ويرى ثقاة المؤرخين أن عامة أهل فلسطين الحاليين وخاصة القرويين هم من أنسال الكنعانيين والشعوب القديمة ، مثل شعوب البحر "الفلسطينيون" ، أو من العرب والمسلمين الذين استقروا في البلاد إثر الفتح الإسلامي لها ، وامتزجوا بأهلها الأصليين ، أي أن جذور الفلسطينيين الحاليين تعود إلى 4500 سنة على الأقل ، وهم لم يغادروها أو يهجروها طوال هذه الفترة إلى أي مكان آخر.
ثانياً : إن قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين كان حوالي سنة 1900 ق.م ، والتوراة تعترف أنها كانت أرضاً عامرة وتسميها باسمها "أرض كنعان" ، حتى إن إبراهيم عليه السلام اشترى من أهلها مكاناً يدفن فيه زوجته سارة ، وهو مغارة المكفيلة ، وهي التي بني عليها المسجد الإبراهيمي ، واستقر بنو يعقوب فيما بعد (واسمه إسرائيل أيضاً) ، في مصر بعد ذلك لأجيال عديدة حتى جاء موسى عليه السلام بتكليف إرسالهم إلى الأرض المقدسة حوالي 1250 ق.م.
وحتى سنة 1000 ق.م لم يتمكن بنو إسرائيل سوى من الاستيطان في أجزاء ضئيلة من فلسطين في الأراضي المرتفعة بالقدس ، وفي السهول الشمالية.
ثالثاً : إن ملك داود وسليمان عليهما السلام استمر حوالي ثمانين عاماً فقط (1004 – 923 ق.م) ، وخلالها تمت السيطرة على معظم أنحاء فلسطين باستثناء المناطق الساحلية التي لم تلامسها المملكة إلا من مكان قريب من يافا.
وبعد وفاة سليمان عليها السلام انقسم اليهود إلى مملكتين :
1- مملكة إسرائيل : في الجزء الشمالي من فلسطين ، وعاصمتها في شكيم ثم ترزة ثم السامرة قرب نابلس ، واستمرت حوالي مائتي عام (923 – 721 ق.م) ، وقد سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية" ، لضعفها وقلة شأنها ، وقد قام الآشوريون بقيادة سرجون الثاني بالقضاء على هذه الدولة ونقلوا سكانها اليهود إلى حران والخابور ، وكردستان وفارس ، وأحلوا محلهم جماعات من الآراميين ، ويظهر أن المنفيين الإسرائيليين اندمجوا تماماً في الشعوب المجاورة لهم في المنفى ، فلم يبق بعد ذلك أثر لنسل الأسباط العشرة من بني إسرائيل (يعقوب) ، وهم الذين كانوا يتبعون هذه المملكة.
2-مملكة يهودا: وعاصمتها القدس واستمرت 337 عاماً أي الفترة 923 – 586 ق.م ، ولم تكن تملك سوى أجزاء محدودة من وسط فلسطين ، وقد اعترتها عوامل الضعف ووقعت تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة ، ودخل المهاجمون القدس نفسها مرات عديدة ، كما فعل فرعون مصر شيشق أواخر القرن العاشر ق.م ، والفلسطينيون الذين استولوا على قصر الملك يهورام (849 – 842 ق.م) وسبوا بنيه ونساءه ، كما خضعت للنفوذ الآشوري في عهود سرجون الثاني ، وأسر حدون وآشور بانيبال ، .. إلخ ، وأخيراً سقط البابليون بقيادة نبوخذ نصر "بختنصر" هذه المملكة ، وسبى 40 ألفاً من اليهود إلى بابل في العراق ، وهاجر من بقي من اليهود إلى مصر.
وعلى هذا ، فإن ملك بني إسرائيل استمر في أقصى مداه الزمني حوالي أربعة قرون لكن كان الأغلب على أجزاء محدودة من أرض فلسطين ، وكانت مساحة نفوذهم على الأرض ونفوذهم السياسي تتآكل كلما مر الوقت.
رابعاً : عندما دخلت فلسطين تحت الحكم الفارسي 539 – 332 ق.م سمح الإمبراطور قورش الثاني لليهود بالعودة إلى فلسطين من سبيهم البابلي ، فرجعت أقلية منهم بينما بقيت أغلبيتهم في الأرض الجديدة (العراق) بعد أن أعجبتهم فاستقروا فيها. وسمح لليهود بنوع من الحكم الذاتي تحت الهيمنة الفارسية في منطقة القدس وبمساحة لا يتجاوز نصف قطرها 20 كيلو متراً في أي اتجاه ، أي بما لا يزيد عن 4.8% من مساحة فلسطين الحالية ؟!
