فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: "يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم" قالوا: "صدقت، لست عندنا بمتهم". فقال لهم: "إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة (انتهاز الشيئ واختلاسه )أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه". فقالوا له: "لقد أشرت بالرأي" .
ثم خرج حتى أتى قريشاً ، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: "قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً ، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني". فقالوا: "نفعل". قال: "تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً" .
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: "يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني"، قالوا : "صدقت، ما أنت عندنا بمتهم". قال: "فاكتموا عني"، قالوا: "نفعل فما أمرك ؟" ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ان ارسل ابو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان الى بني قريظة عكرمة بن ابي جهل ،في نفر من قريش وغطفان ،فقالوا لهم :انا لسنا بدار مقام ،قد هالك الخف (الابل ) والحافر (الخيل) ،فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ،ونفرغ مما بيننا وبينه ،فارسلوا اليهم ،ان اليوم يوم السبت ،وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ،وقد كان احدث فيه بعضنا حدثا ،فاصابه ما لم يخف عليكم ،ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم ،يكونون بايدينا ثقة لنا حتى نناجز محمد ،فانا نخشى ان ضرستكم الحرب (نالت منكم كما يصيب ذو الاضراس باضراسه ) واشتد عليكم القتال ان تنشمروا (ان تنقبضوا وتسرعوا الى بلادكم) الى بلادكم وتتركونا ،والرجل في بلدنا ،ولاطاقة لنا بذلك منه فلما رجعت اليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ،قالت قريش وغطفان ،والله ان الذي حدثكم (نعيم بن مسعود ) لحق ،فارسلوا الى بني قريظة :انا والله لا ندفع اليكم رجلا واحدا من رجالنا ،فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ،فقالت بنو قريظة ،حين انتهت الرسل اليهم بهذا :ان الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ،م####د القوم الا ان يقاتلوا ،فان راوا فرصة انتهزوها ،وان كان غير ذلك انشمروا الى بلادهم ،وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم ،فارسلوا الى قريش وغطفان :انا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا ،فابوا عليهم ..وخذل الله بينهم وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرودة ،فجعلت تكفأ قدورهم ،وتطرح ابنيتهم (2)
ظل نعيم بن مسعود بعد ذلك اليوم موضع ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فولى له الاعمال ونهض له بالاعباء وحمل بين يديه الرايات
فلما كان يوم فتح مكة وقف ابو سفيان بن حرب يستعرض جيوش المسلمين فراى رجلا يحمل راية غطفان فقال لمن معه:
من هذا ؟!
فقالوا نعيم بن مسعود..
فقال بئس ما صنع بنا يوم الخندق
والله لقد كان من اشد الناس عداوة لمحمد
وهاهو ذا يحمل راية قومه بين يديه
ويمضي لحربنا تحت لوائه (3)
وكان نعيم رضي الله عنه حريصا كل الحرص على استدراك كل لحظة مضت من عمره في الشرك ليجعل مكانها اياما وشهورا بل وسنوات في طاعة الله جل وعلا والعمل لنصرة دينه واعلاء كلمته
وظل على عهده الى ان توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزن عليه نعيم حزنا شديدا فقد كان يتمنى ان يفدي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله وبكل ما يملك
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبخل نعيم بجهده وماله ونفسه في خدمة الاسلام بل استمر في رحلة العطاء والعمل لخدمة هذا الدين العظيم طوال فترة الخلافة الراشدة لابي بكر رضي الله عنه وكذلك خلال فترة الامارة لعمر وعثمان رضي الله عنهما الى ان جاءت الساعة الحاسمة التي سيلقى فيها ربه عز وجل ليكافئه على كل ما فعله لخدمة الاسلام
قتل نعيم في اول خلافة علي قبل قدومه البصرة في وقعة الجمل وقيل مات في خلافة عثمان فالله اعلم (4)
(1) اخرجه البخاري 6/109ـ 110 المغازي ـ ومسلم 1742 الجهاد
(2) اخرجه ابن سعد 2/69 والطبري 3/ 578 ـ 579 في تاريخه وابن كثير في البداية والنهاية 4:11 وابن حجر في الفتح 7/402
(3) صور من حياة الصحابة ـ د.عبد الرحمن رأفت باشا (ص:423)
(4) الاصابة لابن حجر (6/363)
المفضلات