--------------------------------
1 سورة الشورى، الآية 11.
ص -143- أفرد البحث، وجعل قسما مستقلاً، وألفت فيه المؤلفات الكثيرة؛ فألف الإمام أحمد رده المشهور على الجهمية، وألف ابنه عبد الله كتاب (السنة)، وألف عبد العزيز الكناني كتاب (الحيدة) في الرد على بشر المريسي، وألف أبو عبد الله المروزي كتاب (السنة)، وألف عثمان بن سعيد كتاب (الرد على بشر المريسي)، وألف إمام الأئمة محمد بن خزيمة كتاب (التوحيد)، وألف غير هؤلاء كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الردود على هؤلاء ومن جاء بعدهم وسار على نهجهم؛ فلله الحمد والمنة على بيان الحق ودحض الباطل.
وأول من عرف عنه إنكار الصفات بعض مشركي العرب الذين أنزل الله فيهم قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}1.
وسبب نزول هذه الآية أن قريشا لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلميذكر الرحمن؛ أنكروا ذلك؛ فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}.
وذكر ابن جرير أن ذلك كان في صلح الحديبية حين كتب الكاتب: {بسم الله الرحمن الرحيم}؛ قالت قريش: أما الرحمن؛ فلا نعرفه.
روى ابن جرير - أيضا - عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجدًا يقول: "يا رحمن! يا رحيم!". فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا، وهو يدعو مثنى. فأنزل الله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى}2، وفي سورة الفرقان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ}3 .
فهؤلاء هم سلف الجهمية والأشاعرة في إنكار أسماء الله وصفاته، وبئس السلف لبئس الخلف: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}4.
--------------------------------
1 سورة الرعد، الآية 30.
2 سورة الإسراء، الآية 110.
3 سورة الفرقان، الآية 60.
4 سورة الكهف، الآية 50.
ص -144- أما الرسل وأتباعهم - خصوصا محمدًا صلى الله عليه وسلموصحابته الكرام والذين اتبعوهم بإحسان؛ فهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وينكرون على من يخالف هذا المنهج.
فقد روى عبد الرازق عن معمر عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس؛ أنه رأى رحلاً انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات؛ استنكار لذلك؛ فقال: "ما فرق هؤلاء؟، يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟!"؛ يشير رضي الله عنه إلى أناس يحضرون مجلسه من عامة الناس؛ بأنهم إذا سمعوا شيئا من نصوص الصفات، وهي من المحكم؛ حصل معهم فرق - أي: خوف، وانتفضوا كالمنكرين لها، فهم كالذين قال الله فيهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}1، فيدعون المحكم، ويتبعون المتشابه، ويؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.
ونصوص الصفات من المحكم لا من المتشابه، يقرؤها المسلمون ويتدارسونها، ويفهمون معناها ولا ينكرون منها شيئا.
قال وكيع: "أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث [ يعني: أحاديث الصفات ] ولا ينكرونها..." انتهى.
وإنما ينكرها المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، الذين ساروا على منهج مشركي قريش، الذين يكفرون بالرحمن، ويلحدون في أسماء الله، وقد قالتعالى: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}2؛ فأثبت لنفسه الأسماء الحسنى، وأمر أن يُدعى بها، وكيف يُدعى بما لا يسمى به ولا يفهم معناه على زعم هؤلاء؟! وتوعد الذين يلحدون في أسمائه فينفونها عنه أو يؤولونها عن
--------------------------------
1 سورة آل عمران، الآية 7.
2 سورة الأعراف، الآية 180.
ص -145- معانيها الصحيحة؛ بأنه سيجزيهم على عملهم بالعقاب والعذاب؛ كما وصفهم بالكفر في قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}1؛ فلهذا كفَّر الجهمية كثير من أهل السنة:
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنـ ـهم بل حكاه قبله الطبراني
وجوب احترام أسماء الله سبحانه وتعالى:
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}2، و: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى}3.
يخبر تعالى أن أسماءه حسنى؛ أي: حسان، قد بلغت الغاية في الحسن؛ فلا أحسن منها؛ لما تدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ فهي أحسن الأسماء وأكملها، وأسماؤه سبحانه توقيفية؛ فلا يجوز لنا أن نسميه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا}؛ أي: اسألوه وتوسلوا إليه بها؛ كما تقول: اللهم اغفر لي وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم.