وتحت الحكم الهلليني الإغريقي 332 – 63 ق.م استمر وضعهم على حاله تقريباً في عصر البطالمة (302 – 198 ق.م) غير أنهم عانوا من حكم السلوقيين (198 – 63 ق.م) الذين حاولوا فرض عبادة الآلهة اليونانية عليهم. وعندما ثار اليهود على الوضع ، سمح لهم السلوقيون بممارسة دينهم ، وتأسس لهم حكم ذاتي في القدس منذ 164 ق.م أخذ يضيق ويتسع ، وتزداد مظاهر استقلاله أو تضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الزمان على فلسطين. لكنهم ظلوا تحت نفوذ غيرهم ، ولم يتهيأ لهم الاستقلال السياسي الكامل رغم أنهم شهدوا انتعاشاً وتوسعاً تحت زعيمهم الكسندر جانيوس 103 – 76 ق.م وقد غير الرومان الذين بدأوا حكم فلسطين منذ 63 ق.م من سياستهم تجاه الحكم الذاتي اليهودي منذ السنة السادسة للميلاد ، فبدأوا حكماً مباشراً على القدس ، وباقي فلسطين.
وعندما ثار اليهود على الرومان 66 – 70م أخمد الرومان الثورة بقسوة ، ودمروا الهيكل والقدس. كما قضى الرومان على ثورة أخرى وأخيرة لليهود 132 – 135م فدمروا القدس وحرثوا موقعها ، ومنع اليهود من دخولها ، والسكن فيها ، وسمح للمسيحيين فقط بالإقامة على ألا يكونوا من أصل يهودي ، وأقام الرومان مدينة جديدة فوق خرائب أورشليم (القدس) سموها إيليا كابيتولينا ، ولذلك عرفت القدس فيما بعد باسم إيلياء ، وهو الاسم الأول للإمبراطور الروماني في ذلك الوقت هادريان. واستمر حظر دخول اليهود للقدس مائتي سنة أخرى.
خامساً : منذ القرن الثاني للميلاد وحتى القرن العشرين ، وطوال حوالي 1800سنة لم يشكل اليهود أية مجموعة بشرية أو سياسية ذات شأن في تاريخ فلسطين ، وانقطعت صلتهم بها ، سوى ما حفظوه من عواطف روحية ، لم يكن لها تأثير سوى زيارة بعضهم للقدس ، بإذن وتسامح من المسلمين.
ويدعي اليهود ارتباطهم المقدس بأرض فلسطين ، وأنهم لم يخرجوا منها إلا قسراً، وأنهم لو سمح لهم لعادوا كلهم إليها ، وهذا ينطوي على قدر هائل من المبالغة ، إذ يذكر المؤرخون أن أغلب اليهود استنكفوا عن العودة إلى فلسطين بعد أن سمح لهم الإمبراطور الفارسي قورش بذلك. كما يجمع المؤرخون أن أعداد اليهود في فلسطين لم تزد على ثلث يهود العلم قبل أن يحطم الرومان القدس على يد تيتوس في القرن الأول الميلادي. والآن وبعد أكثر من خمسين عاماً على إنشاء الكيان اليهودي لا يزال أكثر من 60% من يهود العالم يعيشون خارج فلسطين ، ويستنكفون عن الهجرة إليها ، خصوصاً من تلك المناطق التي تتمتع بأوضاع اقتصادية أفضل كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
سادساً : انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي منذ 1395م، فتكونت الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية ، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما ، غير أن الإمبراطورية الشرقية ، التي عرفها العرب بدولة الروم ، والتي عرفت كذلك باسم الدولة البيزنطية ، حافظت على الهيمنة على فلسطين باستثناء فترات ضئيلة حتى جاء الفتح الإسلامي.
سابعاً : فتح المسلمون فلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بعد هزيمة الروم في أجنادين واليرموك وغيرها ، ودخلوا القدس في 15هـ / 636م. ومنذ ذلك الزمان اكتسبت فلسطين طابعها الإسلامي ، ودخل أهلها في دين الله أفواجاً ، وتعرب سكانها وتعربت لغتها بامتزاج أبنائها في ظل الحضارة الإسلامية مع القبائل العربية القادمة من الجزيرة ، وظلت متحفظة بشكل عام بطابعها الإسلامي إلى عصرنا هذا.
