إشكالية الموضوعية والذاتية
«الموضوعية» مصدر صناعي من كلمة «موضوع». والموضوعية هي إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوهها نظرة ضيقة أو أهواء أو ميول أو مصالح أو تحيزات أو حب أو كره. ولذا، فإن وُصف شخص بأن "تفكيره موضوعي"، فإن هذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه تستند إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل وبعد معرفة كل الملابسات والظروف والمكونات.
والموضوعية هي الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجوداً مادياً خارجياً في الواقع، وبأن الحقائق يجب أن تظل مستقلة عن قائليها ومدركيها، وبأن ثمة حقائق عامة يمكن التأكد من صدقها أو كذبها، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المُدركة) إدراكاً كاملاً، وأن بوسعه أن يحيط بها بشكل شامل، هذا إن واجه الواقع بدون فرضيات فلسفية أو أهواء مسبقة، فهو بهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى تَصوُّر موضوعي دقيق للواقع يكاد يكون فوتوغرافياً.
وكلمة «الذاتي» تعني «الفردي»، أي ما يخص شخصاً واحداً، فإن وُصف شخص بأن "تفكيره ذاتي" فهذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنية على شعوره وذوقه. ويُطلَق لفظ «ذاتي» توسعاً على ما كان مصدره الفكر لا الواقع، ومنه الأحكام الذاتية (مقابل الأحكام الموضوعية) وهي الأحكام التي تعبِّر عن وجهة نظر صاحبها وشعـوره وذوقه. فمعرفتنا بالواقـع محـدودة تماماً عن طريق خـبرتنا الذاتية الخاصة وتجربتنا الفريدة ووعينا وإدراكنا.
و«الذاتي» في الميتافيزيقا هو رد كل وجود إلى الذات، والاعتداد بالفكر وحده. أما «الموضوعي»، فهو رد كل الوجود إلى الموضوع، المبدأ الواحد المتجاوز للذات. أما في نظرية المعرفة، فإن «الذاتية» تعني أن التفرقة بين الحقيقة والوهم لا تقوم على أساس موضوعي، فهي مجرد اعتبارات ذاتية، وليس ثمة حقيقة مطلقة، أما «الموضوعية» فترى إمكانية التفرقة. وفي عالم الأخلاق، تذهب الذاتية إلى أن مقياس الخير والشر إنما يقوم على اعتبارات شخصية إذ لا تُوجَد معيارية متجاوزة، أما الموضوعية فترى إمكانية التوصل إلى معيارية. وفي عالم الجمال، تذهب الذاتية إلى أن الأحكام الجمالية مسألة ذوق، أما الموضوعية فتحاول أن تصل إلى قواعد عامة يمكن عن طريقها التمييز بين الجميل والقبيح.
ورغم أن هذه التعريفات تبدو سلسة وبسـيطة، ورغم أن التعارض بين الذاتي والموضوعي سلس وواضح، فإن ثمة مفاهيم معرفية كلية نهائية متضمَنة غير واضحة تجيب على الأسئلة الكلية النهائية (ما الإنسان؟ ما العناصـر المكونة له؟ ما علاقة عقلـه بالواقـع؟ ما الهدف من وجـوده؟ أيهما يسـبق وجوده وجـود الآخر ـ الإنسـان أم الطبيعة؟). وسنلاحظ ابتداءً أن هناك أشكالاً كثيرة من الموضوعية (تماماً كما أن هناك أشكالاً كثيرة من العقلانية)، ولكن المرجـعيات عـادةً غير واضحة. فإذا قلنا "فلنكن موضوعيين" أو "فلنُحكِّم العقل" ولم نزد، فنحن نقول في واقع الأمر "فلنكن موضوعيين ولنُحكِّم العقل في إطار المنظومة المعرفية السائدة التي تسبق كلاًّ من الموضوع والعقل". وفي العصر الحديث، نجد أن المنظومة المهيمنة هي المنظومة المادية ونموذج الطبيعة/ المادة حيث لا فرق بين الطبيعة والإنسان. ولذا، فإن عبارة بريئة مثل «فلنكن موضوعيين» تعني في واقع الأمر «فلنتجرد من عواطفنا وذكرياتنا ومنظوماتنا الأخلاقية وتراثنا ولنرصد الواقع الإنساني والطبيعي كما هو»، أي أن كلمة «موضوعية» بشكل مجرد تعني عادةً «الموضوعية المادية» أو «المتلقية» (تماماً كما أن كلمة «عقل» بشكل مجرد تعني «العقل المادي»). وبهذا المعنى، فإن الموضوعية هي، في واقع الأمر، العقلانية المادية في مرحلة التمركز حول الموضوع (لا التمركز حول الذات). وأنها نتاج الرؤية المتمركزة حول الطبيعة/المادة، وعادةً ما تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة في الطبيعة/المادة (على عكس الذاتية، فهي نتاج الرؤية المتمركزة حول الذات والإنسان، وعادةً ما تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة في الذات).
ويمكن تلخيص الأبعاد الكلية والنهائية (المعرفية) للموضوعية (المادية) بأنها الإيمان بأن العالم (الإنسان والطبيعة) كل متجانس مكتف بذاته. وتبدأ المتتالية النماذجية للموضوعية المادية (شأنها شأن أية منظومة حلولية كمونية مادية) بمرحلة إنسانية ذاتية (واحدية ذاتية ـ تَمركُز حول الذات). ومع تحقُّق المتتالية وبعد مرحلة قصيرة من الثنائية الصلبة تصبح الطبيعة/المادة هي المركز وتهيمن الواحدية الموضوعية المادية (التمركز حول الموضوع) وهذا يعني في واقع الأمر استبعاد الإنسان كعنصر فاعل وتحويله إلى عنصر سلبي متلق، والطبيعة نفسها تتحول إلى كيان بسيط منبسط مُسطَّح يستوعب هذا الإنسان، أي أن ثنائية الإنسان والطبيعة الفضفاضة يتم القضاء عليها لصالح الطبيعة وتسود الواحدية المادية.
المفضلات