1 سورة آل عمران، الآية: 164.
2 سورة الأنعام، الآية: 137.
ص -48- هكذا كانت حالة أهل الأرض عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، جهالة جهلاء، وضلالة عمياء؛ فأنقذ الله به من قبل دعوته واستجاب له من الظلمات إلى النور، وأعاد الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهدم الأوثان، ونهى عن الشرك، وسد كل الوسائل الموصلة إليه.
وإليك بيان الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تفضي إلى الشرك:
1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل: "ما شاء الله وشئت"، "لولا الله وأنت"، وأمر بأن يقال بدل ذلك: (ما شاء الله ثم شئت)؛ لأن الواو تقتضي التسوية و"ثم" تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.
2- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها وإسراجها وتحصيصها والكتابة عليها.
3- نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها.
4- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك في التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات.
5- نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
6- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله"، والإطراء هو المبالغة في
ص -49- المدح.
7- نهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر إذا كان في مكان يعبد فيه صنم أو يقان فيه عيد من أعياد الجاهلية.
كل هذا حذر منه؛ صيانة للتوحيد، وحفاظا عليه، وسدًا للوسائل والذرائع التي تفضي إليه.
ومع هذا البيان التام من النبي صلى الله عليه وسلم ، والاحتياط الشديد الذي يبعد الأمة عن الشرك؛ خالف القبور سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا أمره، وارتكبوا ما نهاهم عنه؛ فشيدوا القباب على القبور، وبنوا عليها المساجد، وزينوها بأنواع الزخارف، وصرفوا لها أنواعا من العبادة من دون الله.
قال الإمام العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "ومن جمع بين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم؛ رأى أحدهما مضادًا للآخر، ومناقضا له؛ بحيث لا يجتمعان أبدًا؛ فنهى رسول الله (عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد؛ مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر، وأمر بتسويتها؛ كما روى مسلم في (صحيحه) عن أبي الهياج الأسدي؛ قال: قال لي علي - رضي الله عنه -: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفا إلا سويته"، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه؛ كما روى مسلم عن جابر - رضي الله عنه -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص القبر، وأن يقعد
ص -50- عليه، وأن يبنى عليه"، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها؛ كما روى أبو دواد في (سننه) عن جابر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص القبور وأن يكتب عليها"، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها؛ كما روى أبو دواد عن جابر - أيضا -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه"، وهؤلاء يزيدون عليها الآجر والجص والأحجار، وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون الآجر على قبورهم"، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذين لها أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر...".
انتهى كلام ابن القيم - رحمه الله - في وصف ما أحدثه عباد القبور في زمانه، وقد زاد الأمر بعده وتطور إلى أشد وأشنع، واعتبر من ينكر ذلك شاذًا متشددًا متنقصا لحق الأولياء، ومن العجب أنهم يغارون لتنقص حق الأولياء حيث اعتبروا ترك عبادتهم تنقصا لهم، ولا يغارون لتنقص حق الله بالشرك الأكبر، ولا يغارون لتنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفة سنته؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
8 - الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم: لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيمه ومدحه، وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى إشراك المخلوقين في حق الخالق - سبحانه تعالى -.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله"، رواه البخاري ومسلم، والإطراء هو مجاوزة الحد في مدحه؛ أي: لا تمدحوني فتغلوا
ص -51- في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام، حتى ادعوا فيه الألوهية، "إتما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله"؛ أي: صفوني بذلك، ولا تزيدوا عليه؛ فقولوا: عبد الله ورسوله؛ كما وصفني ربي بذلك؛ كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}1، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}2، وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ}3، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}.
فأبى المشركون إلا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه؛ فعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وشابهوا النصارى في غلوهم وشركهم، وجرى منهم من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم بما هو صريح الشرك في نثرهم وشعرهم؛ كقوله البوصيري في (البردة) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعده من الأبيات التي مضمونها توجيه الدعاء والعياذ واللياذ إلى رسول صلى الله عليه وسلم، وطلب تفريج الكربات منه في أضيق الحالات وأشد الصعوبات، ونسي الله - عز وجل، وذلك أن الشيطان زين لهذا الناظم ولأمثاله سوء عملهم، فأظهر لهم هذا الغلو في مدحه - وإن كان شركا أكبر - في قالب حبه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، وأظهر لهم التزام السنة في عدم الغلو به "في قالب بغضه وتنقصه، وفي الحقيقة أن ارتكاب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الإفراط في مدحه وترك متابعته في أقواله وأفعاله وعدم الرضى بحكمه هو التنقص الحقيقي له صلى الله عليه وسلم، فلا يحصل تعظيمه ولا تتحقق محبته إلا باتباعه ونصرة دينه وسنته.
وقد جاء في حديث عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه، قال: "انطلقت مع وفد بني عامر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا وابن سيدنا. فقال: "السيد
المفضلات