أغيــار يتحــدثون العبريــة
Heberw-Speaking Gentiles
«أغيار يتحدثون العبرية» مصطلح صكه عالم الاجتماع الفرنسي (اليهودي) جورج فريدمان في كتابه موت الشعب اليهودي ويستخدمه للإشارة إلى جيل الصابرا الإسرائيلي، فهم من وجهة نظره يختلفون تماماً عن يهود العالم (يهود المنفى)، وهويتهم لا علاقة لها بما يُسمَّى «الهوية اليهودية». ولذا، فهم ليسوا يهوداً وإنما أغيار وحسب، حتى وإن كانوا يتحدثون العبرية. والمصطلح تعبير عن إشكالية الهوية أو الهويات اليهودية.

أعضاء الجماعات اليهودية وقضيـة الهـوية القوميـة
Members of Jewish Communities and the Issue of National Identity
ما يُقال له «المسألة اليهودية» هو، في جانب أساسي منه، مشكلة «الهوية اليهودية» في التشكيل الحضاري الغربي. وتعود بجذورها إلى العصور الوسطى في الغرب إذ أن أعضاء الجماعات اليهودية لعبوا هناك دور الجماعة الوظيفية الوسيطة كتجار ومرابين، الأمر الذي أدَّى إلى عزلهم عن بقية أعضاء المجتمع. ومما دعم هذه العزلة، علاقات الجماعة الوظيفية اليهودية (في كل بلد أو مدينة أوربية) مع الجماعات الوظيفية اليهودية الأخرى في أنحاء العالم الغربي والإسلامي، وهي علاقات كانت تشكل ما يشبه النظام المصرفي والائتماني العالمي. وقد خلقت هذه العلاقات وهم الوحدة، بحيث كان المراقب الخارجي يتصور أن اليهود يشكلون وحدة قومية بسبب علاقاتهم التجارية والمالية، وَهْم في الواقع جماعات غير متجانسة تنتمي إلى تشكيلات حضارية مختلفة ويربطها رباط الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية (وهذا ما سماه أبراهام ليون«الطبقة/الأمة»). ومن أسباب تدعيم العزلة، أيضاً، التصور المسيحي لهم باعتبارهم قتلة المسيح والشعب الشاهد (على عظمة الكنيسة وصدقها). وقد تَبدَّى كل هذا في شكل استيطان وتوطين اليهود في الجيتو. وهذه بالطبع صورة نموذجية مثالية تختلف كثيراً عن الواقع الحي الذي كان أكثر تماوجاً وتركيباً.

وقد ظل هذا الوضع قائماً في أوربا، بصور مختلفة، حتى القرن السابع عشر، حين بدأت تظهر الطبقات البورجوازية المحلية (المسيحية) ثم الدول المطلقة ووريثتها الدولة القومية الحديثة التي بدأت تضطلع بكل وظائف الجماعات الوظيفية، وهو ما أدَّى إلى الاستغناء عنها، وانهيار الهيكل القانوني والسياسي الذي كان يجسد عملية الفصل بين الطبقات من ناحية، والجماعات الدينية والإثنية التي كانت تدار على أساسها الدولة في المجتمع التقليدي من الناحية الأخرى. وقد طالبت الدولة القومية الحديثة أعضاء الجماعات اليهودية وكل الأقليات بالتخلص من خصوصيتهم الدينية أو الإثنية أو العرْقية، وبأن يقوموا بإعادة تعريف هويتهم بشكل يتفق مع ما تتطلبه من ولاء قومي كامل من كل المواطنين، وحاولت تخليصهم من تمايزهم الوظيفي والاقتصادي. وهذه عملية يمكن أن نطلق عليها مصطلح «تحديث الهوية» أو «علمنة الهوية». وتتم هذه العملية وتكتمل حينما يتحول أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة وظيفية وسيطة إلى أعضاء في الطبقة الوسطى، أو أيٍّ من الطبقات الأخرى في المجتمع.

