قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
2 سورة الذاريات، الآية: 56.
ص -32- أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}1.
والعبادة لها أنواع كثيرة: فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الحيوان والأيتام والمساكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة... كل ذلك من العبادة، وكذلك حب الله، وحب رسوله، وخشية الله، الإنابة إليه... كل ذلك من العبادة، وكذلك الذبح، والنذر، والاستعانة، والاستغاثة...
فيجب صرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له، فمن صرف منها شيئا لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميت أو غائب أو بحي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فقد أشرك الشرك الأكبر، وأذنب الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنم أو لشجر أو لحجر أو لنبي من
الأنبياء أو لولي من الأولياء حي أو ميت؛ كما يفعل اليوم عند الأضرحة المبنية على القبور؛ فإن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي ولا غيرهم؛ -: {إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}2، و-: {فَلا تَدْعُو مَعَ الله أَحَداً}3، و-: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}4.
ومع الأسف الشديد؛ فقد اتخذت القبور اليوم في بعض البلاد أوثانا تعبد من دون الله ممًّن يدَّعون الإسلام، وقد يدعو أحدهم غير الله في أي مكان، ولو لم يكن عند قبر؛ كمن يقول: يا رسول الله! عند قيامه أو مفاجأته بشيء غريب، أو يقول: المدد يا رسول الله (أو: يا فلان)! وإذا نهوا عن ذلك؛ قالوا: نحن نعلم أن هؤلاء ليس من الأمر شيء، ولكن هؤلاء أناس صالحون، لهم

--------------------------------
1 سورة النحل، الآية: 36.
2 سورة النساء، الآية: 116.
3 سورة الجن، الآية: 18.
4 سورة النساء، الآية: 36.
ص -33- جاه عند الله، ونحن نطلب بجاههم وشفاعتهم، ونسي هؤلاء أو تناسوا وهم يقرؤون
القرآن أن هذا بعينه قول المشركين كما ذكر الله في القرآن في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الآرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}1، وقوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}2 فسماهم كفارًا كذبة، وهم يعتقدون أن هؤلاء الأولياء مجرد وسائط بينهم وبين الله في قضاء حوائجهم، وهذا ما يقوله عباد القبور اليوم، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}3.
فالواجب على علماء الإسلام أن ينكروا هذا الشرك الشنيع ويبينوه للناس، والواجب على حكام المسلمين هدم هذه الأوثان وتطهير المساجد منها.
وقد أنكر كثير من الأئمة المصلحين هذا الشرك، ونهوا عنه وحذروا، وأنذروا، ومن هؤلاء: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد عبد الوهاب، والشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، والشيخ محمد ابن علي الشوكاني... وكثير من الأئمة قديما وحديثا، وهذه مؤلفاتهم بين أيدينا.
وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني في (نيل الأوطار): "وكم سرى من تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة كاعتقاد الكفار للأصنام وأعظم من ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا،

--------------------------------
1 سورة يونس، الآية: 18.
2 سورة الزمر، الآية 3.
3 سورة البقرة، الآية: 118.
ص -34- وبالجملة؛ إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون".
ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالما، ولا متعلما، ولا أميرًا، ولا وزيرًا، ولا ملكا.
ولقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمة خصمه؛ حلف بالله فاجرًا، وإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني؛ تلعثم، وتلكأ، وأبى، واعترف بالحق! وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة!.
فيا علماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكر يحب إنكاره لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟!
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
انتهى كلام الشوكاني - رحمه الله، وقد زاد البلاء بعده، وصار أشد مما وصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
علاقة توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، والعكس:
وعلاقة أحد النوعين بالآخر: أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإليهة، بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الإلهية والقيام به، فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره؛ وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له،

ص -35- وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الألوهية، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا؛ فلا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه وخالقه؛ كما قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الآقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}1.
والربوبية والألوهية تارة يذكران معا؛ فيفترقان في المعنى، ويكون أحدهما قسميا للآخر؛ كما قال في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ}؛ فيكون معنى الرب هو المالك المتصرف في الخلق، ويكون معنى الإلة أنه المعبود بحق المستحق للعبادة وحده، وتارة يذكر أحدهما مفردًا عن الآخر، فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر: من ربك؟ ومعناه: من إلهك وخالقك؟ وكما في قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله}2، وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً}3، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا}4، فالربوبية في هذه الآيات هي الإلهية.
والذي دعت إليه الرسل من النوعين هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يقر به جمهور الأمم، ولم ينكره إلا شواذ من الخليقة، أنكروه في الظاهر فقط، والإقرار به وحده لا يكفي؛ فقد أقر به إبليس {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}5، وأقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دلت على ذلك الآيات البينات؛ كما -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله}6؛ فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط؛ لم يكن مسلما، ولم يحرم دمه ولا ماله، حتى يقر بتوحيد الألوهية؛ فلا يعبد إلا الله.

--------------------------------
1 سورة
الشعراء، الآيتان:75 - 82.
2 سورة الحج، الآية: 40.
3 سورة الأنعام، الآية: 164.
4 سورة فصلت، الآية: 30.
5 سورة الحجر، الآية: 39.
6 سورة الزخرف، الآية: 87.