التعاريف الصهيونيـة للـهـويات اليهوديـة
Zionist Definitions of Jewish Identities
تُعَدُّ الصهيونية، في أحد جوانبها، محاولة لإعادة تعريف اليهود تعريفاً يتفق مع وضعهم الجديد في الغرب بعد ظهور الدولة القومية العلمانية وعصر الإعتاق وسقوط الجيتو. وهي، من هذا المنظور، واحدة من كثير من المحاولات اليهودية الأخرى، مثل: اليهودية الإصلاحية، واليهودية الأرثوذكسية، وقومية الدياسبورا. وينطلق الصهاينة اللادينيون من تعريف للهوية هو في جوهره علمنة لكثير من الأفكار القومية الكامنة في التراث الديني اليهودي. فهم يرون أن ثمة هوية قومية يهودية واحدة متميزة متجانسة تفرق بين اليهود وسواهم من أقوام وشعوب في كل زمان ومكان، وأن ثمة مصدرين لها. أما المصدر الأول، فهو الضغوط من الخارج، أي أن مصدر الهوية اليهودية ليس من داخل اليهودية ذاتها وإنما هو مجرد رد فعل لهجمات أعداء اليهود عليهم، باعتبار أن اليهود جسم قومي غريب في أوطان الآخرين. ومن جهة أخرى يرى بعض الصهاينة المتأثرين بالخطاب الاشتراكي أن مصدر الهوية اليهودية هو الوضع الطبقي المتميِّز لليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة. واليهودي، بحسب الرؤية السابقة، يكتسب هويته من الغير، وهو تعريف أخذ به معظم الصهاينة الأوائل مثل: تيودور هرتزل، وماكس نوردو، وأهارون جوردون، وغيرهم. ويبدو أن هذا كان الاتجاه السائد في أوربا. فعلى سبيل المثال، صرح كارل ليوجر (المرشح المعادي لليهود لمنصب عمدة فيينا) بأنه هو الذي يحدد من هو اليهودي.
لكن معظم الاتجاهات الصهيونية لا تأخذ بهذا الرأي الآن، وتطرح تصوراً للهوية اليهودية على اعتبار أنها شيء نابع من مصدر آخر هو حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» المرتبط بفلسطين (إرتس يسرائيل في الخطاب الديني). وهذا المجال الزماني المكاني هو المجال الوحيد الذي تستطيع فيه هذه الهوية أن تُعبِّر عن نفسها تعبيراً كاملاً، مثلما حدث تحت حكم المملكة العبرانية المتحدة (أو الكومنولث الأول) وحكم الدولة الحشمونية (أو الكومنولث الثاني)، إلى أن تم هدم الهيكل.
ويرى الصهاينة أن هويات يهود المنفى المندمجين ليست إلا انحرافاً عن مسار هذا التاريخ. ولذا، فهم ينطلقون في تعريفهم الهوية اليهودية « الحقة » من انتقاد جذري لهذه الهويات، مستخدمين كثيراً من أطروحات أدبيات معاداة اليهود. فاليهود المندمجون شخصيات مريضة مصابة بالازدواج والانقسام، مشوهة وهامشية، وهم يحاولون إخفاء هويتهم اليهودية الحقة المتأصلة ويبذلون قصارى جهدهم في إظهار هويتهم غير اليهودية المُكتسَبة والإعلان عنها بشكل مُقزِّز، الأمر الذي يجعلهم يشبهون القردة التي تقلد ما لا تعي. وستُلغَى كل هذه الأوضاع الشاذة حالما يؤسس الصهاينة وطناً قومياً تتمكن الشخصية اليهودية من خلاله التعبير عن نفسها بشكل سوي تعبيراً كاملاً، بحيث يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب. وسيحقق اليهود من خلال الدولة، وبوصفهم شعباً، ما فشلوا في تحقيقه بوصفهم أعضاء في مجتمعاتهم. وهذا ما يُسمَّى في المصطلح الصهيوني «تطبيع الشخصية اليهودية». وبحسب الرؤية الصهيونية، فقد بدأت هذه العملية بالفعل في عام 1948ـ عام إعلان الدولة الصهيونية (الكومنولث الثالث). لكن تطبيع اليهود لا يعني تصفية الهوية اليهودية وإنما يعني منحهم هوية يهودية جديدة سوية؛ هوية اليهودي الخالص (اليهودي مائة بالمائة على حد قول بن جوريون). وقد طُرحت تصورات عدة لمصدر يهودية هذا اليهودي الخالص ولسماته وجوهره:
1 ـ التعريف العرْقي:
يُصُّر المدافعون عن هذا التعريف على رؤية اليهود كعنصر عرْقي متمـيِّز، ولذا فهم يتحـدثون عن «الجنس اليهودي» وعن اليهود باعتبارهم « جنساً متميِّزاً ». وقد عرَّف كثير من الزعماء الصهاينة اليهودية بأنها « مسألة تتعلق بالدم». وانطلاقاً من ذلك، يرى الصهاينة أن التزاوج مع الأجانب سيؤدي إلى تدهور العرْق اليهودي، وأنه لابد من تأسيس وطن قومي (لهذا الجنس الفريد) ودولة مستقلة يُعبِّر فيها عن عبقريته ويمارس فيها إرادته. ولكن تم التخلي عن هذا التعريف تماماً في هذه الأيام، إذ أن النظريات العرْقية لم تَعُد مقبولة في الغرب، خصوصاً بعد أن نجح هتلر في تدمير أعداد كبيرة من اليهود باسم هذه النظريات والاعتذاريات.
