المســألة اليهوديـــة
The Jewish Question
«المسألة اليهودية» مصطلح يتواتر في الكتابات الصهيونية وفي غيرها بصيغة المفرد، وهو مصطلح يفترض أنثمة مشاكل محدَّدة ثابتة لا تختلف تقريباً باختلاف الزمان والمكان، يواجهها اليهودوحدهم ولا يواجهها غيرهم من أعضاء الجماعات أو الأقليات الدينية أو الإثنية. ولذاتتم الإشارة إليها بعبارة «المسألة اليهودية» (الواحدة) لا «المسائل اليهودية» المتنوعة بتنوع تجارب أعضاء الجماعات اليهودية عبر الزمان والمكان. وحلَّ هذهالمسألة يكون عن طريق التخلص من اليهود، إما عن طريق تهجـيرهم إلى وطنهم القومياليهودي، وهـذا هو (الحل الصهيوني)، أو عن طريق طردهم (الحل المعادي لليهود)، أوإبادتهم (الحل النازي).
ويمكن تصنيف المصطلح، بشكله هذا، ضمن مصطلحات شبيهةأخرى، مثل «الشخصية اليهودية» التي تفترض وجود شخصية يهودية ثابتة مستقلة عما حولهامن ظروف. و«التاريخ اليهودي»، الذي يفترض وجود تاريخ مستقل له سماته المحددة،ووحدته الواضحة، وفتراته المتتالية التي تعرَّف بالعودة إلى جوهر يهودي أو وجودمستقل، هو أمر يتناقض مع الواقع التاريخي الحي المركب. فالمشاكل التي واجهها يهودالإمبراطورية الرومانية هي جزء من تاريخ هذه الإمبراطورية، والمشاكل التي واجههايهود المدينة أيام الرسول (عليه الصلاة والسلام) ناجمة عن وجودهم داخل التشكيلالحضاري الإسلامي في الجزيرة العربية، كما أن المشاكل التي واجهها يهود روسيا فيالقرن التاسع عشر الميلادي كانت نابعة من وجودهم داخل التشكيل السياسي الروسي فيعهد القيصرية، تماماً كما أن المشاكل التي واجهوها بعد عام 1917 هي جزء من تاريخروسيا السوفيتية. أما من هاجر من يهود اليديشية إلى الولايات المتحدة، فقد أصبحتاريخه وكذلك مشاكله جزءاً من تاريخها. ومع أن هذا لا ينفي وجود مشاكل خاصة نابعةمن خصوصية وَضْع أعضاء الجماعة اليهودية داخل هذه التشكيلات، فإنه لا يوجد عنصرمشترك واحد يجمع بين هذه المشاكل الخاصة، إذ أن هذه الخصوصية نفسها مستمدة من طبيعةعلاقة الجماعة اليهودية بالمجتمع الذي تعيش في كنفه (وتتشكَّل في إطاره) وليس لهاعلاقة بخصوصية يهودية تشمل كل اليهود. وقد غيَّر حدث ضخم، مثل الثورة البلشفية،نوعية المشـاكل التي كان يواجـهها أعـضاء الجـماعة اليهودية. فبعد أن كان يُفرَضعليهم الانعزال داخل منطقة الاستيطان، أصبح يتهددهم الاندماج، وبعد أن كانوا بعيدينتماماً عن مؤسسات صُنْع القرار، أصبحوا قريبين منها، لدرجة أن أعداء اليهودوالبلاشفة كانوا يسمون الثورة البلشفية «الثورة اليهودية». بل كانت هناك داخلالتشكيل السياسي الروسي القيصري ثم البلشفي عدة تشكيلات يهودية مختلفة لكلٍّمشاكلها الخاصة، فيهود جورجيا واجهوا مشاكل تختلف نوعياً عن مشاكل يهود اليديشية. أما اليهود القرَّاءون، فلم يواجهوا مشاكل حقيقية نظراً لأن الحكومة القيصريةاعتبرتهم جماعة منتجة، وبالتالي فإنها لم تُطبِّق عليهم أياً من القرارات التيطبقتها على يهود اليديشية. كما أن تواتر المسائل اليهودية داخل المجتمعات البشريةلا يعني بالضرورة أن هذه المسائل متشابهة أو أن الواحدة لها علاقة بالأخرى. فقدتتشابك المسائل كما حدث حينما هاجر يهود اليديشية بأعداد كبيرة إلى ألمانيا وقوضواوضع يهود ألمانيا ومكانتهم. ولكن، مع هذا، تظل كل مشكلة أو مسألة يهودية مستقلة ولايمكن فهمها إلا بالعودة إلى سياقها التاريخي والحضاري والاجتماعي.
لكل هذا،يكون مصطلح «المسألة اليهودية» الذي يَفترض أن هناك مسألة يهودية واحدة، عالميةوعامة، مصطلحاً منافياً تماماً للحقائق المتعيِّنة للتاريخ، ومن ثم فإن قيمتهالتصنيفية والتفسيرية ضعيفة إلى أقصى حد. ومن الأفضل استخدام صيغة الجمع والتحدث عن «مسائل يهودية». وحين يُستخدَم المصطلح في صيغة المفرد، فإنه يشير، في واقع الأمر،إلى المشاكل التي واجهها أعضاء الجماعات اليهودية (في القرن التاسع عشر) في أوربا،وبخاصة في شرقها، وبذلك تُستبعَد الجماعات اليهودية الأخرى كافة. وهذا التحديدالزماني المكاني يعطي المصطلح مضموناً حقيقياً ودلالة ومقدرة تفسيرية وتصنيفيةعالية.
