة ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديبا ، وأمرهم بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم تقريبا .

والثاني : أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة ، وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة .

الثالث : أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة ، وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم فإنما تولاها رب العالمين ، ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين .

والرابع : أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم .

فإن قيل : إنه تعالى خص آدم بالعلم ، فقال : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) [ البقرة : 31 ] وأما محمد عليه السلام فقال في حقه : ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) [ الشورى : 52 ] وقال : ( ووجدك ضالا فهدى ) [ الضحى : 7 ] وأيضا فمعلم آدم هو الله تعالى ، قال : ( وعلم آدم الأسماء ) [ البقرة : 31 ] ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله : ( علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] .

والجواب : أنه تعالى قال في علم محمد صلى الله عليه وسلم : ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) [ النساء : 113 ] وقال عليه السلام : " أدبني ربي فأحسن تأديبي " ، و : ( الرحمن علم القرآن ) [ الرحمن : 1 - 2 ] وكان عليه السلام يقول : ( أرنا الأشياء كما هي ) و لمحمد عليه السلام: ( وقل رب زدني علما ) [ طه : 114 ] وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى : ( علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] فذاك بحسب التلقين ، وأما التعليم فمن الله تعالى ، كما أنه تعالى قال : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) [ السجدة : 11 ] ثم : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) [ الزمر : 42 ] .

[ ص: 170 ] فإن قيل : قال نوح عليه السلام ( وما أنا بطارد المؤمنين ) [ الشعراء : 114 ] وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم ) [ الأنعام : 52 ] وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن .

قلنا : إنه تعالى قال : ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ) [ نوح : 1 ] فكان أول أمره العذاب ، وأما محمد عليه السلام فقيل فيه : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ، ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ التوبة : 128 ] إلى قوله : ( رءوف رحيم ) [ التوبة : 128 ] فكان عاقبة نوح أن قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ نوح : 26 ] وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ الإسراء : 79 ] وأما سائر المعجزات فقد ذكر في كتب دلائل النبوة في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه ، والله أعلم .
مسألة
وأما قوله تعالى : ( منهم من كلم الله ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : المراد منه من كلمه الله تعالى ، والهاء تحذف كثيرا كقوله تعالى : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71 ] .

المسألة الثانية : قرئ ( كلم الله ) بالنصب ، والقراءة الأولى أدل على الفضل ، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام : " المصلي مناج ربه " إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى ، وقرأ اليماني : ( كالم الله ) من المكالمة ، ويدل عليه قولهم : كليم الله بمعنى مكالمه .

المسألة الثالثة : اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي ، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره ؟ فقال الأشعري وأتباعه : المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف ، وقال الماتريدي : سماع ذلك الكلام محال ، وإنما المسموع هو الحرف والصوت .

المسألة الرابعة : اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى : ( منهم من كلم الله ) قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا ) [ الأعراف : 155 ] وهل سمعه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ؟ اختلفوا فيه منهم من قال : نعم بدليل قوله : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] .

فإن قيل : إن قوله تعالى : ( منهم من كلم الله ) المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام ، قال : ( وكلم الله موسى تكليما ) [ النساء : 164 ] ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس ، حيث قال : ( فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) [ الحجر : 36 - 38 ] إلى آخر هذه الآيات ، وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم ؟ وإن لم يوجب شرفا فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال : ( وكلم الله موسى تكليما ) [ النساء : 164 ] ؟

والجواب : أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل [ ص: 171 ] الواسطة كانت موجودة .

أما قوله تعالى : ( ورفع بعضهم درجات ) ففيه قولان :

الأول : أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة ، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة ، وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره ، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح ، ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داود عليه السلام ، ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع ، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب ، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه ؛ لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه ، فمعجزات موسى عليه السلام ، وهي قلب العصا حية ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه ، وهو الطب ، ومعجزة محمد عليه السلام ، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار ، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا ، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة ، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مستجمعا للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر .

القول الثاني : أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام ، لأنه هو المفضل على الكل ، وإنما قال : ( ورفع بعضهم درجات ) على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلا عظيما فيقال له : من فعل هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به ، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ، فذكر زهيرا والنابغة ، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة (انتهى كلام الرازي ).


فإن لم يسلم لنا اليهودي بالحجج التي سقناها بدعوى أنه لا يؤمن بمصادر حججنا ، فأولى أن لا نسلّم له بدعواه .