ولا يُنظَر إلى الدولة الصهيونية إلا من منظور مدى نفعها: فهي تارة ثروة إستراتيجية، وهي تارة أخرى حاملة طائرات وحارس للمصالح الغربية. ولكنها، في جميع الأحوال، أداة ووسيلة وحسب لا غاية أو هدف. وتتسم الدولة الصهيونية الوظيفية أيضاً بالعزلة عما حولها حتى يتسنى لها الاضطلاع بوظيفتها بكفاءة.

وبعد أن ضمت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، تبلورت الأمور تماماً. وأدرك المستوطنون الصهاينة هويتهم كجماعة وظيفية استيطانية قتالية. وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته في فكر جماعة جوش إيمونيم التي ترى أن الاستيطان والقتال عبء مقدَّس ملقى على عاتق الشعب المختار، وأن على اليهودي أن يقبل مصيره الإلهي إذ لاخيار له.

ويمكننا أن نقول إن الدور الذي تلعبه الدولة الصهيونية، والوظيفة التي تضطلع بها، هما السلعة الأساسية التي تنتجها، وهما مصدر دخلها الثابت. ولذا، يمكننا الحديث عن هذا الدور باعتباره إحدى علاقات الإنتاج مع الإمبريالية (وعلاقات الفتك مع الشعب الفلسطيني المُستَهْدَف). وقد سمينا المستوطنين الصهاينة «المماليك الاستيطانية القتالية» تمييزاً لهم عن «المماليك المالية» وهم الجماعات اليهودية الوظيفية المالية. ونحن نرى أن هذا النموذج التحليلي أكثر تفسيرية لأنه يفسر كثـيراً من جوانب الاقتصاد الإسرائيلي والسياسية الخارجية الإسرائيلية. ومع هذا، فإننا نذهب إلى أن دور الدولة الوظيفية الصهيونية سيتغير، مع ظهور النظام العالمي الجديد، حيث سيتراجع دورها القتالي (المرتبط بوضعها الاستيطاني) وسيتحول «المماليك الاستيطانية القتالية» إلى «المماليك المالية» مرة أخرى، وسيحل رأس المال العالمي محل السيف والمدفع ورأس المال الربوي، وسيحمل الجنرال الإسرائيلي السابق السامسونايت بدلاً من المدفع الرشاش، وسيحضر بالطيران المدني المكيف بدلاً من الطيران العسكري وبالليموزين بدلاً من الدبابة، ولن يمطرنا بالصواريخ والنابالم، كما كان يفعل حتى عهد قريب، وإنما بعقود الصفقات التجارية المريبة والرشاوى الخفية التي تفسد العباد وتفلس البلاد.

وكما قال شمعون بيريز: « الشعب اليهودي لا يهدف إلى السيطرة وإنما يهدف إلى البيع والشراء »، أي أن الجنرال أصبح إنساناً اقتصادياً يمثل شعباً مختاراً لعمليات البيع والشراء والأعمال المالية. ومثل هذا الإنسان لا يحب ولا يكره فهو يبحث عن الربح، كما أنه لا يصدع رأسه بالحديث عن القيم أو المطلقات أو الهويات، ولا يكنُّ احتراماً للآخر لأنه لا يكنُّ احتراماً لذاته، وهو في النهاية عنصر حركي طرح عن نفســه تراثه وقيمه ونزع نفسه من وطنه ليستوطن أرض الآخرين. وعلى هذا، فإن هدف العمليات القتالية والاستيطانية والمالية واحد في كل هذه الحالات، ضمان تدفق خيرات هذه الأرض لقوى خارجها.

وقد لُوحظ أن أعداداً كبيرة من الإسرائيليين تعمل مرتزقة في بعض دول العالم الثالث. وتشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 2000 فرد من الجيش الإسرائيلي عملوا كمرتزقة ومدربين في أفريقيا على مدى الأعوام الثلاثين الماضية بدءاً بالطيارين في أوغندا وانتهاءً بالمظليين في زائير. وتُوجَد شركات خاصة (مثل شركة ليفدان) يديرها جنرالات سابقون ويشغل صفوفها أفراد سُرِّحوا حديثاً من الجيش الإسرائيلي. ويتلقى المرتزق الإسرائيلي مبلغ 2500 دولار علاوة على بدلات أخرى. وقد صرح مسئول من الشركة بأن ما تفعله هذه الشركة لا يختلف عما كانت تفعله الحكومة الإسرائيلية لسنوات طويلة.