2 ـ التعريف الإثني أو التراثي:
يرى فريق من الصهاينة أن اليهود جماعة مترابطة ذات تاريخ مُشترَك منفصل ومحدَّد، وأن ثمة روابط تراثية (وليست عرْقية) فريدة بقيت على مدى قرابة أربعة آلاف سنة بين اليهود، وأن ثمة تماثلاً في أوضاع اليهود الإثنية والتاريخية، والمختلفة من بلد إلى بلد. وهم يرون أن ما حفظ وحدة اليهود هو الدين اليهودي، لا من حيث هو عقيدة وإنما من حيث هو إطار رمزي وبُعد أساسي من أبعاد التراث اليهودي. فالدين هو الوعاء الوحيد الذي ضمن الاستمرار والتجانس الإثني. وبناءً عليه، تكون الدولة الصهيونية هي الإطار الأمثل لكي تُعبِّر هذه الإثنية عن نفسـها.
3 ـ التعريف الديني:
لم يقبل الصهاينة الدينيون التعاريف اللادينية السابقة، وحاولوا استرجاع قداسة الهوية اليهودية. وهكذا، فهم يرون أن هوية اليهود القومية مصدرها الدين، إذ لا يمكن التفرقة بين القومية اليهودية والعقيدة اليهودية. فاليهود أمة مقدَّسة وكيان منعزل غريب مقدَّس يكتسب هويته من علاقته الخاصة مع الرب، ومن رسالته الخالدة بين الشعوب الأخرى. والتعريف الديني لا يستبعد العنصر الإثني، فالهوية اليهودية (بحسب تعريف الشريعة كما تقدَّم) ذات أساس ديني إثني. كما أن الهوية اليهودية (كما يُعرِّفها الصهاينة المتدينون) لا تحمل معها أية أعباء أخلاقية، بل تمنح اليهود حقوقهم القومية كاملة دون أية مسئولية تجاه الأغيار. ولذا، لا يوجد أي تناقض جوهري بين التعريف الإثني اللاديني والتعريف الإثني الديني. ومع هذا، يظل مصدر الشرعية في كلا التعريفين مختلفاً، فمصدر الشرعية والقداسة في القول الصهيوني العلماني هو الشعب اليهودي ذاته. أما في القول الديني، فإن مصدر الشرعية هو الحلول الإلهي في هذا الشعب. وحينما يتحدث المتدينون عن اليهودي، فإنهم يستخدمون، كما هو مُتوقَّع، معياراً أرثوذكسياً.
والتعريف السائد الآن في المُستوطَن الصهيوني هو التعريف الصهيوني اللاديني الإثني بالدرجة الأولى، ويليه التعريف الصهيوني الديني الإثني. ومن الملاحَظ أن التعريف الديني أخذ في الشيوع والانتشار منذ نهاية الستينيات. كما أن الصراع بين التيارين يفجر قضية الهوية التي يُشار إليها بسؤال «من هو اليهودي»؟.
