دعاة التنوير اليهودي)المسكليم)
Maskilim
«مَسْكليم» كلمة عبرية مفردها «مَسْكيل» وهي لفظةتكريم عبرية وتعني «العالم» أو «الرجل المستنير»، وهي مشتقة من كلمة «سيكيل»ومعناها «ذكاء» والتي استخدمت بعد ذلك بمعنى «استنارة». وقد استُخدمت هذه الكلمةلأول مرة في إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم صارت تعني في البلادالسلافية، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، العالم اليهودي الذي يتصف بحب المعرفةويكافح من أجل البعث الحضاري لليهود ويبشر بحركة التنوير اليهودية ومُثُل حركةالاستنارة الغربية.

وقد أحـدَث دعـاة التنوير ثورة في عـالم اليهود وفيمسار تواريخهم، إذ قدموا أنفسهم باعتبارهم أعلم بمصلحة اليهود من القيادةالتقليدية، وعلى أنهم بما لديهم من علم ومعرفة بالعالم الحديث أكثر قدرة علىالتعبير عن هذه المصالح. وكانوا يرون أنفسهم، أساساً، بشراً لا يهود اً، وطليعةحضارة إنسانية عالمية يبشرون بها بين اليهود الذين يتمسكون بحضارتهم المتخلفة.

وحاول دعاة التنوير إعادة صياغة الهوية اليهودية وتحديثها، فكانوا يتقدمونبالبرامج والمشاريع للحكومات الغربية المختلفة حتى يتم تحديث اليهود. وعلى سبيلالمثال، تعاون هرتز هومبرج مع الحكومة النمساوية لفرض الصبغة الألمانية على يهودجاليشيا وأسس فيها ما يزيد على مائة مدرسة يهودية ألمانية في الفترة بين 1787و1800.

ويمكن أن نفرِّق بين دعاة التنوير في شرق أوربا من جهة ودعاةالتنوير في وسطها (والذي كان يُطلَق عليه في الأدبيات اليهودية اسم «الغرب») من جهةأخرى. ففي الغرب، تمكَّن دعاة التنوير من أن يمسكوا بزمام الموقف ويقوموا بتغييرمعالم حياة الجماعة اليهودية، الأمر الذي يتضح في اليهودية الإصلاحية وغيرها منالحركات. أما في شرق أوربا، فكان الوضع جد مختلف، إذ ظل دعاة التنوير أقلية صغيرةمُحاصَرة، ولم يستطع سوى الأثرياء منهم المجاهرة بآرائهم. أما الفقراء، فكانوايهربون إلى مراكز التنوير في الغرب. ونظراً لصغر عددهم وهامشيتهم، لم تظهر حركةدينية إصلاحية في الشرق على غرار ما حدث في الغرب. وآمن دعـاة التنوير بقـوة الدولةباعتبـارها قـوة مطلقة، واستغلوا المقولة الدينية اليهودية « شريعة الدولة هيالشريعة » لإعطاء شرعية دينية لهيمنة الدولة على اليهود وغير اليهود. واستعان دعاةالتنوير بالسلطات الحكومية لضرب القوى التقليدية داخل الجماعة اليهودية، وقاموابنضال لا هوادة فيه ضد الحسيديين، وساعدوا السـلطات في اضطهاد التسـاديك (زعماءالحسـيدية) وفي مصادرة كتبهم. وظل هذا الوضع قائماً حتى نهاية القرن حينما بدأ دعاةالتنوير يتبنون مُثُلاً اجتماعية ثورية فانقلب الحال، واستعانت القيادة التقليديةبالسلطات ضد دعاة التنوير الثوريين، مؤكدة لها أن اليهود المتمسكين بالتقاليدالدينية هم وحدهم الخاضعون للحكومة المتعاونون معها.

وقدم دعاة التنويرنقداً متكاملاً للشخصية اليهودية التقليدية، في طفيليتها وهامشيتها وعدم انتمائها. وهو النقد الذي ورثه كل من الصهاينة والمعادون لليهود. ومن الملاحَظ أن كلمة «مسكليم» لها إيحاءات قدحية في الكتابات الصهيونية واليهودية الأرثوذكسية.