ثامناً : احتل الصليبيون القدس وأنشأوا مملكة بيت المقدس ، واستمر حكمهم 88 عاماً 1099 – 1187 إلى أن استطاع صلاح الدين الأيوبي تحريرها أثر معركة حطين ، وفيما عدا ذلك فإن فلسطين نعمت بالحكم تحت راية الإسلام 636 – 1917 ، أي حوالي 1200 عام. وهي أطول فترة تاريخية مقارنة بأي حكم آخر ، كان الحكم فيه مسلماً والشعب مسلماً ، وهو ما لم يحظ به أي عهد آخر مر على فلسطين ، ثم إن المسلمين حكموا على مر تاريخهم فلسطين كلها وليس بعضاً منهم. كما ضرب المسلمون المثل الأعلى في التسامح الديني ، فوفروا حرية العبادة لليهود والنصارى ، وأمنوهم على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم ، فكانوا خير من خدم الأرض المقدسة وحمى حرمتها ومنع سفك الدماء.
تاسعاً : إذا كانت المسألة متعلقة بالانتماء القومي والتركيب العرقي ، فهل يستطيع يهود هذا الزمان إثبات أنهم أنسال بني إسرائيل الذين عاشوا في فلسطين قبل ألفي عام ؟
إن الدراسات العلمية الأكاديمية لعدد من يهود أنفسهم ، وعلى رأسهم الكاتب المشهور آرثر كوستلر A. Koestler في كتابه القبيلة الثالثة عشر The Thirteenth Tribe : The Khazar Empire & its Heritage تشير إلى أن الأغلبية الساحقة ليهود هذا الزمان ليست من ذرية بني إسرائيل القدماء ، وأن معظم اليهود الآن هم من نسل يهود الخزر ، وهم في أصلهم قبائل تترية قديمة كانت تعيش في منطقة القوقاز ، وأسست لنفسها مملكة في القرن السادس الميلادي شمال غربي بحر الخزر (بحر قزوين). وقد تهودت هذه المملكة في القرن الثامن الميلادي ، ودخل ملكها بولان في اليهودية سنة 740 للميلاد ، وقد سقطت هذه المملكة في نهاية القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر على يد تحالف الروس والبيزنطيين ، وانتشر يهود الخزر بعد ذلك في روسيا وأوربا الشرقية والغربية ، واستقرت أعداد منهم في الأندلس أيام الحكم الإسلامي ، وبعد سقوطها على يد الأسبان ، هاجروا إلى شمال إفريقيا حيث شملهم تسامح المسلمين ورحمتهم.
عاشراً : إن الحكم الصهيوني المعاصر على معظم أرض فلسطين منذ سنة 1948 لم يتم إلا بالغضب والقوة والبطش والدمار ، وبناء على طرد أهلها وحرمانهم من حقوقهم ، وتحت حماية القوى الكبرى ورعايتها كبريطانيا وأمريكا ، وهو يفتح باباً لسفك الدماء والحروب التي لا يعلم مداها إلا الله.
وهكذا فمن الناحية التاريخية لم يحكم اليهود إلا أجزاء من فلسطين وبما لا يزيد عن أربعة قرون (400عام) ، بينما حكمها المسلمون حوالي 1200 عام. ثم إن أهل فلسطين من الكنعانيين ومن امتزج بهم ظلوا أهلها منذ 4500 عام وحتى الآن، ولم يخرجوا منها على مر العصور ، وهم الذين تنصروا أيام الرومان ، وهم الذين أسلموا فيها بعد ، فبقيت الأرض أرضهم ، والبلاد بلادهم ، أما اليهود فقد انقطعت صلتهم بفلسطين حوالي 1800 عام (135 – 1948) ، ولأصحاب العقل والمنطق أن يجيبوا الآن : من هو صاحب الحق التاريخي في أرض فلسطين ؟
حادي عشر : ما هو التقييم التاريخي الحضاري للدور الذي قام به اليهود في فلسطين ؟
نترك الإجابة لبعض مؤرخي النصارى المشهورين ، فمثلاً يقول هـ.ج ولز في كتاب موجز التاريخ حول تجربة بني إسرائيل في فلسطين بعد السبي البابلي : "كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار ... ومن الأول إلى الآخر لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقية ، وذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم.
المفضلات