وقد كوَّنت الجماعات اليهوديةفي هذه المرحلة شبكة علاقات تجارية على مسـتويين: عالمي متقـدم، ومحلي بدائي. فكـانكبار المموِّلين اليهود، من يهود البلاط وغيرهم، يربطون بين الدول المختلفةويسدُّون احتياجات الأمراء للأموال وحاجات الجيوش إلى التموين. فكان يهود الأرندافي بولندا يزوّدون يهود البلاط في وسط أوربا بالأخشاب والمحاصيل الزراعية التي كانيحتاج إليها غرب أوربا ووسطها بسبب زيادة عدد السكان آنذاك. وكان بوسع يهودأمستردام تدبير المعادن النفيسة التي قد يحتاج إليها نبلاء شرق أوربا أو وسطها. كماكانت تساندهم القاعدة الكبيرة من كبار تجار الجملة، والسماسرة والوكلاء التجاريينالذين كان يساندهم آلاف الباعة الجائلين وصغار تجار العملة والحرفيون اليهود الذينكانوا يعملون في العادة بالقرب من الوسيط اليهودي فيقومون بتقطيع الماس والصياغةوالنسيج وخياطة الملابس وإصلاحها.
ولهذا السبب، كان بوسع كبار المموِّليناليهود، من يهود البلاط أو غيرهم، أن يدبِّروا أية كمية من الذهب يريدها الإمبراطورأو الأمير، ويعدوا له التموين اللازم للحملات العسكرية التي يجرِّدها، وذلك في أسرعوقت ممكن ورغم ظروف الحرب. كما كان بوسعهم، من خلال الشبكة نفسها، القيام بأعمالالتجسس لصالح هذا الفريق أو ذاك، وتوصيل المعلومات بسرعة غـير متوفرة لأيٍّ منالفريقين المتحاربين، وذلك من خلال حلقة الاتصال اليهودية، سواء مع يهود الأرندا فيبولندا أو يهود المارانو في الدولة العثمانية، أو المئات من صغار التجاروالمموِّلين اليهود في طول أوربا وعرضها.
وقد استفادت كل دول أورباالمتحاربة من هذا الهرم التجاري اليهودي الممتد، فاستفاد منهم الكاثوليكوالبروتستانت، والألمان والسويديون. ولذا، لم يمس أيٌّ من الأطراف المتحاربة أعضاءالجماعات اليهودية بأذى. ومن هنا، فإن الادعاء النازي بأن اليهود استفادوا من الحربله أساس من الصحة، ولكنه لا يصور الحقيقة بأكملها، ولا يُفسِّرها.
وترجعإلى هذه الفترة بداية ارتباط الجماعات اليهودية بالاستعمار الغربي الحديث، وبخاصةفي جانبه الاستيطاني، وكذلك تزايد اهتمام الغرب بالجماعات اليهودية باعتبارهاعنصراً استيطانياً مالياً يشجع التجارة. فعلى سبيل المثال، كان أغلبية المستوطنينالأوربيين في سورينام من اليهود، وثار العبيد عليهم هناك. وقد سيطر المموّلوناليهود على كثير من أشكال التجارة الإستراتيجية، واشتركوا في كثير من المشاريعالاستعمارية، فساهموا في شركة الهند الشرقية الهولندية وفي غيرها من الشركات. كمااشتركوا في تجارة العبيد بنشاط كبير. واستوطنت بعض الجماعات اليهودية في العالمالجديد، وهو ما وسع نطاق الشبكة التجارية اليهودية.
ويُلاحَظ أن أعضاءالجماعات اليهودية في شرق أوربا كانوا مرتبطين بالاقتصاد الإقطاعي التقليدي فيها،وبالنبلاء من خلال نظام الأرندا. أما في الغـرب والوسـط، فكانوا جزءاً من اقتصادالدولة المطلقة، وبخاصة في مجال التجارة والنشاط الكولونيالي، أي تلك النشاطاتالمرتبطة بأهداف الدولة القومية الجديدة. وكان القاسم المشترك بين هذه النشاطات أنأعضاء الجماعات اليهودية كانوا في أغـلب الأحـيان مرتبطين بأهداف الحاكم ومعادينلكثير من طبقات المجتمع. كما أنهم، رغم تراكم ثرواتهم، لم يصبحوا قط جزءاً منالاقتصاد الرأسمالي الجديد، فلم يستثمروا أموالهم في الصناعات الجديدة بل ظلوابمنأى عنها. وظل رأس المال اليهودي مرتبطاً بالدولة، فحين كان رأس المال اليهودييؤسس المصانع، كانت هذه المصانع تابعة للدولة. ولأنهم لم يؤسسوا مصانع مستقلة، فقدظلوا تحت حماية الدولة، لا علاقة لهم بالرأسماليين الآخرين ولا بالجماهير ولا بأيٍّمن الطبقات المهمة في المجتمع، ولذا فإنهم لم يساهموا في تطور الرأسمالية الرشيدة.
وكان أعضاء الجماعة اليهودية في الدولة المطلقة، وبخاصة في المراحل الأولىمن تاريخها، إحدى أدوات التوحيد وفرض المركزية، بل كانوا أداة على درجة كبيرة منالكفاءة والموضوعية والحياد نظراً لوجودهم خارج المجتمع الغربي.
