إن دعاتنا اليوم في مشارق الأرض ومغاربها لفي أمس الحاجة لإعادة النظر في منهاج حياتهم ودفع رونق المتاع عنهم , والتحرر من ربقة المال , وقيد الرغبات , إنهم جميعا بحاجة أن يستشعروا معنى الحرية الحقيقية حتى يستطيعوا إشعار الناس بها ..
ولم يكن مالك بن دينار وتلك حاله , بحاجة أن يحمل هما لموت أو عقاب .. ولكنه – كباقي الصالحين العالمين – لم يغتر بحالة يمر بها ولا بأمن للدنيا مهما كان حالها معه , فهو في خوف دائم وبكاء مستمر ...
فعن عبد العزيز بن سليمان قال: انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد إلى مالك بن دينار, فوجدناه قد قام من مجلسه فدخل منزله, وأغلق عليه باب الحجرة, فجلسنا ننتظره ليخرج أو لنسمع له حركة, فجعل يترنم بشيء لم نفهمه, ثم بكى حتى جعلنا نأوي له من شدة بكائه.
وقال الحارث بن سعيد: كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارئ يقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1], فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون ويئنون حتى انتهى إلى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قال: فجعل مالك - والله - يبكي ويشهق حتى غشي عليه, فحمله القوم إلى بيته.
أما حمله الذي قد رتب في حياته أنه سيسأل عنه فهو حمل خفيف تمام الخفة , قال عبد الله بن المبارك: وقع حريق بالبصرة, فأخذ مالك بن دينار بطرف كسائه وخرج وقال: هلك أصحاب الأثقال (يعني أنه ليس له متاع يخاف عليه ) ...
وكان يقول: إن الله تعالى إذا أحب عبدًا انتقصه من دنياه وكف عنه ضيعته, ويقول: لا تبرح من بين يدي, فهو متفرغ لخدمة ربه سبحانه , وإذا أبغض عبدًا دفع في نحره شيئًا من الدنيا ويقول: اعزب من بين يدي فلا أراك بين يديّ, فتراه معلق القلب بأرض كذا وبتجارة كذا
قال المغيرة بن حبيب زوج ابنة مالك بن دينار: كان مالك يصلي العشاء الآخرة ويدخل بيته فيقرب رغيفه فيأكل, ثم يقوم إلى الصلاة ولقد رأيته يومًا فعل ذلك, فاستفتح ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرِّم شيبة مالك بن دينار على النار, قال المغيرة: فوالله ما زال كذلك حتى غلبتني عيني, ثم انتبهت فإذا هو قائم على تلك الحال... حتى طلع الفجر...
المفضلات