بعد أن تتحول العلمانية إلى ظاهرة عالمية يتسع نطاقها لتصبح علمانية شاملة تترك السياسي لتغطي كل مجالات الحياة. فالعلمانية في تَصوُّر د. حنفي لم تعد مجرد فصل الدين عن الدولة وإنما أصبحت رؤية كاملة للكون (تحويل بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان) و"جزءاً من الحياة اليومية". ولذا نجد أن الغرب بتبنيه العلمانية قد تبنى رؤية للكون تم بمقتضاها نفي الدين تماماً من الدساتير، بحيث لم يَعُد الدين ينظم العلاقة بين الأفراد ولا النظم التربوية، ولم يعد يُسمَح بالدعوة الدينية في أجهزة الإعلام. كل هذا يعني في واقع الأمر أن الرؤية العلمانية تغطي كل هذه المجالات وتُزوِّد الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، يمكن للقارئ أن يستخلص ملامحها من كتابات الدكتور حسن حنفي (ولعل وصفه للعناصر العلمانية في الإسلام هو أيضاً وصف لهذه الرؤية للكون(.

8 ـ ويُلاحَظ نفس النمط من التأرجح في كتابات الدكتور عاطف العراقي. فهو يبدأ بتقرير أن ما يُشاع عن العلمانية من اتهامات باطل: فالقول بوجود ترابط بين العلمانية والدعوة ضد الدين جاء عن سوء فهم للعلمانية، فالفصل بين الدين والدولة، والقول بأن الدين لله والوطن للجميع، لا يمكن أن يمثل اتجاهات غير دينية. ثم يسوق الدكتور العراقي تعريفاً فضفاضاً جداً للعلمانية "يتمثل معنى العلمانية أو يدور حول التمييز بين العلم من جهة والدين من جهة أخرى"، أي أنه يقبل الثنائية ووجود حيز علماني وآخر غير علماني. ومادام الأمر تمييزاً فهذا يعني أن لكل مجاله وأن هناك مجالاً للدين في المجتمع. وبالفعل يضيف الدكتور العراقي أن العلمانية "لا تدعو إلى إلغاء الدين وإنما تدعو إلى عدم الاعتراف بالسلطة الدينية" وحسب وإلى "نقد القول بإمكانية وجود حكومة دينية" وإلى «فصل الدين عن الدولة». وضرورة "التمييز بين الدين من جهة ورجال الدين من جهة أخرى" لا يعني دمغاً أو رفضاً للدين. كل هذا يعني أن الدكتور العراقي يدور في إطار العلمانية الجزئية بلا أي إبهام. ولذا فهو يرى عدم وجود أي مجال للتعارض بين التقدم العلمي والقيم الأخلاقية المطلقة أو "مع السمو الأخلاقي الروحي"، بل يمكن أن يكون "التقدم العلمي وسيلة لنشر الأخلاق".