ويُلاحَظ أن ثمة علاقةوثيقة بين البروتستانتية من جهة والصهيونية والجماعات اليهودية من جهة أخرى:

1
ـ تأثرت اليهودية بالإصلاح الديني، فظهرت اليهودية الإصلاحية في ألمانيا (مهد الإصلاح الديني) متأثرة بفكر الإصلاح الديني المسيحي بشكل عام وبفكر لوثر علىوجه الخصوص. وقد صرح الفيلسوف اليهودي هرمان كوهين أنه لا يرى أي فارق بين التوحيداليهودي والبروتستانتية.

2
ـ لاحظنا ظهور الفكر الاسترجاعي الصهيوني داخلالفكر البروتستانتي. ويمكن الإشارة إلى أن كثيراً من يهود أوربا كانوا، ابتداءً منالقرن السابع عشر، يستقرون في البلاد البروتستانتية (هولندا وإنجلترا... إلخ)،والتي كان لها النصيب الأكبر في التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي. ولذا، نجدأن معظم يهود العالم مركزون في البلاد البروتستانتية الاستيطانية التي تتحدثالإنجليزية: الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. ولم يَعُدلهم وجود يذكر في البلاد الكاثوليكية. ومع هجرة اليهود السوفييت، سيتركز يهودالعالم إما في البلاد البروتستانتية أو في إسرائيل.

3
ـ يُلاحَظ ارتباطالحركة الصهيونية بالبلاد البروتستانتية. وقد تبنت إنجلترا المشروع الصهيوني بعدمنافسة قصيرة مع ألمانيا وتبعتها الولايات المتحدة، وذلك بينما كان هناك دائماً رفضللمشروع الصهيوني في الأوساط الكاثوليكية. ويُلاحَظ أنه، مع تزايُد انتشارالبروتستانتية في أمريكا اللاتينية، يُتوقع تزايد التعاطف مع المشروع الصهيوني.

4
ـ ارتبطت هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث بالتشكيلالاستعماري الاستيطاني البروتستانتي الأنجلوساكسوني، ولذا نجد أن الغالبية الساحقةمن يهود العالم توجد في الولايات المتحدة وكندا وجنوب أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا (وأخيراً إسرائيل التي هي جزء من هذا التشكيل الأنجلو ساكسوني).

5
ـ ثمةعلاقة غير مباشرة بين البروتستانتية والجماعات اليهودية تتحدد في أن الرأسمالية،حسب أطروحة فيبر، وُلدت في المجتمعات البروتستانتية، كما أن ميلاد الرأسماليةالرشيدة كان أهم حدث في تاريخ الجماعات اليهودية، خصوصاً في الغرب.

6
ـ ولايزال كثير من غلاة البروتستانت يأخذون بالتفسير الحرفي للعهد القديم، وينظرون إلىفلسطين باعتبارها أرضاً مرتبطة باليهود، وينظرون إلى اليهود باعتبارهم العبرانيينالقدامى، ويتفشى في صفوفهم تفكير صهيوني وحُمَّى استرجاعية ألفية. ويرى كثير منهمأن دولة إسرائيل هي تحقيق للنبوءات التي وردت في العهد القديم.

لكن هذا لايعني أن ثمة علاقة عضوية أو سببية بين البروتستانتية والصهيونية. وكما أسلفنا، تحويالرؤية الاسترجاعية البروتستانتية قدراً كبيراً من كراهية اليهود ورفضهم. وتتحدثإذاعات غلاة البروتستانت في الولايات المتحدة عن ضرورة عودة اليهود، ولكنها ترىأيضاً أن هتلر هو سوط العذاب الذي أرسله الإله لتعذيب اليهود لإنكارهمالمسيح.

عصــر النهضـة (القـرنان السـادس عشـر والسـابع عشـر(
The Renaissance (Sixteenth and Seventeenth Century)
رغم التفتح العام الذي شهدتهالحضارة الغربية في عصر النهضة، فإنه لم تكن له مردودات إيجابية على أعضاء الجماعاتاليهودية. وربما يعود هذا إلى وضع اليهود الخاص داخل المجتمع الغربي وإلى أنهم لميكونوا جزءاً من القوى الاجتماعية التي أدَّت إلى ظهور النهضة والاستنارة فيما بعد. كما أن بنية المجتمع، برغم تغيرها في كثير من الوجوه، ظلت جامدة وتقليدية. ولذا، لميشهد عصر النهضة (بشـكل عام) تغـيراً جـوهرياً في أحوال أعضاء الجماعات اليهودية،كما لم تحدث تطورات فكرية عميقة إلا في بعض الجماعات مثلما حدث في إيطاليا في بدايةعصر النهضة. وكانت أوربا خالية من اليهود بعد أن طُردوا من إسبانيا عام 1492، ومـنالبرتغـال عام 1496، ومن نافار وصـقلية وســردينيا عام 1498، ومن سويسرا وألمانياعام 1490. أما إنجلترا وفرنسا، فكانتا قد طردتا أعضاء الجماعات اليهودية في فترةسابقة ولم يسمح لهم بالاستيطان فيهما. ولم تكن هناك جماعات يهودية إلا في شرق أوربا (بولندا) التي كانت خارج نطاق عصر النهضة (في بدايته)، أو في بعض الإماراتالألمانية التي استقبلت اليهود الذين كانوا قد طُردوا من إمارات أخرى. كما كان يوجدبعض اليهود في المدن/الدول الإيطالية في بداية عصر النهضة. بل إن هذه الفترة شهدتتكريس عزلة اليهود، وشهدت تحوُّل الجيتو من المكان الذي كانوا يعيشـون فيه إلىالمكان الذي يتعين عليهم العيـش فيه. فمع عصر النهضة، فقدت كثير من الجماعاتاليهودية في غرب أوربا دورها كجماعة وظيفية وسيطة تعمل بالتجارة والربا وحلت محلهاجماعات مسيحية محلية أو دولية.

