الآن عودة إلى التناقضات التى حدثت بين روايات الكتبة
أين تعرفت الجارية على بطرس أول مرة؟
وتتفق الأناجيل في أنه تعرفت عليه في المرة الأولى جارية، وتختلف في تحديد المكان الذي تعرفت فيه على بطرس، فقد ذكر الإنجيليون الثلاثة أنه كان جالساً في ساحة الدار عند النار يستدفئ ، يقول لوقا: "ولما أضرموا ناراً في وسط الدار، وجلسوا معاً جلس بطرس بينهم، فرأته جارية جالساً عند النار، فتفرست فيه، وقالت: وهذا كان معه .." (لوقا 22/55-56)، و(انظر متى 26/69)، و(مرقس 14/66)، وخالفوا يوحنا الذي أخبرنا أن الجارية تعرفت عليه عند البوابة، فهذه الجارية مسؤولة عن البوابة، وقد صرح به يوحنا حين أخبرنا أن تلميذاً من تلاميذ المسيح توسط لبطرس عند رئيس الكهنة ليدخله إلى الدار، "فأدخل بطرس، فقالت الجاريةُ البوابةُ لبطرس: ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان؟" (يوحنا 18/17)، إذاً اكتشف أمر بطرس عند البوابة، خلافاً لما ذكره الإنجيليون الثلاثة الذين أخبرونا بأنه كان جالساً عند النار في ساحة الدار.
من الذي تعرف على بطرس في المرة الثانية والثالثة؟
وأما المرة الثانية، فقد تعرفت عليه حسب مرقس نفس الجارية التي تعرفت عليه في المرة الأولى، يقول: " فرأته الجارية أيضاً، وابتدأت تقول للحاضرين: إن هذا منهم" (مرقس 14/69).
ولكن حسب متى فإن الذي تعرف عليه جارية أخرى غير الأولى " ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك: وهذا كان مع يسوع الناصري" ( متى 26/71 ).
ويخالفهما جميعاً لوقا الذي ذكر أن الذي تعرف عليه هذه المرة رجل من الحضور وليس جارية، فيقول: " وبعد قليل رآه آخر وقال: وأنت منهم، فقال بطرس: يا إنسان، لست أنا" (لوقا 22/58).
ويحاول يوحنا الخروج من الخلاف والجمع بين الأقوال المتناقضة للثلاثة الذين سبقوه، فيستعير قصة الإنكار الثالث لبطرس حين أشار جمع إليه، فيجعلها في الإنكار الثاني، فيقول: "سمعان بطرس كان واقفاً يصطلي، فقالوا له: ألست أنت أيضاً من تلاميذه؟ فأنكر ذاك، وقال: لست أنا" (يوحنا 18/25).
وهذه الصيغة في التعرف على بطرس بواسطة الجموع ذكرها مرقس ومتى في سياق الإنكار الثالث، حيث يقول مرقس: " وبعد قليل أيضاً قال الحاضرون لبطرس: حقاً أنت منهم، لأنك جليلي أيضاً، ولغتك تشبه لغتهم. فابتدأ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه" (مرقس 14/70-71).
وكذا ذكرها متى في الإنكار الثالث، فقال: " بعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس: حقاً أنت أيضاً منهم، فإن لغتك تظهرك، فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف" (متى 26/73-74).
وأما لوقا ويوحنا فجعلا المتعرف على بطرس هذه المرة (الثالثة) رجل واحد، وليس مجموعة من الموجودين في المحكمة، يقول لوقا: " ولما مضى نحو ساعة واحدة أكّد آخر قائلاً: بالحق إن هذا أيضاً كان معه، لأنه جليلي أيضاً، فقال بطرس: يا إنسان لست أعرف ما تقول" (لوقا 22/59-60).
ويصادق على كلامه يوحنا، فيذكر أن هذا الرجل أحد عبيد رئيس الكهنة " قال واحد من عبيد رئيس الكهنة، وهو نسيب الذي قطع بطرس أذنه: أما رأيتك أنا معه في البستان؟ فأنكر بطرس أيضاً" (يوحنا 18/26).
فهل الذي تعرف على بطرس في المرة الثانية نفس الجارية؟ أم جارية أخرى؟ أم رجل؟ وهل أنكر بطرس المسيح في المرة الثالثة بسبب تعرف الجمع على لهجته؟ أم بسبب عبد رئيس الكهنة الذي رأى بطرس في البستان مع تلاميذ المسيح؟
ويعترف بهذا التضارب بين الروايات الأب متى المسكين، فيقول: "أقوال القديس لوقا اختلفت عن أقوال القديس مرقس في المضمون وأنواع الأفراد الذين تصدوا لبطرس وأسباب كل مرة"
لماذا حبس بارباس؟
وتختلف الأناجيل في تحديد السبب الذي من أجله حبس باراباس في سجن بيلاطس، فيذكر يوحنا بأنه كان لصاً "وكان باراباس لصاً" (يوحنا 18/40 ).