جمـاعـة يهــودية وظيفيــة تجاريــة
Jewish Trading Functional Group
«الجماعة الوظيفية التجارية» هي الجماعة التي يضطلع أفرادها بالتجارة والنشاطات التجارية. وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية بمهنة التجارة في كثير من المجتمعات الإنسانية. ويُفسِّر أعداء اليهود هذه الظاهرة بصيغهم اللفظية الجاهزة، مثل: « الطبيعة اليهودية الخاصة » أو « خصوصية الشخصية اليهودية » أو « النزوع الأزلي عند اليهود نحو استغلال الآخرين ». وهناك أيضاً التفسير الصهيوني الذي لا يقل تهافتاً عن الصيغ السابقة، وهو « أن المجتمعات التي عاش فيها اليهود فرضت علىهم مهنة التجارة ثم الربا فرضاً ومنعتهم من الاشتغال بالزراعة أو ملكية الأراضي الزراعية ». وهكذا، فبينما يرى التفسير الأول (المعادي لليهود) أن الأغيار ضحية عنف اليهود، يرى التفسير الصهيوني أن اليهود هم ضحية عنف الأغيار. وهذه الأقوال السابقة كلها لا قيمة لها من الناحية التفسيرية، ولولا شيوعها لما كلفنا أنفسنا عبء ذكرها أو الرد عليها.
ولكن، بدلاً من استخدام النماذج التفسيرية العنصرية الجاهزة التي تختزل التفاصيل وتعفي الإنسان من مشقة التفكير والتمحيص، يمكننا أن نستقرئ أحداث التاريخ المتعيِّن وبعض تفاصيله الدالة لنصوغ منها نماذج أكثر تركيبية وتفسيرية. لقد ورد ذكر العبرانيين لأول مرة في التاريخ المدوَّن على أنهم بدو رحل يقومون بالرعي والتجارة. ولكن، عند استقرارهم في أرض كنعان عملوا بالزراعة أساساً وظل نشاطهم التجاري محدوداً بل يكاد يكون منعدماً. ويُلاحَظ أن لفظ «كنعاني» كان مرادفاً للفظ «تاجر» (هوشع 12/8 وأشعياء 23/8 وأمثال 31/24). ولعل هذا يُفسِّر خلو العهد القديم من الإشارة إلى التجارة باعتبارها نشاطاً اقتصادياً مهماً، بعكس الإشارات الكثيرة إلى الزراعة والقوانين والطقوس والشعائر والأعياد المرتبطة بها. وإن كان ثمة رأي يذهب إلى أن هذا لا يعكس بالضرورة حالة المجتمع العبراني قبل قيام المملكة المتحدة وإنما يعكس، في واقع الأمر، الموقف السلبي الذي اتخذه كُتَّاب العهد القديم المحافظون ضد التجار وشئون المال. ولكن مما له دلالته أن التلمود يضم كتاباً كاملاً يُسمَّى «زراعيم» يتناول أمور الزراعة.

ومهما تكن حقيقة الأمر، فقد تغيَّر الوضع مع ظهور المملكة العبرانية المتحدة التي كانت تشكل وحدة سياسية كبيرة نوعاً ما ولها سلطة مركزية أكثر مما كان علىه الحال إبان عصر القضاة. فقد كانت دولة في حاجـة إلى تمـويل المشـروعات المعمارية الكبرى مثل هيكل سليمان، ووجدت أنه قد يكون من الممكن توفير الاعتمادات اللازمة من خلال النشاط التجاري. ومما شجع على هذا الاتجاه موقع فلسطين باعتبارها ممراً رئيساً بين التشكيلين الحضاريين الأساسيين في الشرق الأدنى القديم (مصر وبلاد الرافدين)، فضلاً عن وقوعها على واحد من أهم طرق التجارة في العالم القديم، بحيث كان بإمكان من يحكمها أن يحقق أرباحاً كبيرة من خلال التجارة. وبالفعل، قامت الدولة العبرانية بتطوير العلاقات التجارية مع مدينة صور إحدى أهم القوى التجارية الاقتصادية آنذاك. واشتركت الدولتان في إنشاء أسطول في عتسيون جابر، ونشطت تجارة وصناعة التجميع، فكانت المملكة تشتري العربات الحربية من مصر وتُجمِّعها وتشتري الأحصنة من مصادر أخرى وتبيعها لملوك سوريا من الحيثيين والأراميين. وقد تكون قصة ملكة سبأ وزيارتها لسليمان دليلاً على ازدهار التجارة الدولية للمملكة العبرانية المتحدة. ومما يجدر ذكره أن الدولة احتكرت هذه التجارة. أما التجارة الداخلية، فيبدو أنها ظلت ضئيلة الشأن وبدائية تأخذ شكل المقايضة. ولم يتغيَّر الوضع كثيراً بعد انقسام المملكة المتحدة إلى المملكتين الشمالية والجنوبية.