ومع هذا، شهدت تلك الفترة بعض التحولاتالعميقة للجماعات اليهودية، وهي تحولات كان مقدراً لها أن تتصاعد في الفتراتالتاريخية اللاحقة بعد تزايُد أعداد يهود بولندا، وبدأ تشابكهم مع طبقة الشلاختاداخل إطار الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا (نظام الأرندا). ويُلاحَظ بدايةًالانفجار السكاني بين يهود بولندا الأمر الذي أدَّى إلى تحوُّلهم إلى الغالبيةالساحقة من يهود العالم. كما بدأ يهود المارانو في تكوين مراكزهم السكانيةوالثقافية فى أمستردام وبوردو وسالونيكا (وفي كثير من مدن الدولة العثمانية) وكانيُطلَق عليهم «السفارد» أو «البرتغاليين». وكان السفارديون على مستوى ثقافي رفيع (نظراً لاحتكاكهم بالثقافة العربية الإسلامية)، وكانت النخبة بينهم على درايةبالأمور المصرفية المتقدمة. وكانت تربطهم فضلاً عن ذلك علاقات وثيقة باليهودالسفارديين في الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي سهل عليهم القيام بالعملياتالتجارية الدولية، وبذلك أمكنهم أن يلعبوا دوراً في الاقتصاد الجديد. وقد بدأ الأدبوالفن في عصر النهضة ينفتحان على المواضيع العبرية واليهودية، فرسم رمبرانت يهودأمستردام (ومن بينهم إسبينوزا) وأبطال العبرانيين. ويُلاحَظ أن الأعمال الأدبيةبدأت هي الأخرى تعالج شخصيات مثل شمشون ويهوديت وإستير.

ومن المفارقات أنهحين بدأت أوربا في نبذ اليهود، اكتسب يهود أوربا مركزية بين يهود العالم بسبب ثقلهمالسكاني (إذ أصبحوا يشكلون غالبية يهود العالم) وزاد وزنهم الثقافي مع تزايُد طباعةالكتب العبرية، وكذلك بسبب تزايد أهمية أوربا في العالم مع تزايد غزواتهاالإمبريالية لأركان المعمورة الأربعة. ويُلاحَظ أن ظاهرة يهود البلاط بدأت في هذهالفترة ولكنها لم تتبلور إلا في القرن السابع عشر الميلادي. وقد بدأ تحرُّك أعضاءالجماعات اليهودية مع التشكيل الاستيطاني الغربي في هذه المرحلة، وهي عملية انتهتفي الوقت الحاضر بوجود معظم يهود العالم في بلاد استيطانية.

ويُلاحَظ أنه،في هذه الفترة، بدأ ظهور الفكر الصهيوني بين المسيحيين في البلاد البروتستانتية علىوجه العموم وفي إنجلترا على وجه الخصوص. وهو فكر يذهب إلى أن خلاص العالم لن يتمإلا بالاستيلاء على فلسطين واسترجاع اليهود، أي عودتهم لها، وتنصيرهم حتى يتمالإعداد لعودة المسيح المخلِّص. والفكرة الصهيونية هي ذاتها الفكرة الاسـترجاعية معإحلال العنصـر اليهودي محل العنصر المسـيحي.

وعصر النهضة، كما أسلفنا، هوعصر الاكتشافات الجغرافية وبدايات الرأسمالية المركنتالية برغبتها في التوسع. ومنثم، بدأت الفكرة الاسترجاعية في كسب المؤيدين لها، وبخاصة في البلاد البروتستانتية،وبدأ الحديث عن عودة اليهود إلى صهيون أي فلسطين. وبدأت محاولات إنشاء مستوطناتيهودية خارج أوربا، وقد جرت أولى المحاولات الاستيطانية في العالم الجديد. ولكن عصرالنهضة، وانقلابه التجاري، والأفكار الصهيونية المسيحية التي سادت خلاله، لم تكنسوى إرهاصات للثورة الفرنسية والصناعية وللحركة الإمبريالية التي تركت أثرها العميقفي العالم بأسره، وفي الجماعات اليهودية بطبيعة الحال.

عصــرالاســتنارة (القـــرن الثــامن عشـر)