وكانأعضاء الجماعة اليهودية مرتبطين بالنظام السياسي الإقطاعي والدولة الإقطاعية فيبولندا وفي غيرها من الجيوب نظراً لارتباطهم بالنخبة الحاكمة، ففي بداية الفترةالتي نتناولها كان أعضاء الجماعة يقفون على مقربة من الدولة المطلقة ويخدمونأهدافها ومآربها. ولذا، فقد كانوا عرضة لهجوم أعداء السلطة الحاكمة نتيجة التطورالتاريخي وتزايد نفوذ الدولة المطلقة ورغبتها في تصفية الجيوب الإثنية والدينيةالمختلفة كافة وكل الجماعات الوظيفية الوسيطة بما في ذلك تلك الجمـاعات التي خدمتهابعـض الأوقات. ومن هنا جاء دور الجيب اليهودي، فقررت الدولة المطلقة أن تحل مسألتهااليهودية على طريقتها المألوفة وهي ترشيد اليهود، بإخضاعهم للإجراءات نفسها التيطبقت على مواطني الدولة المطلقة. وإذا كان الهدف من هذه العملية أن تصل الدولة إلىالفرد مباشرة بحيث يمكنها توظيفه لصالحها تماماً، وإدارته من خلال مؤسساتها العامة،فإنها لذلك أخذت شكل تحرُّك على مستويين؛ مؤسسي وفردي. فعلى مستوى المؤسسات، أُلغيتكل المؤسسات اليهودية الوسيطة مثل القهال والمهاماد وغيرها. ولكن ثمة أسباباًداخلية خاصة باليهود ساهمت في عملية ضعف المؤسسات الوسيطة ومن بينها ازدياد عدمالتجانس المهني والوظيفي بين أعضاء الجماعات اليهودية وتدنِّي المستوى الحضاريوالثقافي لقيادتهم، الأمر الذي جعل هذه القيادات غير مؤهلة لتمثيل الجماعة اليهوديةأمام الحكام غير اليهود. أما على المستوى الفردي، فقد حدث ترشيد اليهود وتطبيعهم أيتحويلهم إلى إنسان عصر الاستنارة الطبيعي. وقد سُميَّت العملية «عملية إصلاحاليهود»، أي تخليصهم من هامشيتهم وطفيليتهم وانعدام إنتاجيتهم وتحويلهم إلى عناصرنافعة يمكن توظيفها مع ما يوظَّف من عناصر مادية وبشرية أخرى في خدمة الدولة، ويمكندمجها مع بقية المادة البشرية التي تكوِّن مواطني الدولة. ولم يكن هذا الأمرمقصوراً على أعضاء الجماعة اليهودية فقد أكد فكر حركة الاستنارة الحرية الشخصيةوضرورة الحكم على الفرد من منظور مدى نفعه للدولة، ولذا كانت عملية الإعتاقوالتحرير تتم بهدف زيادة نفع الإنسان وتحويله إلى مواطن منتج مستهلك (وقد وجدت فكرةتطبيع اليهود وتحويلهم إلى عناصر نافعة طريقها إلى الفكر الصهيوني).

وقدتدخلت الدولة المطلقة في أخص خصوصيات الفرد اليهودي: متى يتزوَّج؟ ومن يتزوَّج؟وأين يقيم؟ وماذا يرتدي؟ وكيف يحلق شعر رأسه؟ ومما يجدر ذكره أن الدولة المطلقة لمتكن تتدخل في شئون اليهـود وحسـب، بل كانت تتدخل في شئون كل الرعايا. ففي عام 1666،أصدرت الدولة الفرنسية قراراً يقضي بأن يُعفَى من الضرائب كل من يتزوج وهو دونالعشرين، وذلك حتى يبلغ سن الخامسة والعشرين. كما كان يُعفَى من الضرائب ربُّ كلأسرة يبلغ عدد أفرادها عشرة، بشرط ألا يكون أحدهم منخرطاً في سلك الرهبان! وصدرقرار عام 1669 بفرض غرامة على الآباء الذين لا يزوجون أولادهم قبل سن العشرين، أوبناتهم قبل سن السادسة عشرة!

