وكما أسلفنا، كان الاقتصاد المركنتالييمثل تحدِّياً للمسيحية وقيمها، ومن ثم شكَّل تحدِّياً للاقتصاد التقليدي المسيحيالمبني على القيم المسيحية التقليدية. وكانت التجارة اليهودية عنصراً مهماً منعناصر التحدي التي ساهمت في تقويض دعائم الاقتصاد التقليدي. وتمثَّل هذا التحالفبين القوى المدافعة عن المركنتالية والتجارة اليهودية فيما يُسمَّى «فيلوسيمتزم)Philo-Semitism» حب السامية) أي التحيُّز لليهود وحبّ المعرفة التي ينقلونها. وقدشهدت هذه المرحلة بالفعل تزايُد الاهتمام بالدراسات العبرية، وهو اهتمام على مستوىمن المستويات يُعدُّ تحدِّياً للقيم المسيحية والتقليدية ويُعبِّر عن تراجعها فهومن ثم شكل من أشكال العلمنة. كما أنه مرتبط بظهور الشك الفلسفي في هذه المرحلة، أيأن حب السامية أو التحيز لليهود هو تعبير آخر عن تزايُد معدلات العلمنة في المجتمعالغربي. وقد تنبه بعض رجال الكنيسة إلى أن هذا الاهتمـام باليهودية والدراسـاتالعبرية يشـكل هجوماً مقنَّعاً على المسيحية.
ولعب المارانو دوراً أساسياًفي علمنة الجماعات اليهودية، فقد كانوا كتلة بشرية متحركة لا جذور لها في بقعةجغرافية. ومن ثم، ساهموا بشكل فعّال في عملية التحديث والعلمنة على المستويينالاقتصادي والثقافي باشتراكهم في التجارة الدولية وفي بناء الدولة المطلقة، وبنشرهملأول مرة كتباً وضعها يهود ولكن بإحدى اللغات الأوربية، وبإشاعتهم فكرهم الدينيالذي كان جوهره تفكيراً لادينياً رافضاً لليهودية الحاخامية دون قبول دين آخر. وكانت اليهودية الحاخامية في ذلك الوقت قد بدأت تدخل أزمتها العميقة التي أودت بهافي نهاية الأمر كعقيدة لأغلبية اليهود، إذ تحجرت تماماً داخل الجيتو وأصبحت خاليةمن المعنى منفصلة عن الواقع. وظهرت القبَّالاه لسد الفراغ النفسي والمعرفي، كما ظهرإسبينوزا من صفوف المارانو ووجه سهام نقده لليهودية وللفكر الديني بشكل عام، وتركاليهودية دون أن يؤمن بدين آخر. وبذلك، وضع إسبينوزا أساس اليهودية العلمانية بلوالعلمانية ككل. وظهر شبتاي تسفي في الفترة نفسها، فطرح تصوراته التي قوَّضت دعائماليهودية وتحدَّت القيادة الحاخامية الأرثوذكسية وأحرز شعبية غير عادية، بل وانضمإليه عدد كبير من الحاخامات. والواقع أن نجاح الشبتانية هو أكبر دليل على مدى عمقالتغير الذي حدث لليهود واليهودية. وقد تزايدت معدلات العلمنة بين اليهود وتزايدابتعادهم عن تراثهم الديني وغربتهم عنه بل واحتقارهم له، وهو احتقار كان يشعر بهحتى المتدينون منهم. ومما عجل بعملية العلمنة أن قيادات الجماعات اليهودية انتقلتمن يد الحاخامات إلى يد الأثرياء، من أمثال يهود البلاط الذين كانوا مُستوعَبين فيالحضارة الغربية العلمانية حيث استمدوا شرعيتهم من تقبُّل مجتمع الأغيار لهم، هذاالمجتمع الذي تشبهوا به وبطرقه، ولذا فقد كانوا هم النموذج الذي يُحتذى بين منيودُّون تحقيق النجاح.
