1
ـ أولهذه النماذج هو نموذج الجماعات الوظيفية الذي طورناه لدراسة وضع الجماعات اليهوديةفي العالم الغربي ووضع الأقليات المماثلة في الحضارات الأخرى (الصينيون في جنوب شرقآسيا والهنود في أفريقيا... إلخ). أي أن دراسة الحالة هنا أخذت شكل دراسة أعضاءالجماعات اليهودية في إطار عِلم اجتماع الأقليات والجماعات التجارية الهامشيةوالجماعات الإثنية. وما يحدث لليهودي يحدث لكل أعضاء الأقليات (والجماعات الوظيفية) الأخرى، أي أن اليهودي يظهر باعتباره الإنسان عضو الأقلية الدينية أو الإثنية أوالوظيفية.

2
ـ اكتشفنا الحقيقة البديهية (والتي غابت عن الكثيرين): أنالظاهرة اليهودية ابتداءً من عصر النهضة في الغرب تحوَّلت تدريجياً إلى ظاهرة غربيةبالدرجة الأولى، أي أن السياق الأساسي للجماعات اليهودية في العالم أصبح هو الحضارةالغربية الحديثة. وفي داخل هذا الإطار، اكتشفنا أن تجربة يهود بولندا هي أهمالتجارب التاريخية للجماعات اليهودية سواء من ناحية الكم (الغالبية الساحقة من يهودالعالم الغربي، مع نهاية القرن التاسع عشر، إما من بولندا أو من أصل بولندي) أو منناحية الكيف والتطورات التاريخية اللاحقة. فالصهيونية هي حركة نشأت أساساً في صفوفيهود اليديشية، والتجربة الاستيطانية الصهيونية اللاحقة أكدت أهمية تجربة يهودالأرندا في أوكرانيا كممثلين لطبقة الشلاختا (النبلاء البولنديين) في إطار الإقطاعالاستيطاني في أوكرانيا وثورة شميلنكي ضد هذا الإقطاع.

لكن تاريخ الحضارةالغربية الحديثة منذ عصر النهضة، سواء في شرق أوربا أم خارجها، هو تاريخ التحديثوالتغريب والعلمنة الجزئية والشاملة والمشاكل المرتبطة بظهور الدولة العلمانيةالقومية المركزية. وهذا التاريخ ليس تاريخ العلمنة وحسب وإنما هو أيضاً تاريخالإمبريالية، فتاريخ التشكيل الحضاري الغربي الحديث هو أيضاً تاريخ التشكيلالإمبريالي الغربي الحديث. وقد ارتبطت الجماعات اليهودية في الغرب، منذ البداية،بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، وتحدَّد مسار هجرة أعضاء الجماعات اليهوديةبحركة الاستيطان الغربي. كما أن رؤية الإنسان الغربي للعالم ولذاته وللجماعاتاليهودية أصبحت رؤية علمانية إمبريالية. ومن هنا، كان لابد من توسيع نطاق النموذجليشمل هذه الرؤية. وكان هذا يعني ضرورة تطوير نموذج آخر هو نموذج الرؤية العلمانيةالإمبريالية الشاملة، وهو نموذج أكثر اتساعاً من نموذج الجماعات الوظيفية وأكثرعمومية إذ لا يضع اليهود في سياق الأقليات وحسب وإنما في سياق التشكيل الحضاريالإمبريالي الغربي، وهو التشكيل الذي هيمـن على العـالم بأسره وضمنه أعضـاءالجماعات اليهودية. وقد طبقنا هذا النموذج على اليهود باعتبارهم حالة محددة: أقليةإثنية دينية تعيش في عصر العلمانية الشاملة. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسانالغربي الحديث، وما يحدث له (من اندماج ودمج وتدجين وتوظيف وتنميط وعلمنة وإبادة) هو ما يحدث للملايين من البشر في العصر