عصــرالاســتنارة (القـــرن الثــامن عشـر)
The Enlightenment (Eighteenth Century)
كان التيار الفكري الأساسي في هذه الفترة هو فكر حركة الاستنارة، وهو فكر يدعوإلى تحرير الإنسان من الغيبيات بهدف ترشيده. وهي عملية ترشيد أدَّت، فيما أدَّت،إلى تطويع الإنسان لخدمة الدولة المركزية المطلقة. وقد أدَّى ذلك إلى الهجوم على كلأشكال الغيب والخصوصية وكل الجيوب الإثنية. ولا شك في أن هذا الفكر، وكذلك التحولاتالاجتماعية التي أدَّت إليه ونجمت عنه في الوقت نفسه، قد تركا أعمق الأثر في أعضاءالجماعات اليهودية في العالم بأسره، فقد استفادوا من هذه التحولات أيما استفادة معأنهم اصطدموا بها في نهاية الأمر. والواقع أن هذه العملية التاريخية هي التي قضتعلى الجيتو وأعتقت اليهود، ولكنها قضت أيضاً على دورهم كجماعة وظيفية وسيطة، وزادتمن معدلات الاندماج والعلمنة بينهم.

ويُلاحَظ أن حركة أعضاء الجماعاتاليهودية في أوربا خلال العصور الوسطى في الغرب كانت قد أخذت شكل الانسحاب أوالهجرة إلى الماضي؛ فكانت هجرة من أوربا الغربية، حيث نشأت طبقات تجارية محلية، إلىالشرق السلافي حيث كان نمط التنظيم الاجتماعي شبيهاً بأوربا في العصور الوسطى وحيثكان بوسع أعضاء الجماعات اليهودية الاستقرار في مسام المجتمع وعلى هامشه ليلعبوادوراً حدودياً. وكان اليهود المنسحبون هم أساساً اليهود الإشكناز الذين يشتغلونبالتجارة البدائية والربا، وكان أكبر تجمُّع لهم في هولندا وروسيا، وهو التجمُّعالذي نشأت فيه المسألة اليهودية (والأفكار الصهيونية فيما بعد). وقد استمرت هذهالحركة حتى بداية القرن السابع عشر الميلادي حين بدأت الدولة العثمانية (التي كانتتستوعب الفائض الأوربي من اليهود) في التجمد.

أخذت الهجرة اليهودية منذ ذلكالتاريخ تتجه نحو بلاد وسط وغرب أوربا، وهي البلاد التي كانوا قد طُردوا منها. وقدعاد اليهود إلى هذه البلاد بعد أن تساقط النظام الإقطاعي الوسيط وظهر حكم الملكياتالمطلقة التي حطمت سلطة الأمراء الإقطاعيين وظهرت الدولة المركزية المطلقة. وكانيهود المارانو، بما لديهم من خبرة في الأمور المالية والتجارة الدولية، عنصراًأساسياً في الحركة الثانية لليهود.

وفي عام 1612، سمحت هامبورج ليهودالمارانو (وهم من السفارد) بالاستيطان فيها، وقد أعلن بعضهم يهوديته صراحة بعدالاستيطان. أما في فرنسا، فكان هناك بعض الجيوب اليهودية. ومع عصر النهضة، تغيَّرتالصورة. ففي أواخر القرن السادس عشر الميلادي، سُمح لبعض اليهود السفارد منالمارانو بالاستيطان في بوردو وبايون. كما تم ضم منطقة الألزاس واللورين التي كانتتضم يهوداً من الأشـكناز، وبـعدها انتـشر اليهود، وبخاصة من الألزاس، في كل فرنسا. أما في إنجلترا، فقد سُمح بعودة اليهود عام 1664، وأُسِّس معبد يهودي في لندن عام 1690 ولم يكن هناك، في إنجلترا، جيتو يهودي بالمعنى المعروف، ولم تُفرَض عليهم هناكأية قيود.

وقد هاجر يهود المارانو أيضاً إلى هولندا واستوطنوا في أنتورب،ثم في أمستردام، وتحالفوا مع البروتستانت في حربهم ضد الهيمنة الإسبانية، كما لجأبعض يهود المارانو إلى الإمبراطورية العثمانية. وكان نمط الهجرة يأخذ في العادة شكلاستيطان سفاردي في البداية ثم يتوافد المهاجرون الإشكناز.

وقد أدَّى هذا،في بداية الأمر، إلى تزايُد عدم تجانس اليهود داخل القارة الأوربية. وفي داخل كلمدينة، كانت الجماعات اليهودية مستقلةً الواحدة عن الأخرى تماماً، ففي إيطاليامثلاً كانت هناك جماعة يهودية إيطالية وأخرى إسبانية سفاردية وثالثة ألمانيةإشكنازية، وكانت كل جماعة منفصلة عن الأخرى وتتصارع معها في بعض الأحيان. بل كانتالجماعة الواحدة تنقسم إلى عدَّة أقسام حسب المدينة التي ينتمي إليها أعضاؤهاأصلاً.