واتفق مرقس ولوقا على أنه صاحب فتنة، وأنه حصل فيها قتل، فاستوجب حبسه، يقول لوقا: "أطلق لنا باراباس، وذاك كان قد طرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل" (لوقا 23/19، وانظر: مرقس 15/7).
وأما سفر أعمال الرسل و الذى من المفترض أن كاتبه لوقا أيضاً فينصُّ على أن بارباس كان قاتلاً، وليس مجرد لص أو مشارك في الفتنة، إذ يقول: " أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل" (أعمال 3/14)
من الذي حمل الصليب المسيح أم سمعان؟
وصدر حكم بيلاطس بصلب المسيح، وخرج به اليهود لتنفيذ الحكم، وفيما هم خارجون لقيهم رجل يقال له سمعان، فجعلوه يحمل صليب المسيح يقول مرقس: " ثم خرجوا لصلبه، فسخروا رجلا مجتازاً كان آتياً من الحقل، وهو سمعان القيرواني أبو الكسندروس وروفس ليحمل صليبه " (مرقس 15/20 – 22 ) و (انظر: متى 27/32، لوقا 23/26).
لكن يوحنا يخالف الإنجيليين الثلاثة، فيجعل المسيح حاملاً لصليبه بدلاً من سمعان، يقول يوحنا:
" فأخذوا يسوع ومضوا به، فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له: الجمجمة "
(يوحنا 19/17)، ولم يذكر يوحنا شيئاً عن سمعان القيرواني، فمن الذي حمل الصليب ، سمعان أم المسيح عليه السلام؟
ما موقف المصلوبين من جارهما على الصليب؟
وتتحدث الأناجيل عن تعليق المسيح على الصليب، وأنه صلب بين لصين أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، ويذكر متى ومرقس أن اللصين استهزءا بالمسيح، يقول متى: " بذلك أيضاً كان اللصّان اللذان صلبا معه يعيّرانه" (متى 27/44، ومثله في مرقس 15/32).
بينما ذكر لوقا بأن أحدهما استهزء به، بينما انتهره الآخر، ولم يوافقه في استهزائه وسخريته بالمسيح، يقول لوقا: " وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلاً: إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا. فأجاب الآخر، وانتهره قائلاً: أولا تخاف الله .. فقال له يسوع: الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس" ( لوقا 23/39 - 43).
من الذي طلب ترك المسيح ليحقق المعجزات؟
ويحدثنا مرقس أن المسيح لما كان على الصليب صرخ يطلب الماء "فركض واحد، وملأ إسفنجة خلاً، وجعلها على قصبة، وسقاه قائلاً: اتركوا، لنر هل يأتي إيليا لينزله" (مرقس 15/36)، فقائل العبارة السابقة هو ذلك الذي سقى المسيح، ويوجه خطابه للآخرين قائلاً: " اتركوا، لنر هل يأتي إيليا لينزله".
وهذا وصف ناقضه فيه متى حيث كتب: " وللوقت ركض واحد منهم، وأخذ إسفنجة، وملأها خلاً، وجعلها على قصبة وسقاه. وأما الباقون فقالوا: اترك، لنرى هل يأتي إيليا يخلّصه" (متى 27/48-49)، فجعل القائل لتلك العبارة الآخرون ، فقد طلبوا من الذي يسقي المسيح أن يتركه "اترك"، فمن القائل؟ ومن المخاطَب؟.
متى انشق حجاب الهيكل؟
ويرى الإنجيليون أنه لا يليق أن تكون نهاية المسيح عادية كسائر الأموات، بل لابد أن تصحبها بعض الأحداث الكبيرة، والتي يختلفون في نسجها وفقاً لخيالاتهم الخصبة، لكنهم على أي حال يتفقون على واحدة منها، وهي انشقاق حجاب الهيكل، من غير أن يتفقوا على لحظة حصوله، فمرقس يجعله بعد وفاة المسيح ، فيقول: "فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح، وانشق حجاب الهيكل إلى اثنين، من فوق إلى أسفل" (مرقس 15/37-38)و كذلك متى :"فصرخ يسوع ايضا بصوت عظيم و اسلم الروح و اذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى اسفل و الارض تزلزلت و الصخور تشققت "(متى27/50-51)
أما لوقا المتتبع لكل شيء بتدقيق فإنه يخالف البشير مرقس أول الإنجيلين تأليفاً و متى المقتبِس منه، ويرى أن تلك الأعجوبة كانت قبل موت المسيح، فيقول: "وكان نحو الساعة السادسة، فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة، وأظلمت الشمس، وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه، ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه، في يديك استودع روحي، ولما قال هذا، أسلم الروح" (لوقا 23/44-46)، فانشقاقه كان قبل موت المسيح خلافاً لما زعمه مرقس.
