ولكن الدكتور العراقي يتحرك خارج هذا النطاق، ويبدأ الحديث عن مبدأ التنوير. وفلسفة التنوير فلسفة عقلانية مادية شاملة لا تسمح بوجود مطلقات إنسانية أو أخلاقية أو دينية. ثم تدريجياً يتحوَّل هذا العقل إلى المطلق والمرجعية النهائية "فالعقل والعقل وحده هو الركيزة الكبرى" و"إذا أردنا أيديولوجية لفكرنا العربي فلابد أن يكون شعارها تقديس العقل". وفي لغة صوفية جذابة يقول د. العراقي: إن العقل "يمثل النور والضياء واليقين". ونحن نعرف من كتابات الدكتور العراقي الأخرى أن هذا العقل الذي يتم تقديسه هو العقل المادي، وهو عقل عالمي مجرد يقوم على الإيمان بالثقافة الخالدة "الثقافة الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان". وكما هو الحال دائماً، حينما نصل إلى هذه الدرجة من العولمة والكوكبة نكتشف أننا في رحاب العالم الغربي، باعتبار أن الحضارة الغربية الحديثة هي أعظم تجلٍ لهذا العقل. "فعلى أساسه أقامت أوربا حضارتها". ولذا "لا تنوير بدون نشر مبادئ الحضارة الغربية". وهكذا ينتهي الأمر بنا إلى تعريف العلمانية بأنها التحديث على النمط الغربي ونشر مبادئ الحضارة الغربية، وهي علمانية شاملة، تتغلغل في مجالات الحياة كافة، ولا تعرف أية مطلقات من أي نوع، وتمحو أي حيز أو خصوصية تحاول أن تستقل عنها.
ـ ويُعدُّ الدكتور عزيز العظمة من أهم الدارسين العرب لظاهرة العلمانية وتتبدَّى كل الاتجاهات (الجزئية ـ الشاملة ـ المتأرجحة) في كتاباته. فهو يصل بالخطاب العلماني العربي إلى كثير من نتائجه المنطقية. إلا أن الدكتور العظمة يعود ويضيف بعض المطلقات الأخلاقية ثم يعود مرة أخرى للنسبية المطلقة، وهكذا.
يبدأ الدكتور العظمة في عالم التعريفات الجزئية حين يقول: "تعني العلمانية الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن التحكم الرسمي به وبحياته العامة ومعاملاته ومبادلاته وفقاً لمبادئ دين الأكثرية وعقائده وشرائعه.. إلخ، كما تعني المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية، كما تعني صياغة حرية الضمير والمعتقد للجميع". ويُعرِّف الدكتور العظمة ما يسميه «وجه العلمانية السياسي» بأنه عزل الدين عن السياسة، ويُلخص ما يسميه «وجهها المؤسسي» بأنه اعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة خاصة كالأندية والمحافل (أو "كنوادي الشطرنج" إن أردنا استخدام الصورة المجازية التي استخدمها ماكسيم رودنسون، وهي أكثر دقة ودلالة).
المفضلات