ومع هذا، كان هناك فريقان أساسيان هما: السفارد ممن يتحدثوناللادينو، والإشكناز المتحدثون باليديشية، وبخاصة بعد أن انضمت الجماعات الصغيرةالأخرى إلى أحد الفريقين وفقدت هويتها بينهم. وتركز يهود المارانو في شبه جزيرةأيبريا وثغور البحر الأبيض المتوسط، وداخل الدولة العثمانية، وداخل أوربا، وفيالعالم الجديد. أما اليهود الإشكناز فقد تركزوا في شرق أوربا وداخل بعض مدن وسطألمانيا.

وكان الهرم الطبقي لليهود في الغرب يتكون من خمس أو ست طبقات. وعلى قمة الهرم، كانت تقف نخبة صغيرة من كبار المموّلين ويهود البلاط ويهود الأرنداووكلاء الأمراء، وكان هؤلاء يُشكِّلون قيادة الجماعة اليهودية كما هو الحال مع يهودالبلاط في وسط أوربا، والمهاماد في غربها، والقهال في شرقها، تليها طبقة أكبر منكبار التجار والوكلاء التجاريين وأصحاب المعامل. أما الطبقة الثالثة، وهي أكبرهاحجماً، فهي جمهور الباعة الجائلين وبائعو الملابس القديمة وغيرهم من صغـار التجار. وكانت هناك طبـقة رابعة صغيرة من الحرفيين. وفي أسفل الهرم، كانت توجد قاعدة كبيرةمن الجائلين والمتسوّلين والمتعطِّلين.

وكما ذكرنا من قبل، كان بناء بعضالمجتمعات الغربية فيما قبل الثورة الفرنسية هرمياً جامداً، وكانت حقوق الفرد تزدادبارتفاع مستواه الطبقي والاجتماعي. ولذا، لم يكن للفلاحين والأقنان أية حقوقتُذكَر. وكذلك الوضع بالنسبة ليهود ألمانيا، إذ كان يهود البلاط في قمة المجتمعولهذا فقد كانوا يتمتعون بكل الحقوق تقريباً، أما يهود الجيتو فلم تكن لهم حقوقتذكر. وكان أعضاء الجماعة اليهودية في بروسيا يُقسَّمون حسب وضعهم في المجتمع ومدىنفعهم للدولة، وهو تقسيم تبنته فيما بعد معظم دول أوربا في القرن الثامن عشرالميلادي وتبنته روسيا في القرن التاسع عشر الميلادي.

وكانت قاعدة الهرمالطبقي اليهودي تمتد من القرى إلى المدن، وُيلاحَظ خلو هذا الهرم من الطبقة الوسطىالمرتبطة بالصناعة ومن التجار متوسطي الحال ومن العمال والفلاحين والنبلاء. وكانأعضاء الجماعة اليهودية، نظراً لعلاقتهم المباشرة مع الحاكم من خلال يهود البلاط أوكبار المموِّلين الذين لعبوا دور الوسطاء (شتدلان) بين الحاكم وأعضاء الجماعة، أحسنحالاً من بقية أعضاء المجتمع الخاضعين لأهواء النبلاء وموظفي بقايا النظام الإقطاعيالذي لم يكن له قانون موحَّد أو قواعد ثابتة. وبرغم تزايد اندماج أعضاء الجماعاتاليهودية في مجتمعاتهم، فقد ظلت الجماعات اليهودية محتفظة بشيء من تماسكها وبكثيرمن مؤسساتها، وهو ما جعلها منفصلة نوعاً ما عن المجتمع ومنعزلة عنه ومتمتعة بهويةشبه مستقلة.

وبعد تناقص دور اليهود كجماعة وظيفية وسيطة تتشكَّل من تجارصغار ومرابين، بدأت الحضارة الغربية تحوِّلهم مرة أخرى إلى جماعة وظيفية وسيطة أخرىتضطلع بالدور التجاري نفسه ولكن بما يُعبِّر عن التغيرات التي خاضها المجتمعالغربي. فبعد أن كان أعضاء الجماعة اليهودية هم الإسفنجة أو الأداة التي يمتص بهاالحاكم الإقطاعي فائض القيمة من داخل مجتمعه، تحولوا إلى أداة يستخدمها حاكم الدولةالمطلقة في النشاطات التي تقوم بها هذه الدولة داخل وخارج حدودها، إذ لم تعُد هناكضرورة لامتصاص فائض القيمة لأن مؤسسات الدولة كانت تقوم بذلك على وجه أفضل. ومعهذا، استمر بعض أعضاء الجماعة اليهودية في لعب دور الجماعة الوسيطة القديمة أيالتجارة البدائية والربا، وهؤلاء هم اليهود الذين كانوا يوجدون في قاعدة الهرم. والواقع أن معظم، إن لم يكن كل، أعضاء الجماعات اليهودية (في قمة الهرم وقاعدته) كانوا يضطلعون بأشكال مختلفة من الوساطة.