فيـودور دوسـتويفســكي (1821-1881(
Foyodor Dostoyevsky
روائي روسي، ومن أهم الروائيين العالميين على الإطلاق. كان موقفه من أعضاء الجماعات اليهودية يتسم بالعنصرية الشديدة. وهناك إشارات عديدةلأعضاء الجماعات اليهودية في كتابات دوستويفسكي غير الروائية، كما أن هناك إشاراتهنا وهناك في أدبه الروائي، حيث توجد شخصيات يهودية في بعض رواياته، خصوصاً في بيتالموتى (1861) وهي رواية عن تجربة سجين (غير سياسي) في معتقل في سيبريا، ورد فيهاوصف لسجين يهودي يقيم كل شعائر دينه بحرص شديد. ولكن أهم النصوص التي عبَّر فيهادوستويفسكي عن وجهة نظره العنصرية بشكل واضح ومباشر هي يوميات كاتب . ولا يختلفالتناول الروائي لدوستويفسكي لليهود عما جاء في يومياته. وهذا يثير إشكالية كبرىوهي كيف يمكن لأديب، صاحب رؤية إنسانية في أدبه، أن يتسم موقفه المباشر والمعلن منأقلية دينية أو عرْقية بهذه العنصرية والاختزالية وضيق الأفق. وهذا ما سنحاولتفسيره (لا تبريره(.

ولنبدأ دراستنا بمحاولة استخلاص رؤية دوستويفسكيلليهود كما وردت في يوميات كاتب. كان دوستويفسكي يشير إلى اليهود بكلمة «جيد Zhid» الروسية التي تحمل مضموناً قدحياً، ويرفض استخدام كلمة «يفري Yevrey» أي «عبري» التي تُعَدُّ أكثر حياداً. وكان يذهب إلى أن اليهود شعب واحد له تاريخ يمتد لأربعةآلاف عام، وهو شعب حيوي طاقته لا تنتهي نجح في الاحتفاظ ببقائه وتماسكه، ولذا كانيشير إليهم باعتبارهم «القبيلة اليهودية» التي يعيش أفرادها فيما يسميه «حالةالجيتو»، يربطهم «ميثاق الجيتو»، وهو ميثاق يطالبهم بعدم إظهار الرحمة نحـو الغـيروبالتعالي عليهم وبالعيش في عزلة عن كل الشعوب عبر آلاف السنين. ومن أهم عقائد هذاالشعب ـ حسب تصور دوستويفسكي ـ عقيدة الماشيَّح ذات المضمون القومي، وهي عقيدة تذهبإلى أن المسيح المخلِّص اليهودي سيعود ويقود شعبه إلى القدس مرة أخرى ويمنحهم إياهاويرمي جميع الشعوب تحت أقدامهم. وهذا الشعب اليهودي تحركه القسوة والرغبة في شربالدماء، ولذا فهم يعملون بالتجارة، خصوصاً تجارة الذهب، ويديرون البورصات ويستغلونالطبقات الفقيرة، خصوصاً الأقنان. ويجأر اليهود بالشكوى من المعاناة التي يلاقونهافي روسيا، ويدَّعون أنهم غير متساوين في الحقوق مع الروس، مع أن معاناة الأقنانالروس تفوق كثيراً معاناة اليهود.

واليهود ـ حسب رأي دوستويفسكي ـ يوجدونفي كل مكان، فهم يوجدون داخل التشكيل الاستعماري الغربي ويهيمنون على الرأسماليةالغربية، وهم بطبيعة الحال موجودون في كل الحركات الاشتراكية والثورية والفوضويةوالعدمية. وقد جعل اليهود همهم إفساد الشعب العضوي الروسي إذ كانوا يقومون ببيعالكحول لهم وبالشرب من عَرَقهم ودمهم. وحينما أُعتق الأقنان، انقض عليهم اليهودواستغلوهم واستفادوا من هفواتهم الإنسانية. وهم في استغلالهم للناس لا يتسمونبالرحمة، فاستغلالهم للأقنان لا يختلف كثيراً عن استغلالهم للزنوج في الولاياتالمتحدة بعد إعتاقهم.

ويرى دوستويفسكي أنه حتى لو أُعطيت لليهود حقوقهمكاملة، فإنهم لن يتنازلوا قط عن أن يكونوا دولة داخل دولة. وهم يفعلون ذلك لأنمصالحهم مستقلة عن مصالح المجتمعات التي يعيشون في كنفها. بل إنه يرى أن هناكمؤامرة يهودية عالمية عبر التاريخ لخدمة المصالح اليهودية المستقلة وللدفاع عنها. فهو يشير إلى دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا باعتبار أن دفاعه عن الدولة العثمانيةضد روسيا وهو تعبير آخر عن المؤامرة اليهودية الأزلية ضد روسيا وعن المصالحاليهودية المستقلة (وهذا يختلف تماماً عن موقف المدافعين عن فكرة المؤامرة عندنا إذيرى هؤلاء أن اليهود هم المسئولون عن سقوط الدولة العثمانية دفاعاً عن المصالحاليهودية). ويتجاهل دوستويفسكي حقيقة بسيطة واضحة وهي أن دزرائيلي كان يدافع عنالدولة العثمانية ضد روسيا لا حباً في الدولة العثمانية وإنما نكاية في روسيا وحتىتظل عنصر توازن معها، وتمنعها من التوسع، الأمر الذي قد يضر بالمصالح الإمبرياليةالبريطانية.

وفي الماضي، كان استغلال اليهود للآخرين أمراً تدينه العقيدةالمسيحية، ولكن حدث تطوُّر في المجتمعات الغربية إذ أصبحت هذه المجتمعات تؤمن بمذهبالمنفعة المادية. ويميِّز دوستويفسكي بين اليهود وروح اليهودية (وهو في هذا لايختلف عن ماركس وعن كثير من المفكرين الغربيين في القرن التاسع عشر)، فقد يوجد يهودطيبون ومع هذا تظل روح اليهودية هي المنفعة المادية. وقد انتشرت هذه الروح اليهوديةالنفعية المادية في المجتمع المسيحي بحيث أصبح الاستغلال فضيلة (يتحدث ماركس عن «تهويد المجتمع» بهذا المعنى(.

وإذا كانت الروح اليهودية هي الروح النفعيةالمادية، فإن حلقات المؤامرة اليهودية أصبحت على وشك الاكتمال، كما أن حكم اليهودللعالم اقترب وهيمنتهم الكاملة أصبحت أمراً وشيكاً. وقد لخص دوستويفسكي المسألةكلها بقوله إن ثمة تناقضاً أساسياً بين الفكرة السلافية (الروحية المسيحية) والفكرةاليهودية (المادية العلمانية)، وصعود الفكرة اليهودية يعني تراجُع الفكرة السلافية،أي أن اليهودي هو الآخر الذي لابد من القضاء عليه!

ويمكننا الآن أن نطرحالسؤال التالي: كيف يمكن أن يعتنق أديب إنساني مثل دوستويفسكي مثل هذه الآراء التيلا تختلف كثيراً عما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون وكتاب هتلر كفاحي؟ لمحاولةتفسير هذه الظاهرة، يمكننا أن نشير إلى بعض الأسباب، بعضها خاص بدوستويفسكي ورؤيتهللكون والبعض الآخر خاص بالمجتمع الروسي ككل وبوضع اليهودية فيه وموقف الروس منهم.

ولنبدأ برؤية دوستويفسكي للكـون:

1 ـ كان دوستويفسكي يرى أن روسيا قد تكون امتداداً لأوربا ولكنها في الوقت نفسه نقيضها. ورغم إيمانه بأن روسيا مدينة لأوربا إلا أنه يرى أن "المرحلة الأوربية" في تاريخ روسيا قد انتهت، وأن أوربا تمثل الماضي، بينما تمثل روسيا المستقبل .

2 ـ والغرب، من منظور دوستويفسكي، دمرته المادية والقيم الديموقراطية وضمور الحــس الخلقي وظهور النفعية والتمركز حـول الذات.

3 ـ كان دوستويفسكي يؤمن بالرسالة الأزلية لروسيا. فكل أمة، حسب وجهة نظره، لابد أن ترى أن خلاص العالم يكمن في خلاصها هي، وأن هدفها لابد أن يكون توحيد شعوب العالم كافة تحت قيادتها (أي أنه كان يؤمن بحتمية المشيحانية السياسية(.

4 ـ من أهم أفكار دوستويفسكي فكرة الشعب العضوي (بالروسية: نارود). فالشعب الروسي، حسب رأيه، شعب مرتبط بأرض روسيا الأم يستمد منها الطهر والأصالة، وهو شعب لم تفسده الحضارة الغربية بعد ولم يسقط في القيم التي دمرت هذه الحضارة. وهذا لا يعني عدم وجود فساد في روسيا وإنما يعني أن الفلاح الروسي حينما يرتكب الخطيئة يعرف أنها خطيئة، فهو لم يفقد بعد مقدرته على التمييز بين الخير والشر (أي أن حسه الخلقي لم يتم تحييده تماماً(.

5 ـ وتشكل الكنيسة الأرثوذكسية (أطهر أشكال المسيحية) الإطار الديني لهذه الرؤية الكونية، كما تشكل الجامعة السلافية الإطار الحضاري أو العرْقي لها. ولذا، فإن مستقبل العالم منوط بإرادة النارود الروسي تحت رعاية الكنيسة الأرثوذكسية وبقيادة القيصر.

وفي مقابل هذه المنظومة الدائرية المتماسكة التي يتداخل فيها الديني والقومي ويحل فيها الإله في الأرض الروسية والشعب الروسي، ينظر دوستويفسكي إلى الآخر الذي يقع خارج دائرة القداسة ويرفضه: وقد عرَّف الآخر بأنه أوربا الملحدة، والكاثوليك، والنظام الرأسمالي، والثورات الاشتراكية، ولكنه بالدرجة الأولى اليهود. فاليهود هنا ليسوا يهوداً وإنما هم النظام الجديد في العالم الحديث الذي يستند إلى البيع والشراء والمساومة والقيم البرجماتية ولا يعرف المثاليات أو المطلقات الأخلاقية. ولعل من المفيد الإشارة إلى أن علم الاجتماع الألماني يميِّز بين الجماينشافت (الجماعة المترابطة العضوية) والجيسيلشافت (المجتمع التعاقدي الحديث). واليهودي هو رمز هذا المجتمع التعاقدي بشقيه الرأسمالي والاشتراكي.

ولا يمكن فهم موقف دوستويفسكي وحدوده إلا بفهم وضع اليهود في روسيا والموقف الروسي منهم والذي يتمثل فيما يلي:

1 ـ كره اليهودي أمر متجذر ومتأصل في الوجدان الروسي (والسلافي على وجه العموم). فمسرح العرائس الشعبي كان يحوي شخصية اليهودي الجشع الجبان (رغم عدم وجود عدد يُذكَر من اليهود في روسيا). ولعل هذا الكره لليهود يعود إلى أيام إمبراطورية الخزر اليهودية التركية التي هددت الروس وأخضعتهم لهيمنتها. كما أن العداء التقليدي بين روسيا وتركيا (نظراً لأن صعود الواحد مرتبط تاريخياً بهبوط الآخر) لعب دوراً في ذلك، خصوصاً أن الوجدان الغربي كثيراً ما يربط بين اليهود والمسلمين (ولذا، ربط دوستويفسكي بين دزرائيلي اليهودي والعثمانيين(.

2 ـ ومع ظهور الأدب الروسي الحديث، ظل هذا النمط الإدراكي مسيطراً إلى حدٍّ بعيد. ومما زاده حدةً، ضم روسيا لبولندا ولملايين اليهود. والملاحَظ أن مطامح الأرستقراطية الروسية في السيطرة على الريف، والأحلام الرجعية الروسية المتصلة بقضية الشعب (نارود) كشعب عضوي راض بوضعه، متسم بالهدوء والاتزان، ارتطمت كلها بوجود اليهود كعنصر تجاري متحرك داخل الريف الروسي. وحيث إن كثيراً من الكُتَّاب الروس الأوائل كانوا من الأرستقراطية، فقد سادت الأنماط المعادية لليهود. ويتضح هذا في موقف أساطين الأدب الروسي، مثل: تورجنيف (1818 ـ 1883) وجوجول (1809 - 1852) بل تولستوي الذي كان يهاجم معاداة اليهود باعتبارها تتناقض مع ما ينادي به من ضرورة حب البشر، ولكنه كان في أماكن أخرى من كتاباته يُظهر موقفه الأرستقراطي الروسي المعادي لليهود. كما ظهر العداء لليهود في كتابات الأدباء النارودنيك مثل نيقولاي بيكراسوف (1841 ـ 1878) وفيودور ريشتنكوف (1841 ـ 1871). وقد تم الهجوم على اليهودي باعتباره مستغلاً للجماهير المسحوقة.

ولعل تشيخوف (1860 ـ 1904) من الكُتَّاب الروس القلائل الذين تناولوا شخصية اليهودي تناولاً يتسم بشيء من التعاطف. أما في الأدب السوفيتي، فقد كانت صورة اليهودي إيجابية على وجه العموم (بما يتفق مع الخط الرسمي للحزب)، ولا تثير أية مشاكل خاصة. (ومع هذا، صدرت كتيبات سوفيتية ذات طابع عرْقي واضح هي مجرد استمرار للموقف الروسي القديم. كما أن تصريحات بعض القادة السوفييت كانت تنحرف أحياناً عن خط الحزب وتُعبِّر عن الأنماط الإدراكية العرْقية القديمة. بل إن بعض سياسات السوفييت لا يمكن تفسيرها إلا باعتبار أنها سياسة معادية لليهود(.

3 ـ كان المستوى المعيشي لأعضاء الجماعات اليهودية أعلى على وجه العموم من مستوى كثير من الفلاحين الروس، كما أن مستواهم التعليمي كان أعلى بكثير من مستوى الأغلبية (الروسية). كما حقق بعض اليهود (مثل عائلة بولياكوف وجونزبرج) ثراءً واضحاً.

4 ـ كان اليهود في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر جماعة وظيفية فقدت وظيفتها وأساس بقائها. ومن ثم، كان أعضاؤها في حالة تَراجُع أخلاقي وحضاري هائلة. فتركَّزوا في مهن وحرف هامشية (عادةً مشينة) مثل تقطير الخمور وإدارة الحانات وبيع الملابس القديمة، كما كان عدد البغايا اليهود مرتفعاً إلى درجة كبيرة. وكان عدم تحدُّد ولاء أعضاء الجماعات اليهودية لروسيا أمراً مفهوماً، حيث كانوا عبر تاريخهم تابعين لبولندا عدو روسيا الأكبر. كما كانوا يتحدثون اليديشية، وهي لغة عدوهم الآخر: ألمانيا. ولذا، نجد أن صورة اليهودي كجاسوس صورة متواترة في الأدب الروسي. وهي صورة ذات أساس «مادي صلب». وما لم يدركه دوستويفسكي وغيره أن هذه الحالة اليهودية لم تظهر إلى الوجود إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وأنها مرتبطة بعمليات التحديث في الإمبراطورية القيصرية، أي أنها مرتبطة بزمان ومكان محددين، ورغم أن يهود الإمبراطورية الروسية القيصرية كانوا يشكلون الغالبية الساحقة من يهود العالم، إلا أن حالتهم الخاصة لا يمكن تعميمها.

وقد كتب تورجنيف قصة قصيرة بعنوان اليهودي (1847) تُعبِّر بشكل مباشر عن هذا الاشمئزاز من اليهود، فبطل القصة يُعدَم بعد اتهامه بالجاسوسية. وهذا الموقف لا يختلف كثيراً عن موقف جوجول (1809 ـ 1852) في تاراس بولبا التي تقع أحداثها إبان حرب البولنديين والقوزاق. وتشتمل الرواية على وصف ليهودي صاحب حانة يتسم سلوكه بأنه مرتزق خائن يُشَك في أنه جاسوس للبولنديين (وقد ظهر الموضوع نفسه، أي اليهودي كجاسوس، في إحدى قصص الكاتب اليهودي الروسي السوفيتي إيزاك بابل بعنوان «بريستشكو» في مجموعة الفرسان الحمر(.

5 ـ لم تكن عملية التحديث تتم بسرعة كافية في روسيا، ولذا ظهرت الأمور وكأن اليهود يبذلون قصارى جهدهم للحفاظ على هويتهم والانسحاب من المجتمع الروسي.

6 ـ كان اليهود متواجدين بالفعل في صفوف الثوريين (تروتسكي) والرأسماليين (جونزبرج) والرجعيين (ستاهل) والمسيحيين (شستوف). كما كان لهم وجود ملحوظ في كل قطاعات المجتمع العلماني الجديد، الوضع الذي يعطي انطباعاً للمراقب السطحي بوجود اليهود في كل مكان وتآمرهم على كل القيم.