ولكن الصورة تبدأ في التغير قليلاً مع التهجير البابلي، حيث اشتغل بالتجارة كثير من أعضاء الجماعة اليهودية المهجَّرين، خصوصاً أن الإمبراطورية البابلية كانت لديها تجارة دولية نشطة في ذلك الوقت. وقد تحوَّلت الجماعة اليهودية في بابل إلى جماعة وظيفية وسيطة، وأصبح هذا هو النموذج السائد مع ازدياد انتشار الجماعات اليهودية في العالم القديم خارج فلسطين، إذ ظهرت جماعات يهودية وسيطة في أرجاء الدولة الفارسية وفي الإسكندرية وروما وفي أنحاء أخرى من العالم القديم. لكن هذا لا يعني أن جميع اليهود، في جميع أنحاء العالم، كانوا يعملون بالتجارة منذ التهجير البابلي، إذ أن من الثابت تاريخياً أن قطاعات كبيرة منهم ظلت تعمل بالزراعة في بابل وفي بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط.

وقد تبلور تماماً هذا الاتجاه نحو العمل بالتجارة مع سقوط الدولة الرومانية وبداية العصور الوسطى في القرن الخامس الميلادي، إذ تعرضت أوربا بعد سقوط الإمبراطورية لهجمات القبائل البربرية، مثل: الوندال والفرنجة والهن والقوط والسكسون والتيوتون وغيرهم، وهو ما أدَّى إلى تَحوُّل مركز الحياة ثانيةً من المدينة (التي كانت تمر بالمراحل الأولى من نموها) إلى الريف. وأدَّى هذا بدوره إلى حدوث تراخ شديد في عملية تَحوُّل الاقتصاد من إنتاج طبيعي استهلاكي يستند إلى القيمة الاسـتعمالية إلى إنتـاج بضاعي يسـتند إلى القيمـة التبادلية. ونتيجة ذلك، ظلت القارة الأوربية كياناً استهلاكياً بصورة أساسية، يُصدِّر العبيد والنساء والصبيان والفراء والسيوف ويستورد الأقمشة والحبوب والتوابل وغير ذلك من المنتجات التي تستهلكها بالدرجة الأولى طبقة الإقطاعيين والنبلاء. ونجم عن هذا استقطاب المجتمع الأوربي إلى طبقتين: طبقة السادة ملاك الأراضي وطبقة الفلاحين. وكانت أولاهما تحتكر التجارة، أما الثانية فلم تكن قادرة على الاضطلاع بها لعدم تَوفُّر رأس المال أو الخبرة لديها. لكن النشاط التجاري لم يكن من الاتساع بحيث يستدعي ظهور طبقة تجارية محلية. وأدَّى هذا الوضع إلى اتساع الهوة بين الطبقتين، ومن هنا كان من الطبيعي أن يضطلع بوظيفة التجارة جسم غريب مثل أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا يقطنون المدن والموانئ مع التجار الفينيقيين. ويقول الحاخام آجوس: « لقد ورثت المسيحية القانون الروماني المعادي للتجارة والربا، بينما ورث اليهود المدن والحياة في المدينة وتقاليدها القانونية والحضارية ». وهذا قول يتسم بكثير من المبالغة ولكنه، مع هذا، يصف جانباً مهماً من الواقع.

وبعد الفتح الإسلامي وضم منطقة سوريا وفلسطين، تبلور دور اليهود كتجار داخل التشكيل الحضاري الغربي بصورة نهائية. وبالتالي اختفى التجار الفينيقيون، وفُتح المجال على مصراعيه أمام اليهود ليصبحوا الجماعة الوظيفية الوسيطة الوحيدة تقريباً في الغرب. بل وأصبحت الجماعات اليهودية، بانتشارها في حوض البحر الأبيض المتوسط وفي العالمين الإسلامي والمسيحي، تشكل أول نظام ائتماني عالمي يُسهِّل عملية انتقال التاجر من بلد إلى آخر ويُيسِّر عمليات التبادل التجاري وينظمها. وبذلك، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون الجسر التجاري والمالي بين العالمين الإسلامي والمسيحي مع بداية العصر الوسيط في الغرب، ولعبوا دوراً خطيراً في التجارة الدولية بينهما. ومما يجدر ذكره أن التجارتين الدولية والمحلية كانتا مرتبطتين تماماً، إذ كان التاجر يحمل السلعة من بلد إلى آخر أو من سوق إلى آخر ويبيعها بنفسه أو يبيعها لتاجر يهودي آخر مقيم في المدينة. ويُقال إن أعضاء النخبة الحاكمة في مملكة الخَزَر كانوا يرغبون في تطوير التجارة بمملكتهم، ومن ثم اعتنقوا اليهودية حتى يمكنهم التمتع بالتسهيلات الائتمانية التي يتمتع بها اليهود في شتاتهم، أي انتشارهم.

ومن العناصر التي ساهمت في تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، علاقتها الخاصة بالزراعة في أوربا إبَّان العصور الوسطى (انظر: «علاقة الجماعات اليهودية بالزراعة»).