وكان أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة يقيمون فيالجيتو ليتم عزلهم عن أعضاء المجتمع وتزيد كفاءة المجتمع في استغلالهم وفي تحقيقالفائدة المرجوة من وجودهم فيه. وقد طُبِّقت على الجيتو، من البداية، الأنساقالمادية الآلية الترشيدية في الإدراك وتنظيم العلاقة، فكان مجتمع الأغلبية ينظر إلىالجيتو من منظور نفعي، ويدخل معه في علاقة تعاقدية باردة برّانية يحكمها القانونوالحسابات والمنفعة لا العواطف أو الأخلاق أو الالتزام الداخلي (الجواني) أو التآلفوالتراحم. ولم يكن مجتمع الأغلبية يتواصل مع أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة ولاينسب إليهم أي معنى إنساني خاص. فاليهود في الجيتو هم مصدر ربح وخدمات وحسب، أيمجرد وسيلة. والعلاقة بين المجتمع والجيتو علاقة تواجُد نفعي في المكان، دون زواجأو حب، ودون مشاركة في الزمان. فالجيتو، مثل الإنسان العلماني النموذجي، كانمنعزلاً موضوعياً محايداً مجرداً مباحاً ولا يتمتع بأية قداسة، فهو مادة استعماليةمحضة. ومن هنا، كانت البغايا في كثير من الأحيان يقطنَّ إما داخل الجيتو أو بجواره. وبهذا، كان الجيتو أول جيب علماني حقيقي. وقد أدَّى كل هذا إلى أن أصبح أعضاءالجماعات اليهودية من أهم القطاعات البشرية في أوربا التي كانت لديها قابليةللعلمنة ومؤهلة للتحرك داخل المجتمع التعاقدي التناحري، إذ أنهم كانوا مسلحينبالكفاءات اللازمة للتعامل مع عالم تسود فيه العلاقات الموضوعية وبشر لا يقبلون إلاالمنفعة قيمة وحيدة مطلقة.

وبالفعل، لعب اليهود، كجماعة وظيفية وسيطة، دوراًفي علمنة المجتمع، فوسعوا نطاق القطاع الاقتصادي التبادلي، وكانوا عنصراً شديدالحركية في المجتمع الوسيط الذي يتسم بالسكون. وكانوا دائمي البحث عن زبائن جددوسلع جديدة وأسواق جديدة، وكان لا يهمهم الإخلال بتوازن المجتمع أو بقيمه، فهميقفون خارج نطاق العقيدة المسيحية وقيمها، لا يكنون لها أي احترام ولا يشعرون نحوهابأي ولاء، وينظرون إلى أعضاء المجتمع المضيف باعتبارهم شيئاً مباحاً. ولم يكنالتاجر اليهودي، على سبيل المثال، يلتزم بفكرة الثمن العادل أو الأجر الكافي، وإنماكان يحمل رؤية صراعية تنافسية تناحرية غير تراحمية. وهكذا لعب اليهود دوراً فعالاًوحاسماً في تقويض الأخلاقيات الدينية، وفي دفع عملية الترشيد والعلمنة إلى الأمام.

وفي القرن السابع عشر، تزايد دور اليهود في عملية العلمنة مع ظهور الدولةالمطلقة التي اعتمدت عليهم في عملية علمنة القطاع الاقتصادي والسياسي في المجتمع. وما فعله الأمراء المطلقون في وسط أوربا (في ألمانيا) يصلح مثلاً على ذلك، فقداستخدموا أعضاء الجماعة اليهودية ككل، وكبار المموَّلين اليهود (يهود البلاط علىوجه التحديد) في النشاطات الاقتصادية، مثل: التجارة الدولية، وتمويل الجيوش، وعقدالقروض والصفقات. وقد كان لانتشار يهود المارانو في أرجاء أوربا دور مهـم في عمليةالعلمـنة إذ كانوا هامشـيين لا يؤمنون باليهودية أو المسيحية، فإيمانهم بكلتيهماكان سطحياً للغاية. وقد لعب المارانو دوراً مهماً في التجربة الاستيطانية الغربيةكمموَّلين للشركات الاستيطانية وكمادة استيطانية. ونحن نرى أن الاستعمار الاستيطانيمن أهم التجارب المؤثرة في إنشاء مجتمعات علمانية رشيدة خاضعة للنماذج الماديةالهندسية في الإدارة.
ويمكننا أن نرى في إسبينوزا تعبيراً عن العناصرالسابقة كلها، فهو من يهود المارانو، وفلسفته واحدية حلولية كمونية، كما أنه ينتميإلى الجماعة اليهودية في أمستردام التي كانت تضم أنشط الجماعات اليهودية الوظيفيةالوسيطة في العالم آنذاك والتي لعبت دوراً مهماً في الاستعمار الاستيطاني، وكانبينهم كثير من يهود البلاط. وكانت أمستردام نفسها مركزاً تجارياً تخلخلت فيه قبضةالسلطة الدينية. وقد تمرَّد إسبينوزا على اليهودية الحاخامية، فطُرد من حظيرة الديناليهودي، ولكنه لم يتبن أي دين آخر، ولذا فإن البعض يرون أنه أول إنسان علمانيحقيقي في التاريخ.