المسـكليم
Maskilim
«مسكليم» كلمة عبرية تشير إلى دعاة حركةالتنوير بين اليهود. انظر: «دعاة التنوير اليهودي (المسكليم)».

نفتالــي فيســيلي (1725-1805)
Naphtali Wessely
واحد من أهمدعاة التنوير الألمان، وشاعر يكتب بالعبرية. وهو أحد أصدقاء مندلسون وأحد أخلصأتباعه. وُلد لأسرة ثرية، فكان أبوه وجده من قبله يمتلكان مصنعاً للأسلحة ويعملانمتعهدي تموين للأسرة المالكة الدنماركية، أي أنهما كانا من يهود البلاط. تلقَّىفيسيلي تعليماً دينياً وغير ديني، وأتقن بعض اللغات الأوربية واللغة العبرية. وقضىبضعة أعوام في أمستردام وكوبنهاجن حيث تعرَّف إلى مندلسون.

نشر فيسيلي بعضالدراسات الدينية من بينها تعليق على أحد كتب التلمود. ولكنه ذاع صيته حينما نشرعام 1782 كتيباً بالعبرية بعنوان دبري شالوم فائيميت (كلمات السلام والحق) كانبمنزلة مانفستو لحركة التنوير بعد صدور براءة التسامح عام 1782، وقد تُرجم هذاالكتيب إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية. كما ساهم فيسيلي في التعليق على كتابأسفار موسى الخمسة الذي أعده مندلسون. وفي عام 1788، نشر سيفر هاميدوت (كتابالأخلاق) وهو تحليل نظري للقضايا الأخلاقية.

ولكن أهم أعماله هو قصيدتهالبطولية شيري تيفئيريت (قصائد المجد) وهي ملحمة عن الخروج مقسمة إلى ستة أقساموثمانية عشر كتاباً. وقد استغرق تأليفها نحو عشرين عاماً وأصبحت نموذجاً لمعظمالجهود الشعرية لحركة التنوير، وهي متأثرة بقصيدة الشاعر البولندي كلوبستوك«المسيح».وليست للقصيدة قيمة أدبية تذكر، وهي أيضاً ليست قصيدة تاريخية تحاولالحفاظ على الإيهام التاريخي،وإنما هي تعبير عن أفكار حركة التنوير وُمُثلها: فموسى، قائد العبرانيين، يشبه دعاة حركة التنوير الألمان، بل ويشبه موسى مندلسونعلى وجه التحديد.
ويُعَدُّ إسهام فيسيلي الأساسي في الأدب المكتوب بالعبريةأسلوبه الذي كان يتسم بالبلاغة برغم زخرفته وتأنقه الزائد، وقد كان أسلوبه نموذجاًللأدباء الذين يكتبون بالعبرية من بعده وقد أدخل فيسيلي تعديلات على عروض الشعرالمكتوب بالعبرية إذ تبنَّى الوزن المقطعي والسطر المكون من اثنى عشر مقطعاًوالمسمى «الإسكندري»

وساهم فيسيلي في نشر أفكار مندلسون التربوية، وفيتوجيه النقد للأفكار التربوية السائدة في عصره بين أعضاء الجماعات اليهودية فيالغرب. وكان مهتماً بالتعليم الديني اليهودي، ولكنه ذهب إلى أن الدراسات التلموديةدراسات غير علمية وأن من الواجب توجيه اليهود نحو دراسة الحرف وأن يتلقوا تعليماًدنيوياً يهيِّئهم للاشتراك في الحياة حولهم. واقترح أن يتضمن هذا التعليم مبادئالعلوم والرياضيات والتاريخ والجغرافيا واللغة الألمانية. وحاول أن يبرر دعوتهالعقلانية على أسس دينية، فقال: إن معرفة التاريخ تقوي معرفة اليهودي بتراثه، فيحين تساعده معرفة الجغرافيا على فهم الشعائر المقدَّسة. وقد لاقت آراؤه معارضة حادةمن الحاخامات. ولكن أفكاره، مع هذا، ساهمت في صياغة أفكار التربويين اليهود ممنجاءوا بعده، سواء كانوا من دعاة حركة التنوير أو كانوا من معارضيها.

