1
ـالإيمان بإله مفارق:

آمن العبرانيون، أو جماعة يسرائيل (حسب رأي برجر) بإلهمفارق للدنيا (المرجعية المتجاوزة)، وهو ما يعني وجود ثغرة ومسافة بين الخالقوالطبيعة وبين الخالق والمخلوقات، ومن ثم فإن القداسة تم نزعها إلى حدٍّ ما منالعالم. فإله العهد القديم لا يحل في الدنيا أو في أرض الوطن التي ينتمي إليهاالعابد، كآلهة العالم الوثني، وإنما يقف خارج الكون ويواجهه، فهو ليس بإله قوميمرتبط بشكل حتمي ونهائي بجماعة يسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل، وإنما يرتبطبهذه الجماعة بعقد محدَّد واضح.

2
ـ رؤية التاريخ باعتباره منفصلاً عنالطبيعة إذ يتجلَّى فيه الإله:

يصف برجر العقد بين الإله وجماعة يسرائيلبأنه تاريخي، أي يتحقق في التاريخ الإنساني لا في آخر الأيام. ومعنى ذلك أناليهودية ديانة تاريخية على عكس الديانات الوثنية الحلولية (الكمونية) حيث يحلُّالإله في الطبيعة، ومن ثم فهي عبادات طبيعية. والعهد القديم لا يحوي أساطير كونيةتخلع القداسة على كل شيء في الطبيعة وإنما يحوي تاريخ أفعال الإله وبعض الأفرادالمتميِّزين من ملوك وأنبياء. والأعياد اليهودية، في تصوُّره، لا تحتفل بقوى كونية،فهي ليست أعياداً طبيعية تحتفل بتغير الفصول، وإنما هي أعياد تحتفل بأحداث تاريخيةمحددة. وكل هذا يعني أن القداسة تم انتزاعها من الطبيعة، بل ومن بعض أحداث التاريخ،ولا تتجلى القداسة إلا في جوانب محدَّدة من تاريخ جماعة يسرائيل على وجه الخصوصوتاريخ العالم بأسره على وجه العموم، أي أن بعض جوانب التاريخ، لا الطبيعة بأسرها،أصبحت هي موضع الكمون والحلول الإلهي.

3
ـ ترشيد الأخلاق:

ثمةانفصال، إذن، بين الإله والتاريخ من جهة والطبيعة من جهة أخرى. ولا تنتمي الشرائعوالأخلاق التي يهتدي الإنسان بهديها لعالم الطبيعة الكوني، فهي أوامر من الخالق يتمتنفيذها في المجتمع داخل الزمان. ولكل هذا، يرى برجر، مثله مثل فيبر، أن الرؤيةاليهودية تذهب إلى أن حياة الفرد والأمة يجب أن تسخَّر في خدمة الإله بشكل منهجيومنظم حسب القواعد التي أرسل بها، وبذلك يكون قد تم ترشيد الأخلاق الإنسانية بفصلالإنسان والأخلاق عن عالم الطبيعة، ومن ثم تم استبعاد التعاويذ والصيغ السحريةكوسائل للخلاص.

والمتتالية الكامنة في كتابات فيبر وبرجر، والتي تربط بينالتوحيد والعلمنة من خلال عملية الترشيد، هي كما يلي: ثورة توحيدية على الواحديةالكمونية الكونية ـ الإيمان بالإله الواحد المتجاوز للطبيعة والتاريخ (المرجعيةالمتجاوزة) ـ الإيمان بمقدرة الإنسان على تجاوز واقعه وذاته ـ انعدام التوازن بينالذات والطبيعة ـ ترشيد (أي إعادة صياغة) عملية الخلاص وحياة المؤمن، وأخيراًالعالم بأسره، في ضوء الإيمان بالإله الواحد (المبدأ الواحد) لاسترجاع شيء منالتوازن ـ عدم التعامل مع الواقع بشكل ارتجالي وإنما بشكل منهجي بهدف التحكم فيهلخدمة الإله أو المبدأ الواحد (ترشيد تقليدي متوجه نحو القيمة) ـ اختفاء القيمةوالمقدرة على التجاوز وظهور الترشيد المتحرر من القيم والمتوجه نحو أي هدف يحددهالمرء (الترشيد الإجرائي) ـ وهذا النوع من الترشيد يتم دائماً في واقع الأمر فيإطار الطبيعة/المادة والإنسان الطبيعي/المادي (المرجعية الكامنة) - العلمنةالكاملة.