ومن منظور التحديث، يمكننا أن نقول إن هويتين يهوديتين أساسـيتين ظهرتا في التشـكيل الحضاري الغربي في القرن التاسـع عشر، أولاهما، الهوية اليهودية في مجتمعات غرب أوربا ووسطها، في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي ألمانيا بدرجة أقل، ثم في الولايات المتحدة، وهي مجتمعات تتسم بأنها لم تكن تضم أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات وبأن عملية التحديث نجحت فيها إلى حدٍّ كبير، وتم إعتاق أعضاء الجماعات وإعطاؤهم حقوقهم السياسية والمدنية، كما تم دمجهم في المجتمع اقتصادياً وثقافياً، حيث أصبح الاندماج هو المثل الأعلى. وقد نشأت، في هذا الإطار الاندماجي، اليهودية الإصلاحية التي فصلت الهوية الدينية عن الهوية القومية أو الإثنية تماماً، وعرَّفت الهوية اليهودية تعريفاً دينياً خالصاً. وقد أنجزت اليهودية الأرثوذكسية أمراً مماثلاً بأن جعلت هوية اليهودي مسألة دينية أساساً، وجعلت تحقيق الجانب القومي من العقيدة اليهودية مرتبطاً بالإرادة الإلهية، وهو كما تَقدَّم الحل التقليدي الذي طرحته اليهودية الحاخامية للإشكالية المشيحانية. وقد اندمج يهود هـذه المجتمعات اندماجاً كاملاً، وكانوا يتحدثون الفرنسية في فرنسا والإنجلـيزية في كـلٍّ من إنجلترا والولايات المتحـدة. والهـوية اليهـودية في ألمانيــا، وفي كثـير من بلاد وسـط أوربــا، تنتــمي إلى النمط نفســه رغــم اختلاف الظروف، ولا يمكن فهم هوية الجماعــات اليهـودية في هذه البلاد إلا في السياق الحضاري لكلٍّ منها. وبالتــدريج تراجـع البُعـد الديني مع تَصـاعُد معدلات العلمنة فأعيــد تعريف الهوية اليهودية على أساس إثني علماني ولكن البُعد اليهودي (الإثني والديني) ظل هامشياً للغاية. ولذلك، تأخذ التطلعـات القـومية اليهودية ليهود الغرب، إذا وُجدت، شكـل حنــين ديني للعـودة إلى صهيـون (الروحيــة) إن كـان اليهـود من المتدينين. أما إذا كانوا من العلمانيين، فإنها تأخذ شكل حماس عاطفي لهويتهم الإثنية، لا يترجم نفسه أبداً إلى هجرة استيطانية وإنما يأخذ شكل صهيونية توطينية، أي ينصرف إلى توطين اليهود الآخرين حتى يحموا مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. وهذه هي هوية ما بعد الانعتاق أو الهوية اليهودية بعد تحديثها أو الهوية اليهودية الجديدة.

أما الهوية اليهودية الثانية، فقد نشأت في مجتمعات شرق أوربا بين يهود اليديشية، خصوصاً في بولندا وروسيا. وهذه مجتمعات دخلت العصر الحديث متأخرة وسادت فيها (في القرن التاسع عشر) ظروف تشبه الظروف السائدة في العالم الثالث في الوقت الحاضر، إذ تعثَّر فيها التحديث لسنوات طويلة ابتداءً من عام 1882، كما أنها كانت تضم أعداداً ضخمة من أعضاء الجماعات اليهودية، بل معظم يهود العالم. وكان أعضاء الجماعات اليهودية في هذه المجتمعات يتحدثون اليديشية في محيط سلافي، ويؤمنون باليهودية في محيط مسيحي أرثوذكسي محافظ. كما أن روسيا كانت تأخذ شكل إمبراطورية مُكوَّنة من قوميات لكل منها لغتها وثقافتها. ولذا، لم يكن اليهود، كتَجمُّع له ثقافته ولغته، يمثل استثناءً كبيراً. وقد بُذلت محاولات، في نهاية القرن التاسع عشر، لصبغ اليهود، وغيرهم من الجماعات، بالصبغة الروسية أو البولندية. ولكن، مع تَعثُّر التحديث، توقفت هذه المحاولات.

