قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة:
وندين الله عز و جل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون .
سئل شيخ الإسلام بقية السلف الكرام العلامة الرباني والحجة النوراني أوحد عصره وفريد دهره حلية الطالبين ونخبة الراسخين تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني - رضي الله عنه وأثابه الجنة بمنه وكرمه - فقيل :
يا أيها الحبر الذي علمه * * * وفضله في الناس مذكور
كيف اختيار العبد أفعاله * * * والعبد في الأفعال مجبور
لأنهم قد صرحوا أنه * * * على الإرادات لمقسور
ولم يكن فاعل أفعاله * * * حقيقة والحكم مشهور
ومن هنا لم يكن للفعل في * * * ما يلحق الفاعل تأثير
وما تشاءون دليل له * * * في صحة المحكي تقرير
وكل شيء ثم لو سلمت لم * * * يك للخالق تقدير
أو كان فاللازم من كونه * * * حدوثه والقول مهجور
ولا يقال علم الله ما يختار * * * فالمختار مسطور
والجبر - إن صح - يكن مكرها * * * وعندك المكره معذور
نعم ذلك الجبر كنت امراءا * * * له إلى نحوك تشمير
أسقمني الشوق ولكنني * * * تقعدني عنك المقادير
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين ، أصل " هذه المسألة " : أن يعلم الإنسان أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد . وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ؛ فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه ؛ بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه . وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم : قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء
وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون . وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة ويزعمون أنه أمر ونهي وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف : أي مستأنف . وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم وأنكروا مقالتهم كما قال عبد الله بن عمر - لما أخبر عنهم - : إذا لقيت أولئك فأخبرهم : أني بريء منهم وأنهم برآء مني وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم : إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون .