مارتن هايدجر (1889 – 1976 ( والنازية
Martin Heidegger and Nazism
في كتابه المعنون الحداثة الرجعية: التكنولوجيا والثقافة والسياسة في جمهورية فايمار والرايخ الثالث يُبيِّن جيفري هيرف أن الحداثة لم تكن حركة نحو اليمين أو نحو اليسار، إذ يرى أن هناك حداثة رجعية فاشية هي حداثة انتصار الإرادة على العقل، والروح المبدعة على الحدود. وفي إطار هذه الحداثة ترتبط الإرادة المنتصرة بالعنصر الجمالي الذي يصبح هو وحده مبرر الحياة، ولذا تُعَّلق (أي تُعطَّل) كل المعايير الأخلاقية وتهيمن الرغبة التي لا تعرف أية حدود. وفي حديثه عن هـذه الحـداثة الرجـعية يُبيِّن هيرف أن مصـادرها متعددة، يذكر من بينها ما يلي: الرومانسية ـ أيديولوجية الفولك ـ المصطلح الوجودي عن الذات والأصالة ـ الداروينية الاجتماعية ـ فلسفات الحياة Lebensphilosophie ـ احتفاء نيتشه بالجمال الذي يتجاوز الأخلاق أو الذي لا علاقة له بالأخلاق (بالإنجليزية: أمورال amoral) ـ الاحتفال بالجمال باعتباره معياراً « أخلاقياً » ـ تمجيد التكنولوجيا وربطها بالقيم المتجاوزة للأخلاق. ويستمر هيرف، عبر كتابه، في تعداد هذه العناصر وغيرها.
ونحن نرى أنه رغم دقة ملاحظاته وجدَّتها إلا أن كتالوج العناصر الذي قدَّمه يتسم بعدم الترابط. وقد يكون من الأجدى أن نرى نمطاً عاماً في الحضارة الغربية: تصاعد معدلات الحلولية الكمونية والانتقال من العقلانية المادية (المتجاوزة للقيمة والأخلاق والغائية الإنسانية) إلى اللاعقلانية المادية (المتجاوزة للقيمة والأخلاق والغائية الإنسانية) والتأرجح بين الذات والموضوع (وهو نمط عام يصل إلى قمته في فلسفة ما بعد الحداثة).
وفلسفـة مارتن هايـدجر (1889 ـ 1976)، الوجـودي والفينومينولوجي، هي جزء من هذا النمط العام. وهو يُعَدُّ من أهم فلاسفة القرن العشرين في الغرب، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، وينزله البعض منزلة أفلاطون وهيجل. وقد تأثر هايدجر بأعمال جيكوب بومه والمعلم إيكهارت ونيتشه وكيركجارد وهوسرل، ويبدو أن الفكر الغنوصي ترك أثراً عميقاً فيه. وكتابه الأساسي: الوجود والزمن (1927)، بالإضافة إلى كتبه الأخرى: كانط ومشـكلة الميـتافيزيقـا (1929)، و ماهــية الحقـيقة (1943)، و مدخل إلـى الميتافيزيقا (1935)، و رسـالة حـول الإنسانية (1947)، و ما الفلسفة (1955(.
ونقطة انطـلاق هـايدجر هي الوجـود، فالسـؤال الأساسي عنده هو: ما معنى الوجود؟ فهو السـؤال الذي يجـب أن يسـأله كل إنسـان ليصبح إنساناً. ويذهب هايدجر إلى أن الخلل الأساسي في الأنطولوجيا الغربية أنها سقطت في ثنائية راديكالية فظنت أن الوجود هو كيان موضوعي مفارق للذات ثم قامت بفصل الواحد، وبحدة، عن الآخر، فحوَّلت العالم الموضوعي إلى مادة لا أسـرار فيها ولا سـحر خاضعة للحَوْسَلة منفصلة تماماً عن الذات، كما تحوَّل الإنسان إلى عقل أداتي وذات متعجرفة متكبرة تنفصل تماماً عن واقعها وتتعالى عليه بدلاً من التفاعل معه، تحاول أن تغزو الكون بدلاً من أن تعيشه، وتحاول أن تفرض صورتها على الكون وتحتل مركزه وتحوسله. وتتجلى هذه الرؤية من خلال فلسفة ديكارت وفكر حركة الاستنارة والفلسفة الوضعية والنزعة التكنولوجية.
وفي محاولة تجاوز هذه الثنائية يرفض هايدجر العودة للإله، كما يرفض أن يعود إلى الذات المستقلة، وبدلاً من ذلك يطرح مشروعه الفلسفي الذي يصفه هو نفسه بأنه عملية هدم (بالإنجليزية: ديستراكشن destruction ـ بالألمانية: ديستروكسيون destruktion) للفلسفات السابقة، بل لكل الأنطولوجيا الغربية، أنطولوجيا الذات والموضوع (ويتحول الهدم [ديستراكش] إلى تفكيك بالإنجليزية: «ديكونستراكشن deconstruction» في خطاب دريدا الفلسفي، الذي يدين بالكثير لفلسفة هايدجر(.
وجوهر عملية التفكيك أو الهدم هذه هو الاقتراب من الواقع بدون المنظار الديكارتي بحيث يتجاوز الدارس ثنائية الذات والموضوع وينظر إلى الوجود (شأنه في هذا شأن فلاسفة عالم الحياة) باعتباره الاثنين معاً. ومن هنا اهتمام هايدجر (ونيتشه من قبله) بالفلسفة اليونانية قبل سقراط، وهي فلسفة لم تعان في تصوره من انقسام الذات والموضوع.
ونحن نذهب إلى أن هذا الانقسام الحاد بين الذات والموضوع هو سمة أساسية في كل الرؤى الحلولية الكمونية المادية التي ترفض فكرة المركز المفـارق للمـادة المنزه عنها، وتحاول أن تعين مركزاً كامناً أو حالاً فيها، فتجده إما في الإنسان أو في الطبيعة، إما في الذات أو في الموضوع. وتحسم هذه الثنائية الصلبة ذاتها إلى واحدية مادية بذوبان الذات في الموضوع، أو الموضوع في الذات (وإن كان البديل الأول هو الأكثر شيوعاً). وهو انقسـام لم تسـلم منه الفلسـفة اليونانية أو أية فلسـفة حلولية كمونية مادية، قبل سقراط أو بعده، في اليونان أو خارجها. ونمط الثنائية الصلبة التي تؤدي إلى واحدية يظهر بوضوح في فلسفة هايدجر.
يتناول هايدجر قضية الوجود من خلال مفهوم «دازاين Dasein» وهي كلمة ألمانية تعني حرفياً «الوجود هناك» (بالإنجليزية: بينج ذير being there) أي «الوجود في العالم». وفي سياق فلسفة هايدجر يمكن ترجمتها إلى «الإنسان» أو «حالة كون الإنسان إنساناً» (بالإنجليزية: ذي مود أوف بينج هيومان the mode of being human). وأهم خصائص وجود الإنسان أن وجوده لا يشبه وجود الشيء، فقانونه هو عدم التعين، فهو كائن غير ثابت، ليست له طبيعة محددة. وبما أن لكل فرد الحق في أن يقول « أنا »، فإن الوجود الإنساني يتغيَّر من فرد لآخر. فهذا الأنا ليس جوهراً، أي ليس موضوعاً ثابتاً تجرى عليه التغيرات، بل هو ينبوع للإمكانات واستعداد لتحققها (عبد الرحمن بدوي(.
وتوجد هذه الذات الإنسـانية في عالم الصيرورة والزمان، لا فكاك لها منه، وليس لها وجود مستقل عنه. بل إن وجودها نفسه هو ثمرة علاقتها مع العالم المادي ومع الآخرين، ومع هذا لا تُردُّ الذات إلى واقع خارج عنها ولا تُستوعَب تماماً فيه. فالعلاقة بين الذات والموضوع علاقة جدلية. فالواقع الذي نتـفاعل مـعه يصوغنا بقدر ما نصـوغه نحن،ونمتلكه بمقدار ما يمتلكنا. والذات هي إمكانية دائمة ومشروع مستمر وحوار مستمر مع العالم. وعملية الحوار هذه تعني الصيرورة الدائمة، فالواقع الذي نتفاعل معه مركب تماماً، ولا يمكن إخضاعه لعملية الرد الفينومينولوجي أو التجريد الإيديتيكي التي تعلق الواقع (على الطريقة الهوسرلية). ولا يمكننا استنفاد معناه تماماً ولا يمكن حوسلته أو استيعابه في مقولات منطقية مجردة عامة (ومن هنا عجز العلم الطبيعي عن فهم الوجود(.
والإنسان كائن أُلقي به في عالم ليس من صنعه، ولكنه مع هذا عالمه الوحيد، ولا يمكن للإنسان أن يأخذ موقفاً تأملياً محايداً من هذا العالم، فنحن نصبح جزءاً من الأشياء التي في وعينا، ولذا فإن الإنسان ليس كائناً عارفاً وإنما هو كائن قلق بشأن مصيره في عالم غريب عنه. ويتسم الإنسان بأنه ليس لديه ردود فعل (موضوعية) للأحداث، فهو « يستجيب » لها، ومن ثم فالإنسان محتم عليه الاختيار ومحاولة فهم العالم.
واللغة من أهم العناصر في الوجود الإنساني، فهي أساسية له (بل إنها توجد قبل جود الإنسان الفرد)، وهي طريقة انفصال الإنسان عن الوجود ليشعر الإنسان بالدهشة تجاهه بل يشعر بوجوده (على عكس الكائنات الأخرى، والوجود بالنسبة لها كينونة وليس حضوراً، فهي كائنة في الوجود لا تعيشه). ولكن اللغة هي أيضاً أداة اتصالنا مع العالم ومع الآخرين. ولكنها أداة ليست موصلة تماماً لا يمكنها الإفصاح تماماً عما لا يمكن تسميته، ولذا فاللغة لا يمكن أن تمثل الواقع كما أن اللغة تفقد حدتها بسبب تفاهة اللغة السائدة. ولعل هذا هو الذي حدا بهايدجر أن يحاول تطوير مصطلحه الخاص تماماً وأن ينحت كلمات جديدة ويلجأ للعب بالكلمات حتى يُفصح عن رؤيته الخاصة (كما فعل دريدا بعده متأثراً به). كما أن هايدجر كان يذهب إلى أن لغة الشعر أكثر قدرة على التوصيل من اللغة العادية. ومع هذا كان يذهب إلى أن بعض الأفعال مثل «يستقر» و«يرى» تكشف عن الحقائق الأولية للوجود الإنساني.
لكن الإنسان كمشروع مستمر وإمكانية غير متحققة قد يفقد ذاته ويصبح «الهُم». وهي عبارة تعني ببساطة «الشخصية المتوجهة نحو الآخر» (بالإنجليزية: أذر دايركتيد other directed) والإنسان الاجتماعي بالمعنى السلبي، أو الإنسان المستوعَب تماماً في الأعراف الاجتماعية وآراء الآخرين (ولكن هايدجر يصر دائماً على تحاشي المصطلحات السوسيولوجية ويفضل المصطلحات الفلسفية الأنطولوجية التي ينحتها بسرعة وغزارة تسبب كثيراً من الصداع الذي لا مبرر له).
هذا « الإنسان الهُم » هو إنسان ذو بُعد واحد يحكم على نفسه بمعايير الآخرين ويُستوعَب في الآخرين ويسقط في لغو الحديث الذي يقف على الطرف النقيض من الحوار، فالحوار هو أن ترى الآخرين باعتبارهم بشراً (دازاين) لهم وجودهم الخاص المتعين، لا باعتبارهم أشياء موضوعية (داس مان: الهُم) بحيث يمكن الدخول معهم في علاقة حميـمة تكـشف شــخصيتهم الأصــيلة والحقيقـية. والإنسـان الهُم هـذا لا يشعر بالدهشة الحقيقية وإنما يتسم بحب الاستطلاع، وحب الاستطلاع هو الرغبة في اقتناء الجديد والمختلف دون أي إحساس حقيقي بالدهشة.
وحتى لا يسقط الإنسان في حالة الهُم هذه فهو دائماً في حاجة إلى الإحساس بالرهبة (بالألمانية: أنجست Angst، وبالإنجليزية: دريد dread) ويظهر هذا الإحساس عندما يدخل الإنسان في علاقة مع العدم من خلال إدراكه للموت (وهي لحظة لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تدركها ولا يمكن للحياة اليومية أن تتعايش معها). وعندما يمارس الإنسان الإحساس بالقلق وبتناهي الوجود الإنساني وبزمنيته، تسقط التفاصيل اليومية ويتوارى العالم العادي ويتفتح الوجود ويكشف عن نفسه وتكتشف الذات أصالتها وإمكانياتها وضمنها إمكانية الحرية والاختيار، حرية أن تختار الذات نفسها وأن تمسك بنفسها، ومن ثم تكتشف الذات قدرتها على تجاوز العالم وعلى الخروج من حدودها الضيقة (الهُم) لا لتعرف العالم وحسب ولتكون فيه وإنما لتوجد فيه، أي أن يتحقق وجودها الأصيل والحقيقي في العـالم في الزمـان. وتصل قمـة الحرية إلى حرية الإنسـان في أن يقابل الموت.
ورغم حديث هايدجر عن العلاقة الجدلية التفاعلية التبادلية بين الذات والموضوع، ورغم محاولته المستميتة أن يحافظ على المسافة بين الذات والموضوع إلا أنهما يلتحمان (بسبب غياب المركز المفارق) بعد فترة من التأرجح (المأساوي أحياناً، والملهاوي أحياناً أخرى) بين الذات المطلقة التي لا حدود لها ولا قيود عليها والتي تلتهم الموضوع، والموضوع المطلق، الذي يتجاوز كل شيء، وضمن ذلك الإنسان الفرد، ويبتلع كل الذوات، أي أن هايدجر يتأرجح فلسفياً بين العقل الإمبريالي النيتشوي الدارويني والعقل الأداتي البرجماتي. فلنأخذ على سبيل المثال مفهوم هايدجر للتاريخ الإنساني، التاريخ بالنسبة له ليس تاريخاً متعيناً، وإنما هو زمان وحسب، تجربة ذاتية وجودية، يصبح الوجود من خلالها حضوراً، أي تجربة فريدة معاشة، وهكذا يختفي أي مركز مفارق للإنسان ولا تبقى إلا الذات. (وسنرى كيف أن الذات الهتلرية تبتلع الموضوع الألماني بل كل الوجود).
ويحدث الشيء نفسه للذات، إذ يذهب هايدجر إلى أن الذات لا يمكن أن تكون نفسها في أية لحظة، فهي في حالة صيرورة مقلقة، ولا يمكن للإنسان الفرد أن يمسك بوجوده تماماً، فوجود الإنسان يسبقه دائماً كمشروع غير متحقق بعد، وهو مشروع دائم لا ينتهي، ومن ثم فالوجود الفرد إن هو إلا وهم.
وللخروج من هذه الحالة اقترح هايدجر، كما أسلفنا، تجربة الرهبة (أنجست) الناجمة عن مواجهة الموت والعدم والتأمل فيهما. ولكن هـذا ليـس هـو الحـل الوحيد، فهناك الحل الألماني المثالي/المادي المألوف، أي افتراض أن الذات والوجود هما شيء واحد، أو أن كليهما موضع الحلول. ولكن هذا الحل الألماني هو حل مؤقت إذ عادةً ما تنحل هذه الوحدة العضوية الكاملة إلى عنصر واحد يغلب الآخر، وهو عادةً العنصر الموضوعي الذي يطـوق الذات ويذيبها فيـه، أي أن الوحـدة العضـوية تتحول إلى واحدية مادية. وهذا أمر متوقع تماماً، فالفرد القلق المنعزل الملئ بالقلق والرهبة (أنجست) سيحاول بأقصى جهده أن يخرج من حالة العزلة هذه، حالة الوهم، وإحدى وسائل الخروج التوحد بالذات الجماعية، بالوجود الجمعي بديل الإله (وهذا هو الحل الذي اقترحه هيجل ودوركهايم وغيرهما(.
المفضلات