ومع هذا، ولأسباب عديدة ربما من أهمها انعزال يهوداليديشية (في شرق أوربا) الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم آنذاك داخل الجيتووالشتتل، انفصل أعضاء الجماعات اليهودية عن التحولات الفكرية والبنيوية الضخمة فيأوربا. وكان أغلبيتهم من المؤمنين بدينهم، يتبعون حاخاماتهم، أو قياداتهم الدينيةغير الحاخامية في حالة الحسيديين، ويتمسكون بتقاليدهم الدينية والاجتماعية. وقدهاجرت أعداد كبيرة من هؤلاء إلى النمسا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وقاوموا محاولاتالعلمنة والتحديث بضراوة. ولكن الدول الغربية قامت بعملية علمنة اليهود، وغيرهم منالجماعات الإثنية والدينية، بشراسة غير عادية ابتداءً من أوائل القرن التاسع عشر. وتمت أهم المحاولات بصورة أكثر منهجية في فرنسا على يد نابليون، ثم تبعتها ألمانياوالنمسا وروسيا القيصرية في منتصف القرن. وتكفلت الولايات المتحدة (المجتمعالعلماني شبه النموذجي) بالإجهاز على ما تبقَّى من انتماء ديني بين المهاجرين منيهود اليديشية وغيرهم. ويرى مؤرخو الجماعات اليهودية أن تأخُر بعض الجماعاتاليهودية في دخول العصر الحديث العلماني هو جوهر ما يُسمَّى «المسألة اليهودية»، إذظلوا يشكلون جيباً دينياً تقليدياً في مجتمع علماني حديث.

وبعد هذاالتاريخ، تزايد دور أعضاء الجماعات اليهودية كحَمَلة للفكر العلماني وكأدواتللعلمنة. ويُلاحَظ أنه بعد أن فرضت الدولة المطلقة العلمنة قسراً على أعضاءالجماعات اليهودية، استبطنوا هم أنفسهم الرؤية العلمانية وحققوا درجة عالية منالاندماج وأصبحوا أهم رواد العلمانية ومن أكثر الداعين لها حماسة وتطرفاً، وذلكللأسباب التالية:

1
ـ تمت علمنة أعضاء الجماعات اليهودية بسرعة وفجاجة غيرعادية (على عكس أعضاء الأغلبية في المجتمع) قذفت بهم بعنف في عالم العلمانية، الأمرالذي جعلهم يتجاوزون بقية أعضاء المجتمع في معدلات العلمنة، إذ تمت العملية بالنسبةلهؤلاء ببطء وبشكل أقل عنفاً. وقد نوقشت المسألة اليهودية في إطار مدى نفع اليهود (المادي) ولذا سارع أعضاء الجماعات اليهودية الراغبون في الاندماج إلى ترشيد حياتهموذواتهم من الداخل والخارج حتى يبينوا نفعهم لأعضاء الأغلبية ومقدرتهم علىالانتماء.

2
ـ يُلاحَظ أن العلمانية الغربية ورثت بعض الرموز المسيحيةوعلمنتها، فإصطلاحات مثل «النهضة» أو«الاستنارة» ذات جذور مسيحية (قيام المسيحوهالات القديسين ونور الإله)، ويمكن منثم أن تكتسب مضموناً مسيحياً أو شبه مسيحي. كما أن الصورة المجازية العضوية وهي صورة مجازية أساسية في الفكر العلماني (الذييرى أن ثمة قانوناً واحداً في الكون) ليست بعيدة عن فكرة التجسد المسيحي (نزولالإله ليصبح بشراً) وعن فكرة أن الكنيسة هي جسد المسيح. وتداخُل الرموز الدينية معالرموز العلمانية يقلل من حدة علمانيتها قليلاً ويخلق قدراً من الاستمرارية، علىالمستوى الوجداني وعلى مستوى الديباجات أما بالنسبة إلى عضو الجماعة اليهودية، فإنالمصطلحات العلمانية تشير إلى مفاهيم علمانية محضة لا تحتوي على أية قداسة أو أصداءللقداسة.

3
ـ كانت أعداد كبيرة من اليهود أعضاء في الطبقة البورجوازيةالصغيرة في الغرب، وهي طبقة ساهمت بدور أساسي في الحرب ضد الإقطاع والكنيسة. كما أنأعضاء البورجوازية يلتزمون بشكل شبه مطلق بالحراك الاجتماعي (الآلية الأساسيةللبقاء بالنسبة لهم). ولذا، فهم على أتم استعداد للتخلي عن قيمهم أو خصوصيتهملتحقيق هذا الحراك.

4
ـ كانت أعداد كبيرة من يهود العالم في حالة هجرة منبلد لآخر. والمهاجر، بسبب حركيته وعدم انتمائه، يكون عادةً من حملة الفكر العلماني.

5
ـ يُلاحَظ أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية، سواء في روسيا داخلمناطق الاستيطان (مع هبوط بعض أعضاء البورجوازية الصغيرة اليهودية في السلمالطبقي)، أو في الولايات المتحدة (بعد وصولهم كمهاجرين)، انخرطوا في صفوف الطبقةالعاملة المقتلعة من جذورها والتي تشكل العمود الفقري للعلمنة.

6
ـ تركُّزمعظم أعضاء الجماعات اليهودية في المدن التي تُعَدُّ دائماً مراكزاً للعلمنة.

7
ـ هناك، أخيراً، السبب العام وهو أن كثيراً من أعضاء الأقليات يتبنونالفكر العلماني لأنهم يتصورون أنه سيخلق الجو الملائم لتحقيق المساواة الكاملة بينأعضاء الأقلية وأعضاء الأغلبية، سواء في عالم الاقتصاد أو في عالم الرموز (وقدأثبتت التطورات التاريخية اللاحقة أنه أمر لم يكن دقيقاًتماماً).