إشكالية الموضوعية والذاتية: مقدمة
تترجم الإشكاليات السابقة نفسها إلى إشكالية الموضوعي والذاتي، فإذا كان الإنسان كياناً طبيعياً مادياً فبالإمكان رصده بشكل مادي براني وكأنه شيء بين الأشياء،وهو شيء لا تفرُّد فيه ومن ثم يمكن رده باعتباره جزءاً إلى الكل الطبيعي/المادي يسري عليه ما يسري على الكائنات المادية الأخرى، ومن ثم لا يوجد فارق بين الجزء الإنساني والكل الطبيعي/المادي، فتمحي كل الثنائيات وتُرد كل الظواهر إلى مبدأ (مادي) واحد وننتهي في الواحدية الموضوعية المادية. أما إذا كان الإنسان كياناً مركباً يحوي عناصر مادية تُرد إلى عالم الطبيعة/المادة وعناصر غير مادية، فالرصد البراني، الموضوعي المادي، يصبح غير كاف، ويصبح كل إنسان فرد كيانه مستقل عن الكل، ولا يسقط الإنسان في قبضة الواحدية الموضوعية المادية.

وليام ديلتاى (1833 – 1911(
عالم اجتماع ألماني، كان قليل الكتابة، ويعود إسهامه الأساسي في محاولته التنبيه إلى أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية. وقد أكد ديلتاي أن معرفة الإنسان من خلال الملاحظة البرانية وتبادل المعلومات الموضوعية المادية عنه أمر غير ممكن، فهو كائن ذو قصد، أي أن سلوكه تحدده دوافع إنسانية جوانية (معنى ـ ضمير ـ إحساس بالذنب ـ رموز ـ ذكريات الطفولة ـ تأمل في العقل) يصعب شرحها وشرح أسبابها. والإنسان لا يعيش منعزلاً وإنما يتفاعل مع الآخرين وتتحدد تجربته الشخصية من خلال هذا التفاعل. ولكل هذا، لا يمكننا أن نشرح الإنسان وسلوكه بشكل براني أو نخضعه للتجريب.

ولكن ديلتاي يشير إلى حقيقة أساسية وهي أننا قد لا نعرف العقل البشري بنفس الدرجة أو الطريقة التي تُعرَف بها الأشياء ولكن هناك مناهج أخرى غير مناهج العلوم الطبيعية. فالعلوم الطبيعية لا تنفذ إلى كينونة الأشياء والعمليات الفيزيائية، أما الجوهر الإنساني فيمكننا الوصول إليه مباشرةً من خلال تَفهُّم ومعايشة تجربة الآخر والتعاطف معها وتخيلها وفهم المعنى الذي يسقطه الفاعل الإنساني على فعله.

كما أن ثمة ثنائية جوهرية تبين الفرق بين الإنساني والطبيعي وبين مناهج العلوم الاجتماعية ومناهج العلوم الطبيعية، وهي ثنائية تتبدَّى في قول دلتاي ليس بإمكاننا أن نشرح الإنسان وإنما نحن نشرح الطبيعة بطريقة برانية ونفهم أو نتفهم (فرشتيهن) الإنسان، أي نُفسِّره بطريقة اجتهادية جوانية.