والمتتالية في رأينا ليست دقيقة وليست حتمية، فعملية الترشيد التيتتم داخل إطار توحيدي وداخل إطار المرجعية المتجاوزة تظل محكومة بالإيمان بالإلهالواحد المتجاوز لعالم الطبيعة والتاريخ، ولذا نجد أن التوحيد يصر على الرؤيةالثنائية ويبرز الفروق بين النسبي والمطلق وبين الإنسان الطبيعي والإنسان الرباني (الجسد والروح ـ الدنيا والآخرة ـ الأرض والسماء) ولا يسقط في أية واحدية روحية أومادية. وإذا كان الترشيد هو رد كل شيء إلى مبدأ واحد، فإن هذا يعني ببساطة أنالمبدأ العام الذي سيُردُّ إليه الكون في الإطار التوحيدي هو الإله المتجاوزللطبيعة/المادة، وهو مبدأ يؤكد وجود مسافة بين الخالق والمخلوق ينطوي على الثنائيةالفضفاضة وعلى التركيب. وهو مبدأ يمنح الواقع قدراً عالياً من الوحدة ولكنها وحدةليست واحدية مصمتة، ولذا فهي لا تَجبُّ التنوع والتدافع. وعلى هذا، فإن عمليةالترشيد في الإطار التوحيدي لن تسقط في واحدية اختزالية لأن التجريد مهما بلغمقداره لا يستطيع أن يصل إلى الواحد العلي المتجاوز (فهو بطبيعته متجاوزللطبيعة/المادة)، ولذا لا يمكن الوصول إلى قمة الهرم والالتصاق بالإله والتوحُّدمعه والتربع معه على قمة الهرم، ومن ثم يستحيل التجسد ويستحيل أن يفقد العالمهرميته ويستحيل أن تُختزَل المسافة بين الخالق والمخلوق، وأن يحل الكمون محلالتجاوز. ولهذا يظل التواصل بين الخالق والمخلوق من خلال رسالة يرسلها الإله تتضمنمنظومة معرفية وأخلاقية مطلقة متجاوزة للطبيعة/المادة. ومن ثم، يظل الترشيد ترشيداًتقليدياً يدور داخل إطار المطلقات التي أرسلها الإله المتجاوز، ويظل الواقع مركباًيحتوي على الغيب ويسري فيه قدر من القداسة، ويظل الإنسان مُستخلَفاً يعيش في ثنائيةالروح والجسد لا في الواحدية المادية، وهي ثنائية تشير إلى الثنائية التوحيديةالنهائية: ثنائية الخالق والمخلوق.

أما الحلولية الكمونية فأمرها مختلفتماماً، وهي التي تخلق في تصوُّرنا قابلية للعلمنة، فالحلولية لها شكلان: وحدةالوجود الروحية، ووحدة الوجود المادية. ووحدة الوجود، سواء في صيغتها الروحية أو فيصورتها المادية، رؤية واحدية تَرُدُّ الواقع بأسره إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعةللمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، وهو يُسمَّى «الإله» فيمنظومة وحدة الوجود الروحية ويُسمَّى «قوانين الحركة» في وحدة الوجود المادية،وحينما يُردُّ العالم إلى هذا المبدأ الكامن تسقط كل الثنائيات ويتحوَّل العالم إلىكل مصمت لا يعرف أية فجوات أو أي انقطاع، ويصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ منه، غيرقادر على تجاوزه.

والمتتـالية التي نقترحها لتفسـير علاقة الحلوليةبالعلمانية هي ما يلي: واحدية كونية ترد العالم بأسره إلى مبدأ واحد كامن فيه ـترادُف الإله والطبيعة والإنسان وإنكار التجاوز - عالم يحكمه قانون واحد وحالةاتزان بل وامتزاج والتحام بين الإنسان الطبيعي/المادي والطبيعة/المادة ـ سيادةالقانون الطبيعي (المادي) وترشيد (إعادة صياغة) البشر والمجتمع حسب مواصفات هذاالقانون - العلمنة الشاملة. وعملية الترشيد والتجريد في إطار حلولي كموني تؤدي إلىالواحدية الكونية المادية التي تسقط كل الثنائيات وتؤدي إلى هيمنة المبدأالطبيعي/المادي الواحد. وتستمر عملية التجريد لا تحدها حدود أو قيود. بل إن الإطارالحلولي الواحدي يساعد على سرعة اتجاهها إلى نقطة الواحدية المادية حيث يصبح المبدأالواحد كامناً تماماً في العالم الطبيعي وتختفي الثنائيات وتسقط المسافات ويُختزَلالعالم إلى مستوى طبيعي واحد أملس لا يمكن تجاوزه، مكتف بذاته، يحوي داخله كل مايلزم لفهمه ويتحرك حسب قانون صارم مطرد كامن في داخله.