وبعدظهور براءة التسامح، سنحت أمامه الفرصة لوضع أفكاره موضع التنفيذ حينما أسس ديفيدفرايدلاندر عام 1778 المدرسة اليهودية الحرة، إذ تبنت هذه المدرسة منهجاً جديداًيمزج الدراسات الدينية بالدراسات الدنيوية. فكانت النصوص الدينية تُدرَّس بالعبرية،ولكن إلى جانب ذلك كانت هناك دروس دينية أيضاً تُدرَّس بالألمانية التي حلت محلاليديشية كلغة للتدريس. وكانت هذه المدرسة نموذجاً للمدارس الأخرى التي أُسِّست بعدذلك.

موسى مندلسون (1729-1786)
Moses Mendelson
رائد حركةالتنوير اليهودية. وُلد في دساو (ألمانيا الوسطى) لأب فقير يعمل في كتابة مخطوطاتالتوراة أي لفائف الشريعة. وأُصيب بمرض في طفولته تسبَّب في تقوُّس عموده الفقريوأثر في جهازه العصبي. وتلقَّى مندلسون تعليماً تقليدياً على يد حاخام ثم سافر إلىبرلين حيث درس الطب والفلسفة واللغات اليونانية واللاتينية والإنجليزية والفرنسية،وكان هذا أمراً غير عادي بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في أوربا آنذاك. اشتغلمندلسون مدرساً خصوصياً لأولاد صاحب مصنع حرير ألماني يهودي ثم عمل محاسباً عنده،واستوعبت الوظيفة كثيراً من وقته، ولكنها أتاحت له فرصة الإقامة في برلين كيهودييتمتع بالحماية بسبب نفعه. وظل يعمل طيلة حياته تاجراً وتزوج من حفيدة يهودي البلاطصموئيل أوبنهايمر.

صادق مندلسون عديداً من المثقفين الألمان في عصره منبينهم كانط ولسينج الذي كتب مسرحية نيثان الحكيم (1779) واستخدم مندلسون فيهاكنموذج لبطل المسرحية اليهودي الذي يتحدث عن الأخوَّة وحب الجنس البشري.

قرأ مندلسون أعمال موسى بن ميمون وتأثر بنزعته العقلانية، كما تأثر بأعماللايبنتز وإسبينوزا. وذاع صيته في بداية الأمر بسبب كتاباته في فلسفة الجمال التيتُعَدُّ إسهاماً لابأس به في هذا الحقل الفلسفي، ثم نشر كتاب فايدون (1767) تناولفيه موضوع الخلود الشخصي في شكل حوار أفلاطوني يؤكد فيه فكرة خلود الروح وأن الموتلا يعني الفناء الكامل، وبيَّن أن الرب الخيِّر ما كان ليغرس هذه الفكرة في روحالإنسان إن لم يكن هناك خلود حقيقي للروح. ويتضح في الكتاب مدى تأثر مندلسون بمفكريعصر العقل والاستنارة والفلاسفة الربوبيين، الذين كانوا يؤمنون بالخالق دون إيمانبأي دين ولا حتى بالآخرة. وقد ذاع صيت مندلسون بعد هذا الكتاب وكان يشار إليه بأنه «أفلاطون الألمان وسقراط اليهود». ورُشح مندلسون لأكاديمية العلوم في برلين ولكنالملك شطب اسمه من قائمة المرشحين. ودخل مندلسون في نقاش حاد مع المفكر الدينيالمسيحي السويسري يوحنان لافاتر الذي طلب إلى مندلسون أن يثبت زيف الدلائل على صدقالعقيدة المسيحية أو أن يفعل ما كان سيفعله سقراط لو كان في الموقف نفسه، أي أنيتنصَّر.