ومن الضروري أن نتنبه إلى أن مقولة الهوية اليهودية في السياق الصهيوني الاستيطاني ليست مجرد مقولة نفسية أو فلسفية أو دينية، فهي مقولـة قانونية تحمل مضموناً سـياسياً واقتصـادياً محـدَّداً. فلليهودي، في الدولة الصهيونية، مزايا وحقوق معينة لا يتمتع بها غير اليهودي. كما أن ثمة وكالات ومؤسسات صهيونية عديدة يمولها يهود الخارج وتُعدُّ الترجمة الفعلية والمؤسسية لمقولة اليهودي هذه، فهي مؤسسات تمد يد المساعدة لليهود وحسب، وتحجبها عن غير اليهود. وأهم هذه المؤسسات الصندوق القومي اليهودي الذي يمتلك معظم أراضي فلسطين المحتلة باسم الشعب اليهودي، والذي تُحرِّم قوانينه بيع هذه الأراضي أو تأجيرها لغير اليهود، أو حتى استخدامهم للعمل فيها. وبذلك يمكننا أن نقول إن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية هو الأساس النظري للممارسات الصهيونية العنصرية ضد العرب، بل إن عمليات ضم الأراضي تتم باسم هذه الهوية. وبالفعل، حذَّر الحاخام آرون سولوفاشيك (زعيم اليهودية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة) من أن قبول التعريف العلماني لليهودي سيقوي عناصر الضغط على إسرائيل لأن تتنازل عن الأراضي المحتلة وعن أجزاء من القدس وحائط المبكى، حيث إنها ضمتها باسم الهوية اليهودية وباسم الحقوق التي يتمتع بها اليهود.
الهويات اليهودية والتناقض بين الرؤية الصهيونيــة والممارسـة الإسرائيلية
Jewish Identities and the Contradiction Between the Zionist Outlook and Israeli Practice
كانت كل جماعة يهودية تمارس تجربتها التاريخية والدينية بمعزل عن الجماعات الأخرى، وكانت كل منها تُطوِّر هويتها الدينية والإثنية من خلال التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه وتتعامل معه وتُسمِّي نفسها «يهودية»، وذلك دون البحث عن خاصية جوهرية ما تربط كل أعضاء الجماعات معاً، ودون الحاجة إلى تعريف دقيق وعالمي وشامل لليهودي.
وكان الصهاينة اللادينيون، حتى عام 1948، يتحدثون بحرية شديدة عن «الشعب اليهودي الواحد» (بالألمانية: أين فولك Ein Volk)، وبالتالي عن «الهوية اليهودية الواحدة» و«القومية اليهودية». كما كان الصهاينة المتدينون قانعين بدورهم الثانوي في الحركة الصهيونية، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة ليفرضوا تعريفهم القومي الديني الأرثوذكسي. وقد تم إعلان قيام الدولة الصهيونية لا باعتبارها دولة مستقلة وحسب، وإنما باعتبارها دولة يهودية ليست مقصورة على مواطنيها، فهي أيضاً دولة الشعب اليهودي بأسره داخل فلسطين وخارجها. وترى هذه الدولة أن مصدر شرعية وجودها هو يهوديتها، ومن هنا محورية تعريف الهوية اليهودية، ومن هنا أيضاً حتمية ظهور التناقضات الكامنة.
وقد أصدرت الدولة الصهيونية عدة قوانين تعطي حقوقاً لصاحب الهوية اليهودية. وكان أول هذه القوانين قانون العودة (عام 1950) الذي يعطي لأي يهودي الحق، أينما كان، في الهجرة إلى إسرائيل (فلسطين المحتلة)، والاستيطان فيها. ثم صدر عام 1952 قانون تكميلي هو قانون المُواطَنة الإسرائيلية، والذي يمنح الجنسية الإسرائيلية لكل المهاجرين اليهود. ولكن كلا القانونين لم يُعرِّف من هو اليهودي، وتُركت القضية معلقة. وقانون العودة ليس القانون الوحيد الذي يتطلب تعريف اليهودي، إذ تتم الإشارة إلى اليهودي في الدولة الصهيونية في سياقين آخرين. فقانون تسجيل المواطنين يتعرض لهذه القضية إذ تتضمن الهوية في إسرائيل البنود المعتادة مثل الجنسية (إسرائيلي)، والديانة (يهودي أو مسلم أو مسيحي)، ولكن هناك بنداً ثالثاً خاصاً بالقومية (عربي بالنسبة للعرب المسلمين والمسيحيين ويهودي بالنسبة للإسرائيليين اليهود). ولابد أن يتفق البندان الخاصّان بالديانة والقومية في حالة الإسرائيليين اليهود باعتبار أن الصهيونية في أحد تعاريفها للهوية تُوحِّد بينهما.
أما السياق الثالث الذي تتم الإشارة فيه إلى اليهودي، فهو المحاكم الحاخامية التي تمارس السلطة المُطلَقـة في أمور الزواج والطلاق. والتعريف الذي تأخذ به هذه المحاكم هو التعريف الديني القومي (الأرثوذكسي) وحسب، وهو يستبعد أي تعريف آخر. ويمكننا أن نتحدث عن عدة تناقضات أساسية، واجهها الصهاينة في محاولتهم محاولتهم ، ولكنهم فضلوا إرجاءها وعدم التعرض لها:
المفضلات