وداخل هذا الإطار، وفي هذه المرحلة (أواخر القرن التاسع عشر) طُرحت في شرق أوربا عدة تصورات للهوية اليهودية تستند إلى تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في تلك المنطقة. فكان هناك التصور الاندماجي الذي يشبه تَصوُّر يهود الغرب للهوية. ولكن، كان هناك تصوران آخران هما اللذان قُدِّر لهما الشيوع في صفوف يهود شرق أوربا.

أ) قومية الدياسبورا:

حاول دعاة قومية الدياسبورا (سيمون دبنوف، وحزب البوند)، المتأثرون بتجربة يهود شرق أوربا وتراثهم، أن يعرِّفوا الهوية اليهودية تعريفاً ثقافياً أو تراثياً وحسب، بإسقاط الجانب الديني تماماً، إذ رأوا أن الهوية اليهودية هي أساساً انتماء إلى التراث الثقافي اليهودي. كما لم يربطوا هذا التراث بفلسطين أو بأي مركز محدَّد آخر، فهم يرون أن مركز اليهودية الثقافي ينتقل من بلد إلى آخر. كما أنهم يرفضون أي إطار عالمي لليهودية، ولا يعترفون بوجود ثقافة يهودية عالمية، ويرون أن كل جماعة يهودية مرتبطة بحركيات تاريخية مختلفة ولها هوية مختلفة وتراث يهودي مختلف، ولذا فإن كل جماعة تبحث عن حلول لمسألتها داخل حدود تاريخها الخاص والمتعيِّن وخارج أية رؤية تاريخية عالمية. ولهذا، يمكن القول بأنهم لا يتحدثون في واقع الأمر عن «قومية الديسبورا» (كما يتوهمون)، وإنما عن هوية يهودية شرق أوربية (يديشية) متفاعلة مع التشــكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه. وانطـلاقاً من تلك الرؤية، يرى دعاة قومية الدياسبورا أن اللغة التي تُعبِّر عن هذه الهوية اليهودية ليست العبرية (اللغة الدينية العالمية لليهود)، وإنما اليديشية. وحينما استأنفت الثورة البلشفية عملية التحديث في روسيا، ناصبت حزب البوند العداء لأسباب سياسية في البداية، كما رفضت تَصوُّره للهوية اليهودية المحدودة الشرق أوربية، ولكنها عادت في الثلاثينيات واعترفت بها وبلغتها المستقلة وبشخصيتها الثقافية المستقلة التي يمكن أن تتحقق داخل الإطار السوفيتي. وانطلاقاً من ذلك، حددت مقاطعة بيروبيجان، كمقاطعة مستقلة، لغتها الرسمية اليديشية. وكان بإمكان هذه المقاطعة، من الناحية النظرية، أن تتحوَّل إلى جمهورية مستقلة (داخل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية) لو هاجر إليها عدد كاف من اليهود. وقد ظلت الهوية اليديشية مزدهرة في الفجوة الزمنية بين تَعثُّر التحديث واستئنافه في الاتحاد السوفيتي وبين هجرة يهود شرق أوربا إلى الولايات المتحدة واندماجهم فيها، وهي تقع على وجه التقريب بين بداية القرن الحالي وأواخر الأربعينيات. ولكن مع تَصاعُد معدلات التحديث والعلمنة بدأت الهوية اليديشية في التآكل السريع، وساهم النازيون في القضاء على البقية الباقية من هذه الهوية، ومع الستينيات لم يَعُد للهوية اليديشية من أثر في العالم.

ب) الحل الصهيوني:

حاول الصهاينة العلمانيون، أو اللادينيون، إعادة تعريف الهوية اليهودية تعريفاً يؤكد الجانب القومي ولا يُعنى بالجانب الديني إلا بمقدار تعبيره عما يُسمَّى «القومية اليهودية». وقد أسس هؤلاء مجتمعهم الصهيوني استناداً إلى هذه الرؤية. ومع هذا، ظهرت داخل الحركة الصهيونية جماعات من الصهاينة المتدينين الذين يرون أن الدين اليهودي والقومية اليهودية هما شيء واحد، وأن الهوية اليهودية هويةٌ قومية دينية، الأمر الذي أدَّى إلى تصعيد التفجرات داخل الكيان الصهيوني.