لكل هذا، دخل مندلسون مرحلة فكرية ثانية ظهر فيها اهتمامه باليهودواليهودية، فبذل قصارى جهده كي يقضي على العزلة الفعلية والنفسية لليهود. وحاول أنيحطم ما أسماه بالجيتو العقلي الداخلي الذي أنشأه اليهود حول أنفسهم لموازنة الجيتوالفعلي الخارجي الذي كانوا يعيشون فيه حتى عهد قريب، فأنشأ مدرسة للأطفال في برلينلتعليم الألمانية والحرف اليدوية إلى جانب العلوم التقليدية، وهاجم استخداماليديشية، وأصدر عام 1750 مجلة لنشر ثمار الثقافة العالمية بعنوان كوهيليت موسار (الواعظ الأخلاقي) مقلداً أسلوب مجلتي إسبكتاتور و تاتلر، ولكنها منيت بالفشل ولميظهر منها سوى ثلاثة أعداد. ثم نشر عام 1783 مجلة هاميئاسيف (الحاصد أو الجامع) التي كانت تُعَدُّ أهم مجلات حركة التنوير، واستمر نشرها حتى عام 1811.

ونشر مندلسون عام 1770 طبعة مشروحة من سفر الجامعة، كما نشر تعليقاًبالعبرية على كتاب موسى بن ميمون عن المنطق. وانتهى مندلسون من ترجمة أسفار موسىالخمسة إلى الألمانية والتي كُتبت بحروف عبرية، وكتب تعليقاً بالعبرية (بيور) عام 1783. وقد نُشرت الترجمة مع تعليقات وشروح كتبها معه مؤلفون يهود آخرون من بينهمنفتالي فيسلي وهيرتز هومبرج وياروسلاف. ويُعَدُّ هذا العمل من أهم أعمال عصرالإعتاق والتنوير، فهو الخطوة الأولى التي خطاها أعضاء الجماعة اليهودية نحوالحضارة الغربية العلمانية الحديثة، وقد حرَّم الحاخامات تداولها. كما ترجم مندلسونبعد ذلك المزامير ونشيد الأنشاد إلى الألمانية، وكتب كريستيان دوم عمله الشهير عننفع اليهود وتحسين أحوالهـم بخصوص إصلاح مكانة اليهود المدنية، الذي يتناول فيه هذهالقضية بعد أن حثه مندلسون على ذلك. ويُقال إنه اشترك معه في كتابته وإن كان اختلفمعه بعد ظهور الكتاب، لأن دوم طالب بمنح اليهود بعض الحقوق المدنية وأوصى بعزلهمداخل الجيتو والاحتفاظ بمؤسسات الإدارة الذاتية وألا يشغلوا وظائف عامة.

وفي عام 1782، قام أحد أصدقاء مندلسون بترجمة كتاب منَسَّى بن إسرائيل الذييدافع فيه عن اليهود ونفعهم، وكتب له مندلسون المقدمة. وأثار الكتاب نقاشاً حاداًلأنه نادى بضرورة إلغاء حق الحاخامات في طرد اليهود من حظيرة الدين (حيريم). وردعليه أحد النقاد مبيناً أن مثل هذا المطلب غير منطقي لأن القسر الديني هو أحد أعمدةاليهودية، وزعم أن مندلسون اقترب (في موقعه هذا) من المسيحية التي لا تستند إلىالشرائع والقواعد وإنزال العقوبات بمن لاينفذها وإنما إلى العقائد الأخلاقية غيرالمرتبطة بنظام عقوبات.

واضطُر مندلسون إلى كتابة أورشليم: أو عن السلطةالدينيـة والعقيـدة اليهـودية (1783) للرد على الانتقادات الموجهة إليه. والكتاب فيجزئه الأول يشبه كتاب إسبينوزا في دفاعه عن الحرية الدينية وحرية الضمير إذ أنللدولة وحدها، من وجهة نظره، حق استخدام القوة من أجل مصلحة المواطنين. ولكن لاالدولة ذاتها ولا الكنيسة لها الحق في فرض أية قيود على عقيدة الإنسان، أو علىمبادئه، ولا يمكن تحديد مكانة الإنسان في المجتمع أو حقوقه بناء على عقيدته. ومن ثمطالب مندلسون بمنح كل فرد حرية العقيدة، ليقرر كلٌّ ما يشاء حسبما يمليه عليه ضميرهوتصوُّره الأخلاقي. وإذا ما أرادت الكنيسة أو أية مؤسسة دينية أن تبشر بعقيدتها،فلابد أن تلجأ إلى الإقناع لا القسر وطالب بفصل الدين عن الدولة.