وأسماؤه - سبحانه - كثيرة؛ لا تحصر ولا تحد بعدد، منها ما استأثر الله بعلمه؛ فلا يعلمه ملك مقرَّب ولا نبيُّ مرسل؛ كما في الحديث الصحيح: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى
----------------------
1 سورة الرعد، الآية 30.
2 سورة الأعراف، الأية 180.
3 سورة طه، الآية 8.
ص -146- به نفسه؛ فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه. وقسم أنزل به كتابه، وتعرف به إلى عباده. وقسم استأثر به في علم غيبه؛ فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه".
وقوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}؛ أي: أعرضوا عنهم واتركوهم؛ فإن الله سيتولى جزاءهم، ولهذا قال: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ومعنى: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}؛ أي: يميلون بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، والإلحاد بأسماء الله أنواع:
أحدها: أن يسمى بها الأصنام كتسميتهم (اللات) من الإله، و(العزى) من العزيز، وتسميتهم الصنم إلها.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته، أو علة فاعلة الطبع.
الثالث: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود: إنه فقير، وإنه استراح يوم السبت، وقولهم: يد الله مغلولة.
والرابع: تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها؛ كقول الجهمية وأتباعهم: أنها ألفاظ مجرة، لا تتضمن صفات ولا معاني؛ فيطلقون عليه اسم السميع البصير، ويقولون: لا سمع له ولا بصر؛ مثلاً، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعا، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن المشركين أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله وعطلوا أسماءه وصفاته.
والواجب إثبات أسمائه واعتقاد ما تدل عليه من صفات كماله ونعوت جلاله؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله
ص -147- - سبحانه -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}1.
والواجب احترام أسمائه من أن يسمى بها غيره، وذلك من تحقيق التوحيد.
فعن أبي شريح؛ أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم. فقال: إن قومي كانوا إذا اختلفوا في شيء؛ أتوني، فحكمت بينهم، فرضى كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟" قلت: شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟. قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح". رواه أبو داود وغيره.
فغيَّر النبي صلى الله عليه وسلمكنيته من أجل احترام أسماء الله؛ لأن الله هو الحكم على الإطلاق؛: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}2، وهو الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم في الدنيا بين خلقه بوحيه الذي أنزله على أنبيائه، ويحكم بينهم يوم القيامة بعلمه فيما اختلفوا فيه، وينصف المظلوم من الظالم.
وفي هذا الحديث دليل المنع من التسمي بأسماء الله= المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها؛ كالتكني بأبي الحكم ونحوه.
ومن احترام أسماء الله أن لا يقول الإنسان لمملوكه: عبدي وأمتي؛ لما في ذلك من إيهام المشاركة في الربوبية.
وفي (الصحيح) عن أبي هريرة - رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك. وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي. وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي".
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلمعن هذه الألفاظ (ربك)، (عبدي)، (أمتي)؛ لأنها
--------------------------------
1 سورة الشورى، الآية 11.
2 سورة الرعد، الآية 41.
ص -148- توهم التشبيك مع الله، وسدّاً للذريعة، وحسما لمادة الشرك، وأرشد المالك أن يقول: فتاي وفتاتي، والعبد أن يقول: سيدي ومولاي.
ومن احترام أسماء الله - سبحانه - أنه لا يرد من سأل بالله.
عن عمر - رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن سأل بالله؛ فأعطوه".
لأن منع من سأل على عدم إجلال الله، وفي إعطائه دليل على تعظيم الله والتقرب إليه - سبحانه -.
ومن احترام الله تعالى أنه لا يسُأل بوجه الله - تعالى؛ إلا الجنة؛ إجلالاً لله، وإكراما له، وتعظيما له.
عن جابر - رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة"، رواه داو؛ فلا يسأل بوجه الله تعالى ما هو حقير من حوائج الدنيا، وإنما به ما هو غاية المطالب، وهو الجنة، أو ما هو وسيلة إلى الجنة مما يقرب إليها من قول أو عمل.
ومن احترم أسماء الله: أن لا يكثر الحلف بها؛ قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}1.
قال ابن عباس: "يريد لا تحلفوا؛ لأن كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالله، وعدم التعظيم له، وذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب".
وعن سلمان - رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليهم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته؛ لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه"، رواه الطبرابي بسند صحيح.
--------------------------------
المفضلات