ثم إن الكبش نظر فرأى الصغير قد أخذته عينه واستثقل نوما، فقال: هنيئا لمن كان فيه سر الأيام الممدودة. إن هذا السر مو كسر النبات الأخضر، لا يقطع من ناحية إلا ظهر من غيرها ساخرا هازئا، قائلا على المصائب: ها أنذا ...
فهذا الصغير ينام ملء عينيه والشفرة محدودة له، والذبح بعد ساعات قليلة؛ كأنما هو في زمنين؛ أحدهما من نفسه، فبه ينام، وبه يلهو، وبه يسخر من الزمن الآخر وما فيه وما يجلبه.
إن الألم هو فهم الألم لا غير. فما أقبح علم العقل إذا لم يكن معه جهل النفس به وإنكارها إياه. حسب العلم والعلماء في السخرية بهم وبه هذه الحقيقة من النفس. أنا لو ناطحت كبشا من قروم الكباش، ووقفت أفكر وأدبر وأتأمل، وأعتبر شيئا بشيء ذهب فكري بقوتي، واسترخى عصبي، وتحلل غضبي كله، وكان العلم وبالا علي؛ فإن حاجتي حينئذ إلى الروح وقواها وأسبابها أضعاف حاجتي إلى العلم. والروح لا تعرف شيئا اسمه الموت، ولا شيئا اسمه الوجع؛ وإنما تعرف حظها من اليقين، وهدوءها بهذا الحظ، واستقرارها مؤمنة ما دامت هادئة مستيقنة.
وقد والله صدق هذا الجذَعُ الصغير؛ فما على أحدنا أن يأكله الإنسان؟ وهل أكلنا نحن هذا العشب، وأكل الإنسان إيانا، وأكل الموت للإنسان – هل كل ذلك إلا وضع للخاتمة في شكل من أشكالها؟
يشبه والله إن أنا احتججت على الذبح واغتممت له، أن أكون كخروف أحمق لا عقل له، فظن إطعام الإنسان إياه من باب إطعامه ابنه وابنته وامرأته ومن تجب عليه نفقته! وهل أوجب نفقتي على الإنسان إلا لحمي؟ فإذا استحق له فلعمري ما ينبغي لي أن أزعم أنه ظلمني اللحمَ إلا إذا أقررت على نفسي بَديّاً أني أنا ظلمته العلف وسرقته منه.

كل حي فإنما هو شيء للحياة أعطيها على شرطها، وشرطها أن تنتهي، فسعادته في أن يعرف هذا ويقرر نفسَه عليه حتى يستيقنه، كما يستيقن أن المطر أول فصل الكلأ الأخضر. فإذا فعل ذلك وأيقن واطمأن، جاءت النهاية متممة له لا ناقصة إياه، وجرت مع العمر مجرى واحدا وكان قد عرفها وأعد لها. أما إذا حسب الحي أنه شيء في الحياة، وقد أعطيها على شرطه هو، من توهم الطمع في البقاء والنعيم، فكل شقاء الحي في وهمه ذاك، وفي عمله على هذا الوهم؛ إذ لا تكون النهاية حينئذ في مجيئها إلا كالعقوبة أنزلت بالعمر كله، وتجيء هادمة منغصة، ويبلغ من تنكيدها أن تسبقها آلامها؛ فتؤلم قبل أن تجيء، شرا مما تؤلم حين تجيء!
لقد كان جدي والله حكيما يوم قال لي: إن الذي يعيش مترقبا النهاية يعيش معدا لها؛ فإن كان معدا لها عاش راضيا بها، فإن عاش راضيا بها كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه ما دام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل. قال لي جدي: والإنسان وحده هو التعس الذي يحاول طرد نهايته، فيشقى شقاء الكبش الأخرق الذي يريد أن يطرد الليل، فيبيت ينطح الظلمة المتدجية على الأرض، وهو لحمقه يظن أنه ينطح الليل بقرنيه ويزحزحه...!

وكم قال لي ذلك الجد الحكيم وهو يعظني: إن الحيوان منا إذا جمع على نفسه هما واحدا، صار بهذا الهم إنسانا تعسا شقيا، يعطى الحياة فيقلبها بنفسه على نفسه شيئا كالموت، أو موتا بلا شيء..!