إن المتتالية التينقترحها هي عكس المتتالية التي يقترحها فيبر وبرجر فليـس التوحـيد هو الذي يؤدي إلىالعلمانية وإنما الحلولية الكمونية. ولعل الضعف الأساسي في متتالية فيبر وبرجر هوأنها لا تفسر لم وكيف تم الانتقال من الترشيد التقليدي في إطار المرجعية المتجاوزةوالمتوجهة نحو القيمة إلى الترشيد الإجرائي في إطار المرجعية الكامنةوالطبيعة/المادة، فهما يقفزان من خطوة إلى التي تليها دون أن يبينا الأسباب.

وقد تمت عملية القفز هذه لأن كلاًّ من فيبر وبرجر، ومنظّري علم الاجتماعالغربي ككل، لم يستطيعوا التمييز بين الواحدية المادية الحلولية الكمونية التي تسقطالثنائيات والمطلقات والمركز من جهة، والتوحيد (بما يحوي من تجاوز وثنائية) من جهةأخرى. ولعل هذا يعود، في حالة فيبر وبرجر إلى أن خلفيتهما الدينية الغربية جعلتنموذجهما التحليلي غير قادر على رصد هذا الفرق الدقيق والجوهري. فقد سيطرت رؤيةحلولية كمونية على الفكر الديني المسيحي الغربي. وهذه الرؤية ذات أصل بروتستانتيوجذور غنوصية، ولكنها هيمنت على الوجدان الديني المسيحي الغربي. وقد أدت هذه الرؤيةإلى تأرجح حاد بين رؤية للإله الواحد باعتباره مفارقاً تماماً للعالم (إلى حدالتعطيل) يتركه وشأنه مثل إله إسبينوزا، فيصبح العالم كتلة موضوعية صماء بلا معنىولا هدف (التمركز حول الموضوع)، أو هو إله حالٌّ تماماً لا ينفصل عن الذاتالإنسانية (التمركز حول الذات). وفي كلتا الحالتين لا توجد علاقة بين الإله وبينالعالم، فهو إما مفارق تماماً له أو حالّ كامن فيه تماماً، أي أنها إثنينية أوثنائية صلبة وليست ثنائية تكاملية. وإن كان يمكن القول بأن الأمر الأكثر شيوعاًالآن في الغرب هو فكرة الإله الحال والكامن في الطبيعة والإنسان. وهو أمر متوقعتماماً، فالمسيحية الغربية تعيش في تربة علمانية كمونية. ولذا، اختفى الإله المفارقحتى حد التعطيل في القانون الطبيعي، ولم يبق منه سوى ذرات وترسبات كامنة في نفوسوقلوب بعض من لا يمكنهم قبول وحشية النظام العلماني الواحدي المادي. وفيبر وبرجريتحركان داخل هذا الإطار الحلولي الكموني، ولذا لم يتمكن أيٌّ منهما من أن يرصدتَصاعُد معدلات الحلولية والكمونية في اليهودية والمسيحية (منذ عصر النهضة). ولهذا،نجد أن كلاً منهما - في دراسته لليهودية - قد أهمل المكون الحلولي القوي في العقيدةاليهودية الذي يتبدَّى بشكل واضح في صفحات العهد القديم، وبخاصة في أسفار موسىالخمسة. وقد ركزا في تحليلهما على كتب الأنبياء، التي تحتوي على عنصر توحيدي قويولكنها تشكل الاستثناء لا القاعدة في العهد القديم. ويبدو أن معرفة كل منهمابالتلمود ليست معرفة مباشرة وإنما من أقوال ومراجعات الآخرين، ولذا لم يلحظ أيٌّمنهما النزعة الحلولية القوية داخل التلمود، ولم يلحظا الفروق الجوهرية بين الرؤيةالتوحيدية كما ترد في كتب الأنبياء والرؤية الحلولية الكمونية في التلمود. وأخيراً،لا توجد أية إشارة للقبَّالاه في كتاباتهما باستثناء إشارات عابرة تدل على أنأصحابها لا يعرفون التراث القبَّالي بما فيه الكفاية، وربما يعرفون القبَّالاهككلمة وحسب.