كما تدخلت الدولة المطلقة في الأمور الدينية،فألغت المحاكم الحاخامية، وحرَّمت دراسة التلمود قبل سن السابعة عشرة، وهي إجراءاتكانت تهدف إلى تحديث أعضاء الجماعة اليهودية وعلمنتهم حتى يصبحوا جزءاً عضوياًنافعاً يساهم في الإنتاج القومي للدولة. وهي كذلك عملية لم تنطبق ـ كما أسلفنا ـعلى أعضاء الجماعة وحدهم وإنما على أعضاء المجتمع كافة. كما أن السلطات التي كانتتمارسها الدولة لم تختلف في أساسياتها عن السلطات التي كانت تمارسها الإدارةالذاتية اليهـودية. بل ربما كانت السـلطات الحكومية أكثر ليبراليةً وعقلانية،ولكنها مع هذا كانت أكثر قسوة بسبب ضخامة حجمها وبُعدها عن الفرد. ويظهر ذلك بشكلأكثر حدَّة في حالة أعضاء الجماعة اليهودية بسبب خصوصيتهم اليهودية، وبسبب أنعمليتي العلمنة والتحديث استخدمتا في البداية ديباجات مسيحية أخفت الجوهر العلمانيالتحديثي عن المسيحيين من مواطني الدولة المطلقة ومن ثم زادتها إيلاماً بالنسبة إلىاليهود.

وإذا كانت عملية الإصلاح ترتبط بأسماء حكام مطلقين مثل جوزيفالثاني ونابليون بونابارت وألكسندر الثاني، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشرالميلاديين، فإنها لم تختلف كثيراً عن السياسة التي طرحتها الثورة الفرنسية. فالفكرالكامن في الملكيات المطلقة والجمهوريات الثورية هو فكر عصر الاستنارة، والنموذجالكامن هو نموذج الإنسان الطبيعي. ومع هذا، كان وضع أعضاء الجماعة اليهودية وطريقةحلّ المسألة اليهودية يختلفان من بلد إلى آخر بحسب مستوى تطوُّر هذا البلد. فبالنسبة إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية التي كانت تضم النمسا والمجر وبوهيمياومورافيا، ثم جاليشيا التي كانت تضم كتلة يهودية كبيرة نوعاً ما، حاول الإمبراطورجوزيف الثاني أن يدمج اليهود في الإمبراطورية فأصدر عدة تشريعات في الفترة من 1781إلى 1789 كما أصدر عام 1782 براءة التسامح التي كانت تهدف إلى تحديث المجتمع ككلوإلى إلغاء انعزالية اليهود المتمثلة في مؤسسات الإدارة الذاتية. وحدَّدت التشريعاتحقوق النبلاء، كما استهدفت تحسين أحوال الفلاحين والحد من سلطان رجال الدينالكاثوليكي. وقد أُلغيت الشارة اليهودية التي كان على اليهود ارتداؤها خارج الجيتو. كما أُلغي كثير من القوانين التي كانت تحد من حركتهم، فأصبح من حقهم ممارسة أيةحرفة وأن يعملوا بالتجارة والصناعة أو في أية وظيفة مدنية أو عسـكرية، وأصبح منحقهم أن يشيِّدوا منازل خاصة بهم في أي مكان. ومُنحوا حق التمتع بشرف الخدمةالعسكرية عام 1787، كما حُظر عليهم استخدام اليديشية، وبخاصة التجار الذين كانعليهم أن يكتبوا حساباتهم بالألمانية. كما أصبح من المحظور على أعضاء الجماعاتاليهودية ارتداء أزياء خاصة بهم، بل وفرضت عليهم الأزياء الأوربية، ومُنع الآباء منتدريس التلمود لأبنائهم قبل اكتمال دراستهم، وفُرض عليهم اختيار أسماء جديدةألمانية. وقد حاولت حكومات الإمارات والدويلات الألمانية تطبيق سياسة ترمي إلى دمجاليهود، فأصدر فريدريك الأكبر ميثاقاً يضمن لهم حرية العبادة ولكنه يحدد في الوقتنفسه مكان سكناهم ونسبة المصرح لهم بالزواج.

وقد خاض اليهود في روسياوبولندا عملية تحديث مماثلة في مرحلة لاحقة، وإن كانت قد أخذت شكلاً خاصاً نظراًلخصوصية وضع اليهود فيها ونظراً لتعثر عملية التحديث. هذا على عكس الوضع في فرنساوإنجلترا وهولندا، وهي بلاد ذات بورجوازيات محلية قوية لم تخش منافسة التاجراليهودي ولم ترفض توطين اليهود، وبخاصة المارانو، بل أتاحت أمامهم فرصة الاشتغالبجميع الحرف. وكانت اللاأهلية الشـرعية (القانونية) المفروضة عليـهم محدودة وآخذةفي الاختفاء، كما لم تظهر في مثل هذه البلاد مسألة يهودية إذ أخذت فيها المسألةاليهودية شكلاً غير مستعص على الحل لأن الجماعة اليهودية لم تكن جسماً غريباً فيها،ولم تكن أيضاً متميِّزة اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، كما أن عدد أعضائها كانصغيراً. وكان لمعظم هذه البلاد مشروع استعماري قوي في فترة مبكرة، وأمكنها عن طريقهحلّ كثير من مشاكلها الاجتماعية.