ويجب التمييز بين المسألة اليهودية في العصر الحديث من جهة، وبينالمذابح التي كانت تُدبَّر ضد أعضاء الجماعة اليهودية في الماضي من جهة أخرى. ورغمأن كلاًّ من الظاهرتين ينبع من أساس واحد وهو كون اليهود جماعة وظيفية وسيطة، فإنأوجه الاختلاف بين الظاهرتين أساسية وجوهرية، فالمذابح التي دُبِّرت ضد أعضاءالجماعة اليهودية حتى بداية القرن السابع عشر تقريباً كانت، في كثير من الأحيان، منقبيل الثورة الشعبية ضد جماعة وظيفية إثنية تُشكِّل أجزاء من الطبقة الحاكمةوتُعَدُّ أداتها. أما المسألة اليهودية الحديثة، فهي مرتبطة بظهور الرأسمالياتالمحلية وتآكل دور الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية "نافعة" وتحولها إلى فائض بشريومحاولة الدولة القومية التخلص من هذا الفائض البشري عن طريق دمجه أو تصديره أوتحويله إلى عنصر بشري نافع. وهي عملية لم تكن مقصورة على أعضاء الجماعات اليهوديةوإنما كانت تسري على أعضاء الجماعات الإثنية والدينية الأخرى في المجتمع، أي أنهامرتبطة بآليات وحركيات خاصة بالمجتمع الغربي بعد تآكل النظام الإقطاعي وانتقاله منالاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الرأسمالي، وأخيراً بالتشكيل الإمبريالي الغربي. ويجب الانتباه إلى أن مسألة يهود شرق أوربا في القرن التاسع عشر ليست مسألة فريدة،فهي نمط متكرر في معظم المجتمعات التي تنتقل من النمط الزراعي التقليدي في الإنتاجإلى النمط الحديث. وعلى هذا، توجد مسألة هندية أو عربية في أفريقيا، ومسألة إيطاليةأو يونانية في مصر، ومسألة صينية في جنوب شرق آسيا، ولعل التشابه بين المسألةالصينية في الفلبين والمسألة اليهودية في بولندا أمر ملحوظ بشكل ما ويستحق الإشارةإليه. لقد كان أعضاء الجماعة الصينية يشكلون جماعة وظيفية وسيطة فكانوا يعملونوسطاء بين المستعمرين الإسبان والعنصر الفلبيني المحلي، تماماً كما كان اليهودوسطاء بين النبلاء البولنديين (الشلاختا) والفلاحين والأقنان الأوكرانيين داخلمؤسسات الإقطاع الاستيطاني ونظام الأرندا. وكان الصينيون يعيشون في جيتو يُسمَّى «باريان Parian» خارج مانيلا، تماماً كما كان اليهود يعيشون في الجيتوات والشتتل. وكان يُحظَر خروج الصينيين من الجيتو الخاص بهم بعد الساعة الثامنة. وقد طُردالصينيون من الفلبين عدة مرات (1569 و1755) ودُبِّرت المذابح والهجمات ضدهم (فيسنوات 1603 و1639 و1662 و1764)، وفُرضت عليهم ضرائب خاصة باهظة. وتركَّز الصينيونفي مانيلا في الأعمال التجارية والمالية، ونظموا أنفسهم داخل مؤسسات تشبه القهال. وكان الصينيون يضطلعون بدور مهم في المجتمع الفلبيني، ولكنهم بعد استقلال الفلبينفقدوا دورهم كجماعة وظيفية وسيطة، فحدثت محاولات للتخلص منهم بطردهم أو دمجهم عنطريق تحديثهم.
ويمكن القول بأن المسألة اليهودية في أوربا، في العصرالحديث، هي محاولة لتحديث أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا بهدف دمجهم فيمجتمعاتهم بعد أن فقدوا دورهم كجماعة وظيفية وسيطة، وهي محاولة حقـقت درجاتمتفـاوتة من النجـاح والإخفـاق. ولفهم هذه الظاهرة، لابد أن نتعامل مع مركب منالأسباب الاقتصادية والسياسية والتاريخية والثقافية التي أدَّت إلى ظهورها، ومعالطريقة التي حاولت كل دولة التعامل بها مع الجماعات اليهودية ومع الجماعات الإثنيةوالدينية كافة، كما يجب أن نتعامل مع العناصر التاريخية والسياسية التي أدَّت إلىنجاح أو تعثُّر أو توقُّف هذه المحاولات. ويمكن القول بأن جذور المسألة اليهوديةتعود إلى ما أسميناه «المسألة العبرانية» الناجمة عن ضعف الدولة العبرانية القديمةسواء في مواردها البشرية أو في مواردها المادية ووجودها في منطقة مهمة إستراتيجياًبين عدة إمبراطوريات عظمى، وهو ما أدَّى إلى تحوُّلها إلى معبر لهذه الإمبراطوريات،وجعل المجتمع العبراني مجتمعاً طارداً لقطاعات من سكانه وأصبح مصدراً أساسياًللمادة البشرية.
المفضلات