ولكنيُلاحَظ أن ما يقرره الضمير الفردي لا يتجاوز البتة رقعة حياة الفرد، إذ يظل للدولةالحق الكامل فيما يختص بالمصلحة العامة والحياة العامة. وهذا يعني أن مندلسون كانيحاول أن يطرح على اليهود التحدي الذي طرحه عليهم عصر الإعتاق والانعتاق بأن يصبحاليهودي مواطناً لا عضواً في جماعة إثنية دينية، وأن يكون ولاؤه فيما يختص بالحياةالعامة للدولة وحدها. ويمكنه أن يحتفظ بولائه فيما يختص بالدين لأعضاء جماعتهالدينية حسبما يمليه عليه ضميره، أي أن يصبح اليهودي مواطناً في الشارع يهودياً فيمنزله.

ويتوجه مندلسون في الجزء الثاني من الكتاب لمشكلة اليهود واليهودية،فيوجه سهام نقده إلى سيطرة الحاخامات، ويحاول أن يطرح تصوراً لليهودية عقلانياً فيأساسه، ولكن للوحي فيه مكاناً، فيذهب إلى أن هناك أسساً ثلاثة لليهودية هي: وجودالإله، والإيمان بالعناية الإلهية، وخلود الروح. وهذه الأسس حقائق بدهية مثلالحقائق الرياضية، كما تشكل الأساس الفلسفي لكل الأديان قاطبة. ومن ثم، لا يوجدتعارض بين العقل واليهودية في الجانب العقيدي، ولا يوجد بالتالي داع للقسر الديني. ولكن اليهودية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه فهي ليست ديناً مرسلاً وإنمامجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية السلوكية والشعائر المرسلة، فهي ديانة لاتهدف إلى تقنين طريقة تفكير اليهودي وإنما لوضع أسس لسلوكه.

واليهودية لاتطلب الإيمان بأية عقائد يهودية محددة أو حقائق خاصة بالخلاص، ولا تنقل معرفةربانية خاصة، ولا توجد وصية واحدة من الوصايا العشر تتحدث عن الإيمان وإنما تتحدثكلها عن السلوك. وعندما تحدَّث الرب مع موسى في سيناء لم يذكر له أية عقائد بل ذكرله طريقة للسلوك يطبقها اليهود في حياتهم، أي أن العقل يصل إلى العقائد (العامةوالجوهرية)، والوحي يقرر الشعائر (الخاصة والمحلية)، وكأن العقل يمثل المضمونوالوحي يمثل الشكل. ويتبع مندلسون في هذا تمييز عصر العقل والاستنارة بين الحقائقالعقلية والحقائق التاريخية أو الدنيوية. فالأولى لا تتطلب سوى عملية عقليةلإثباتها وتقبُّلها فهي عامة ومجردة، أما الثانية فتتطلب قرائن حسية لإثباتها فهيمحددة بالزمان والمكان.

ويقول مندلسون إن المملكة العبرانية المتحدة كانتثيوقراطية، أي أن العقيدة والدولة كانتا متوحدتين، ولذا فمن كان يرفض الانصياعللأوامر والنواهي الدينية يخرققانون الدولة ويتمرد عليها. وقد سقطت الدولة، ولكنلم تسقط القوانين أو الشريعة مع هذا لأنها مُرسَلة من الرب، ولذا فهي ملزمة لليهودوحدهم ولكل من يُولد يهودياً ولكنها لا تنطبق على غير اليهود ممن أُرسلت إليهمشريعة نوح. ويشير مندلسون إلى أن اليهود الذين كانوا يتنصَّرون، في القرون الأولىمن العصر المسيحي، كانوا يستمرون في ممارسة الشعائر اليهودية، على عكس غير اليهودالذين تنصَّروا، فهؤلاء لم يكونوا مُلزَمين باتباع هذه الشعائر وتنفيذها، أي أنهربط هنا بين الدين والعرْق أو الإثنية. وبذا، يكون مندلسون قد أعاد تعريف اليهوديةتعريفاً إثنياً، وهذه هي الصياغة الصهيونية. ويرى مندلسون أن القوانين الشعائريةوالأوامر والنواهي تحتفظ لليهود بروابطهم، وتمنحهم خصوصيتهم وتفرُّدهم، وهذهالصياغة تقترب هي الأخرى من الصياغات الصهيونية للقضية نفسها.