ووضعالجماعات اليهودية في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة، وعلاقتهم الخاصة بالنخبةالحاكمة، يُفسِّر سرَّ تدهورهم بعد صعودهم. وتشكل الفترة من اندلاع حرب الثلاثينعاماً (1618 ـ 1648 حتى توقيع معاهدة أوترخت عام 1713، بعد حرب الخلافة الإسبانية،قمة ازدهار الجماعات اليهودية، والتي تلتها مرحلة التدهور، فقد كان الحاكم يصادرأموال اليهودي بعد موته وهو ما كان يعوق أي تراكم رأسمالي. وكان الملك يرفض أحياناًدفع ما عليه من ديون، فيدفع جزءاً منها وحسب، الأمر الذي كان يؤدي إلى القضاء علىثروة المموّل اليهودي. وكان هذا أمراً سهلاً على الحاكم، نظراً لعدم وجود قاعدةجماهيرية تساند اليهودي، ونظراً لاعتماده الكامل والمذل على الحاكم. وكانت علاقةالشك المتبادل بين الحاكم والمموِّل اليهودي، رغم حاجة الواحد منهما إلى الآخر،تؤدي بالمموِّل إلى تهريب جزء من رأسماله خارج حدود البلد الذي يعيش فيه، فقد كانالشك يجعل من المستحيل على أعضاء الجماعة اليهودية أن ينتموا انتماءً قومياًكاملاً.
وقد بدأ التدهور بين السفارد في أواخر القرن السابع عشر الميلادي،فلم يعد هناك وكلاء يهود لأي بلاط أوربي في مدينة هامبورج ذات الأهمية التجارية. وعلى سبيل المثال، حينما عُيِّن مندوب يهودي للبلاط الدنماركي في أمستردام، اضطرمجلس الشيوخ بضغط من الجماهير إلى رفض الاعتراف به. كما انتقلت وكالتا إسبانياوالبرتغال في أمستردام من أيدي أعضاء الجماعة اليهودية في أوائل القرن الثامن عشرالميلادي. ولحق هذا التدهور نفسه بأعضاء الجماعة اليهودية من السفارد البرتغاليينفي أمستردام، فتناقص استثمارهم في التجارة الدولية وفقدوا جزءاً كبيراً من رأسمالهمفي مضاربات البورصة.
وحدث الشيء نفسه بالنسبة إلى يهود ألمانيا، إذ دخلتالسياسة المركنتالية الألمانية في مرحلة جديدة بعد عام 1720، فبدأت تحمي الصناعاتوالبضائع المحلية ومنعت استيراد الصوف والمواد الخام الأخرى. وكان ازدهار الجماعةاليهودية في ألمانيا يستند إلى استيراد البضائع من هولندا وإنجلترا. ومن أهمالبضائع التي كانوا يستوردونها الأقمشة الهولندية وبضائع أخرى من التي طُبِّق عليهاالحظر. وقد أدَّى كل هذا إلى تدهور وضع الجماعات اليهودية. ورغم تحسن وضعهم لفترةوجيزة (عام 1740) بسبب حرب الخلافة النمساوية، إلا أنهم لم يعودوا إلى سابق عهدهم،بل تزايد عدد الفقراء بينهم، فقد تضاعف مثلاً عدد فقراء اليهود السفارد البرتغاليينفي أمستردام أربع مرات في فترة لا تتجاوز بضعة أعوام إذ زاد من 115 إلى 415، إلىنحو 40% من جملة أعضاء الجماعة السفاردية. وقد بدأ كبار المموِّلين اليهود بنقلرأسمالهم من التجارة اليهودية التقليدية إلى الصناعات الجديدة التي لم تكن صناعاتيهودية (إن صح التعبير)؛ إذ كانت الدولة المطلقة تضع القوانين التي تجعل من الصعبعلى صاحب رأس المال اليهودي أن يستأجر يهوداً وحسب.
أما فيما يتصل بيهودبولندا، فقد كانت هجمات شميلنكي أول ضربة تلقوها ثم تلتها الفوضى السياسية التيتسببت في اضمحلال الجماعة اقتصادياً. ووضعت معاهدة أوترخت حداً لحالة الحرب التيازدهرت بسببها الجماعات اليهودية، وساد السلام الذي ساهم في القضاء على الأساسالاجتماعي للتجارة اليهودية وفي القضاء على الحاجة إليها. وأثَّر هذا أيضاً علىيهود الأرندا إذ لم تَعُد أوربا في حاجة إلى المحاصيل الزراعية أو الأخشاب. أماالتجارة الكولونيالية، فقد بدأت تتسع وتحتاج إلى قاعدتين بشرية ورأسمالية واسعتينللغاية؛ وهو ما جعل رأس المال اليهودي الهزيل بدون أهمية كبيرة. وقد أدَّى تقسيمبولندا ثم اختفاؤها، كوحدة سياسية مستقلة، إلى تقسيم أهم وأكبر تجمُّع يهودي علىالإطلاق. ولذا، فمع النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، بدأ يتفاقم ضعفالحالة الاقتصادية ليهود أوربا: شرقها ووسطها وغربها. وبدأ أعضاء الجماعات اليهوديةيعانون من الهامشية وانعدام الإنتاجية، لا لكسل طبيعي فيهم وإنما بسبب التطوراتالاجتماعية والثقافية السريعة. وظهرت ظاهرة الشحاذ اليهودي (باليديشية: شنورير)،وهذه كلها جوانب مما يُسمَّى «المسألة اليهودية». ومما يجدر ذكره أن هذه المرحلةشهدت أيضاً تقلُّص نفوذ الجماعة اليهودية في الدولة العثمانية، وذلك نظراً لتزايُدالنفوذ الغربي الذي شجع الأقليات المسيحية على حساب الجماعات اليهودية. وأخذ نصيبيهود الدولة العثمانية من تجارتها الدولية يتناقص ابتداءً من القرن السابع عشرالميلادي، حتى اختفى تماماً مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.
المفضلات