وقد فوجئ الصهاينة بأن المهاجرين اليهود قادرون على ارتكاب جميع الجرائم الخطيرة مثل القتل والاغتصاب والسرقة في بلدهم. ولكن هذا يعود دون شك إلى إحساس المستوطنين بأنهم مواطنون يتمتعون بكل الحقوق السياسية والضمانات القانونية، ومن ثم تخف عمليات الرقابة الخارجية التي كانوا يخضعون لها كأعضاء أقلية. ومما لا شك فيه أن العقيدة الصهيونية التي تشجع على العنف والاغتصاب تلعب دوراً في استثارة الاستعداد الكامن أو القابلية لدى المستوطنين الصهاينة لارتكاب الجرائم بمعدل يفوق نظيره في المجتمعات الأخرى التي تعيش تحت الظروف نفسها.

وداخل هذه الأنماط العامة، يمكننا أن نكتشف نمطاً آخر وهو أن وضع أعضاء الأقليات قد يزيد قابليتهم لارتكاب جرائم دون أخرى. فعلى سبيل المثال، نجد أن أعضاء الجماعات اليهودية يرتكبون الجرائم ضد الملْكية وكذلك جرائم القتل بمعدل أقل من المعدل القومي. وربما يعود هذا إلى مستواهم التعليمي المرتفع وقلة استهلاكهم للمواد الكحولية، وإلى عملية الضبط الاجتماعي التي تمارسها الجماعة مع أعضائها ويمارسها المجتمع مع الجماعة ككل. وعلى أية حال، فالملاحَظ أن معدل الجرائم التي يرتكبها أعضاء الجماعة يرتفع مع تزايد معدلات الاندماج والعلمنة.

ولكن يُلاحَظ أن ثمة جرائم يزيد معدل ارتكابها بين أعضاء الجماعة عن المعدل العام السائد في المجتمع، وهي الجرائم التي يتم فيها انتهاك الحرمات والتي تتطلب من صاحبها التخطيط وإعمال العقل وتحقِّق لمرتكبها عائداً سريعاً (أي تتطلب المهارات نفسها التي يتطلبها الاضطلاع بوظائف الجماعة الوظيفية). ومن هذه الجرائم ما يُسمَّى «جرائم الآداب». ففي تونس، كان أعضاء الجماعة اليهودية يمثلون 1.7% من مجموع السكان، ومع ذلك كانت نسبة النساء اليهوديات المسجلات في جرائم الآداب تفوق هذه النسبة كثيراً. وكانت نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا لارتكاب أعمال غير أخلاقية تفوق كثيراً (مرتين ونصف) نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الأغلبية.

ومن الجرائم المماثلة، جرائم التزييف والغش التجاري. ومن المعروف أن هذه الجرائم انتشرت بين أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر في الغرب إلى درجة اضطرت معها الحكومات إلى استصدار تشريعات خاصة. ويبدو أن تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في القطاع التجاري من المجتمع التقليدي ساعد على ذلك، فهو قطاع لم يكن يعرف نظام الضرائب ولم يكن يرتبط بشبكات الرأسمالية الرشيدة من مصارف ووسائل نقل أو غيرها. ولذا، كان التهرب من الضرائب، وكذلك تهريب البضائع، جزءاً عضوياً من مثل هذا النشاط التجاري، كما أن تَركُّز كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في المناطق الحدودية والمدن شجع على هذا الاتجاه. وقد استمر هذا النمط حتى الوقت الحاضر. ويبدو أن لأعضاء الجماعات اليهودية دوراً ملحوظاً في ترويج المخدرات في الولايات المتحدة، كما يوجد عدد لا بأس به من الجواسيس من بين أعضاء الجماعات اليهودية في الدول الغربية.

ويمكن هنا أن نسأل: ما الفعل الإنساني الذي يشكل جريمة؟ فعلى سبيل المثال، تُعَدُّ الثورة ضد نظام مُستغل عملاً بطولياً من منظور الثوار، ولكنها تُعَدُّ جريمة ضد أمن الدولة يعاقب عليها القانون من منظور القائمين على النظام. والعكس صحيح، فدعم نظام مُستغل ظالم جريمة من منظور المدافعين عن العدالة، ولكنه واجب وطني من منظور القائمين على النظام، أي أن مسألة المنظور في غاية الأهمية في دراسة الجريمة.