و الآن مع أهم تناقضين فى هذه قصة الصلب إخوتى و هو ما نبنى عليهم استنتاجاتنا
قصة نهاية يهوذا الإسخريوطى
ويتحدث العهد الجديد عن نهايتين مختلفتين للتلميذ الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي خان المسيح، وسعى في الدلالة عليه وتسليمه مقابل ثلاثين درهماً من الفضة، فيقول متى: " لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، قائلاً: قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً. فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة، وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة، لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم" (متى 27/2-5).
ولكن سفر أعمال الرسل يحكي نهاية أخرى ليهوذا وردت في سياق خطبة بطرس، حيث قال: "أيها الرجال الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع، إذ كان معدوداً بيننا، وصار له نصيب في هذه الخدمة، فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما، أي حقل دم" (أعمال 1/16-20).
و كما ترون جميعاً أحدهم يحكى حكاية و التانى بيقول عكسه تماما و سنفصل القصتين و نرى أوجه الإختلاف
1- كيفية موت يهوذا، فإما أن يكون قد خنق نفسه ومات "ثم مضى وخنق نفسه"، وإما أن يكون قد مات بسقوطه، حيث انشقت بطنه وانسكبت أحشاؤه فمات "وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها"، ولا يمكن أن يموت يهوذا مرتين، كما لا يمكن أن يكون قد مات بالطريقتين معاً، ويجدر هنا أن نذكر أن المؤرخ الأسقف بابياس (155م) ذكر أن يهوذا مات دهساً بعربة فانسكبت أحشاؤه!
2- من الذي اشترى الحقل، هل هو يهوذا "فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم"، أم الكهنة الذين أخذوا منه المال "فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري"؟
3- هل مات يهوذا نادماً " لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ... قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً" أم معاقباً بذنبه كما يظهر من كلام بطرس؟
4- هل رد يهوذا المال للكهنة " وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ "، أم أخذه واشترى به حقلاً "فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم "؟
5- هل كان موت يهوذا قبل صلب المسيح وبعد المحاكمة "ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي، حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ... فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ثم مضى وخنق نفسه" أم أن ذلك كان فيما بعد، حيث مضى واشترى حقلاً ثم مات في وقت الله أعلم متى كان؟
6- هل سمي الحقل حقل دم لأنه كان ثمناً لدم المسيح " فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة، لأنها ثمن دم، فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء، لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم"، أم سمي بذلك لأن دم يهوذا قد سال فيه لما انشق بطنه " فإن هذا اقتنى حقلا من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما، أي حقل دم"
ستة اختلافات بين القصتين فمن نصدق و من نكذب؟
ما آخر ما قاله المصلوب قبل موته؟
فيصور متى ومرقس حاله حال اليائس القانط ينادي ويصرخ: " إلهي إلهي لماذا تركتني " ثم يُسلم الروح. ( متى 27/46 – 50، ومرقس 15/34 - 37 )ووضعاها هنا بهذه الطريقة تحقيقا لإحدى نبوءات العهد القديم التى سنتطرق فيما بعد عنها و أحب أن أقول هنا إن النبوءات التى فى العهد القديم و الجديد كلها تتحدث عن نجاة المسيح و ليس عن صلبه .
وأما لوقا فيرى أن هذه النهاية لا تليق بالمسيح، فيصوره بحال القوي الراضي بقضاء الله حيث قال: " يا أبتاه في يديك أستودع روحي، ولما قال هذا أسلم الروح " ( لوقا 23/46 ).
ويتجنب يوحنا وصف مشاعر المسيح دفعاً للحرج، لكنه يسجل مقالة أخرى ينسبها إلى المسيح ويجعلها آخر كلماته على الصليب ، فيقول: "فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل. ونكس رأسه، وأسلم الروح" (يوحنا 19/30)، فأي الكلمات كانت آخر كلام المسيح، وأي الحالين كان حاله على الصليب؟
و بذلك أكون قد انتهيت من الحلقة الثانية من التناقضات و فى الحلقة القادمة سنمحص قصة القيامة و التى على الرغم من قصرها إلا أن نسبة التناقضات فيها أكبر مما قد عرضناه
و الله تعالى أسأل أن يجعل ما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه و عتادا إلى يمن القدوم عليه
إنه بكل جميل كفيل و هو حسبنا و نعم الوكيل
و الصلاة و السلام على نبينا محمد و الحمد لله رب العالمين
المفضلات