وأدَّت عمليات التحديث والعلمنة التي قامت بهاالدولة المطلقة إلى ظهور نواة مستنيرة داخل الجماعات اليهودية يُقال لها «المسكليم» أي دعاة الاستنارة، وهي جماعات كانت منتمية بشكل شبه كامل للفكر الغربي غيراليهودي. كما ظهرت في صفوف اليهود جماعات مهنية وقطاعات اقتصادية مرتبطة بالاقتصادالغربي الرأسمالي الجديد. لكل هذا، انتشر فكر عصر الاستنارة بينهم، وكانت الجماعاتاليهودية عشية الثورة الفرنسية والانعتاق السياسي مهيأة لتقبُّل تحولات عنيفة. وتُعَدُّ معظم الفلسفات اليهودية الحديثة التي طُرحت في القرن التاسع عشر الميلادي،مثل الصهيونية وقومية الجماعات (الدياسبورا)، استجابات لهذه التحولات.
وقدأخذت الفكرة الصهيونية تتغلغل في الفكر الغربي، الديني والعلماني، حتى أصبحت الإطارالمرجعي الأساسي الذي يتم إدراك اليهود من خلاله، وأصبحت فلسطين مرتبطة في الذهنالغربي باليهود. ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، لم تختف الفكرة بل تمترشيدها، واستُبعدت منها العناصر الغيبية مثل الشعب الشاهد والعقيدة الاسترجاعية،واكتسبت شكلاً علمانياً وأصبحت جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي، فدعا توماسشيرلي إلى أن توطين اليهود في إنجلترا « لا لأنهم يهود وإنما لأنهم عنصر تجاري ».
وقد ساد الخطاب العلماني في نهاية الأمر وضمر الخطاب الديني وتحوَّل إليديباجات تستخدمها شخصيات هامشية. وشهدت هذه المرحلة بروز ظاهرة معاداة اليهودبالمعنى العرْقي الحديث. والواقع أن فكر عصر الاستنارة، بطرحه فكرة الإنسانالطبيعي، وجد أن الخصوصية اليهودية تشكل تحدِّياً لهذه الفكرة. ولكن الفكرالتنويري، بتأكيده على فكرة نفع الإنسان، وبانطلاقه من فكرة الإنسان الطبيعي العام،طلب من أعضاء الأقليات أن يُطبِّعوا أنفسهم ويرشِّدوها وأن يتَّبعوا القانون العام. ومن ثم طُلب منهم أن يتخلوا عن خصوصيتهم وعن كل ما يميِّزهم كأقلية إثنية أو دينيةفي الحياة العامة، ثم انسحب ذلك على الحياة الخاصة أيضاً حتى أصبح الجميع مواطنيننافعين، أي أن ما بدأ كمحاولة لإعتاق الأقليات انتهـى بعملية دمجها وتذويبها، وهوالنمــوذج الكـامن في عصـر الاسـتنارة: تحرير الإنسان من المطلقات ثم تفكيكهوتذويبه.
ويجب التنبه إلى أن عداء مفكري الاستنارة للخصوصية لم يكن مقصوراًعلى الخصوصية اليهودية بل كان هذا العداء عاماً لسائر الخصوصيات. كما كان بعض أعداءالخصوصيات المحلية يجدون أن خصوصية البريتون والفلامنج والأوكستينيان تسبب لهمقدراً من الضيق أكبر مما تسببه الخصوصية اليهودية. وكان مفكرو عصر الاستنارةيهاجمون المسيحية تحت ستار الهجوم على اليهودية (التي كانوا يسمونها «المسيحيةالبدائية»). ومن هذين العنصرين، ظهر الهجوم الشرس على اليهود في فكر الاستنارة. ولقد شكلت فكرة الشعب العضوي المنبوذ التي سادت في الفكر الغربي، وهي علمنة لبعضالمفاهيم الدينية، الإطار المشترك للفكر الصهيوني والمعادي لليهود.
ومعالعقود الأخيرة من القرن الثامن عشر الميلادي (1770)، بلغ عدد يهود العالم مليونينومائتين وخمسين ألفاً، كان يوجد منهم في أوربا مليون وسبعمائة وخمسون ألفاً، أيالأغلبية العظمى، وكانت أغلبيتهم من يهود اليديشية في روسيا وبولندا وجاليشيا.
المفضلات