7 ـ كان دوستويفسكي وكل الإنتلجنسيا (بل البيروقراطية الروسية) يعانون من جهل شديد بأحوال اليهود. ويعود هذا إلى أن دخول روسيا كان محرَّماً على اليهود حتى نهاية القرن الثامن عشر، ولذا لم تكن توجد في روسيا أعداد تُذكَر من اليهود. ثم ضمت روسيا أوكرانيا وبولندا في ذلك التاريخ وضمت مع الأراضي أكبر تجمُّع يهودي على وجه الأرض، وهو تجمُّع كان يتحدث اليديشية وكان له وضع اقتصادي وحضاري متميِّز.

ورغم جهل دوستويفسكي الشديد بالحقائق التاريخية المتنوعة، قام بالتعميم استناداً إلى معرفته المقصورة على زمان ومكان محددين، فأصبح يهود روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هم اليهود كافة، واليهود في كل زمان ومكان. وهذه هي الطريقة التي تُولَد بها الأنماط الإدراكية العنصرية. ودوستويفسكي هو ابن عصره الغربي الذي هيمن عليه فكر عنصري إمبريالي (بالمعنى الحرفي)، يقسم العالم إلى عنصرين اثنين متصارعين (الأنا والآخر)، فيقدِّس الذات ويهدر حقوق الآخر، ولا يدخل في علاقة مركبة مع التاريخ وإنما يجتزئ منه ليدعم وجهة نظره العرْقية. وهذا ما فعله دوستويفسكي وهتلر، والعنصريون كافة قبلهما وبعدهما (وقد لاحَظ أحد الدراسين، بالفعل، السمات المشتركة بين هتلر ودوستويفسكي).

ثم نأتي أخيراً للقضية التي طرحناها في بداية هذا المدخل: التناقض بين رؤية دوستويفسكي الإنسانية العالمية، والتي تتبدى أساساً في أعماله الأدبية، وموقفه العنصري الضيق تجاه اليهود. ودهشتنا لهذا التناقض مردها وهمان آخران:

1 ـ يُسيطر علينا تصوُّر مفاده أن ثمة اتساقاً عضوياً وتكاملاً في حياة البشر، وأن كل إنسان يتبع منطقاً واحداً في حياته. وتبعاً لهذا التصوُّر، لا يمكن أن يكون فرد واحد إنساناً عامر الإنسانية مع بني جلدته وقبيلته، متوحشاً بالغ الوحشية مع مجموعة إنسانية أخرى، ورغم أن هذا التصور منطقي، فإنه أبعد ما يكون عن الحقيقة المتعيِّنة، فالوجود الإنساني يتسم بالتناقض والتركيب، ويجتمع في داخل الإنسان الواحد الخير والشر والنبل الخسة.

2 ـ يُسيطر علينا أيضاً تصوُّر أن ثمة ارتباطاً (يكاد يكون عضوياً أيضاً) بين الحس الخلقي والحس الجمالي. ومرة أخرى، فإن هذا التصور المنطقي المجرد أبعد ما يكون عن الحقيقة المتعيِّنة. انظر مثلاً إلى أعمال الشاعر الأمريكي روبرت فروست، هنا نجد قصائد رائعة الجمال ترتبط فيها فكرة النظام بالمعنى الجمالي بفكرة النظام بالمعنى الأخلاقي، ولكن يُقال إن حياة هذا الشاعر الشخصية تتسم بكثير من القسوة والوحشية تجاه أقرب أقاربه. ويمكن أن يكتب أديب عملاً فنياً في غاية الرقي الفني ولكنه يدعو إلى الانحطاط. إن الحق والجمال أمران مختلفان، وهو أمر لا شك محزن، ولكن هذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وعلينا أن نتأمل بشيء من التفلسف حينما نعرف أن ضباط فرق الصاعقة النازية كانوا يستمعون إلى موسيقى فاجنر الراقية ويناقشون الأعمال المعمارية الضخمة التي يشيِّدها النظام النازي وهم يشمون رائحة لحم ضحايا المحرقة النازية التي تشوى ضحاياهم. وانظر إلى القاهرة ذاتها تجد أن بعض أجمل المباني شيدها الإنجليز، هؤلاء الذي جيشوا الجيوش وأرسلوا بها إلى بلادنا لتنهبها وتحوِّلها إلى مصدر لفائض القيمة الذي يصّب في خزائن الإمبراطورية البريطانية.