وعلى هذا،فإن مندلسون يقبل (في الأمور الجوهرية) اللاهوت الطبيعي والفكر الديني لفلسفةالربوبية، ولكنه في الوقت نفسه يقبل التوراة في الشعائر. وقد قال ليو بايك، عن حق،إن اليهودية أصبحت بالنسبة إلى مندلسون خليطاً من الشريعة والديانة الطبيعية (الربوبية). ولكن هذا تجلٍّ للتناقض الأساسي الكامن في فكر حركة الاستنارة الغربيبين النزوع العقلي نحو العام والمجرد والنزوع الحسي والتجريبي والرومانسي نحو الخاصوالمتعيّن.

وتجب ملاحظة الفرق بين فلسفة مندلسون وفلسفة الربوبية، فبينمايرى مندلسون أن العقل والوحي مختلفان وأن الأول يسبق الثاني، يرى فلاسفة الفكرالربوبي أن العقل حينما يصفو يقترب من الوحي الأمر الذي يفترض وحدة العقل والوحي. كما ينبغي أيضاً إيضاح الفرق بين فلسفة مندلسون وفلسفة موسى بن ميمون والرؤيةالدينية العقلانية. فموسى بن ميمون يرى أن معرفة الإنسان بالحقيقة تستند إلى العقلوالوحي، ورغم أن الديانات في جوهرها عقلانية ولا يمكن أن يُوجَد تناقض بين مضمونالدين والعقل، فإن الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى الحقيقة دون وحي. أما مندلسون،فيرفض مسألة الطريق المزدوج لمعرفة الحقيقة والمصدرالمزدوج للحقيقة نفسها، فالوحيلا يمكنه أن يقنع أي إنسان بحقيقة شيء لم يدركه عقله. فكأن العقل هو النقطةالمرجعية النهائية والمطلقة في كل الحقائق الأساسية. ومع هذا، وكما أسلفنا، فإنالوحي له دوره، فهو مصدر الشعائر الخاصة بكل دين. ولأن مندلسون ترك مكاناً في نسقهالفكري للوحي، فإنه يختتم كتاب أورشليم بالدفاع عن استقلالية الأديان وخصوصية كلمنها، ويرى أن محاولة مزج كل الأديان في دين واحد مسألة غير ممكنة، ذلك أن تعدُّدالأديان أمر مهم للغاية.

وتعريف مندلسون لليهود يقترب إلى حدٍّ كبير منتعريف إسبينوزا الذي يرى أن شريعة اليهود أُرسلت لليهود دون سواهم. وبينما كانإسبينوزا يرى أن هذه الشريعة فقدت حيويتها ووظيفتها مع نهاية الدولة العبرانية، كانمندلسون يؤمن بأنها مازالت ذات فاعلية. كما يرفض مندلسون حلولية إسبينوزا المتطرفة،فالرب حالٌّ ومفارق في آن واحد وهو رب يرسل الأوامر والنواهي ولكنه رحيم. والإلهليس مجرد نظام منطقي (النظام الضروري والكلي للأشياء) أو قانون طبيعي غير شخصي (كماكان إسبينوزا يتصوّر). وهذا يعني أن مندلسون احتفظ بشيء من الثنائية الأساسية التيتسم أي تفكير ديني وإن أصبحت باهتة للغاية. ولذا، فحينما علم أن صديقه ليسنج اعترفقبل موته بأنه من المؤمنين بفكر إسبينوزا وحلوليته وإلحاده، أصيبب مندلسون بالذعروألَّف كتاباً يهاجم فيه إسبينوزا، وكان آخر كتبه. ويبدو أن الجهد العصبي الذي بذلهفي كتابته كان فوق طاقته إذ تُوفي بعد عدة أيام من تسليم مخطوط الكتاب للناشر.

ولكن، برغم وقوف مندلسون ضد النزعة العقلانية المتطرفة، فإن رؤيته فيجوهرها رؤية عقلية عقلانية لاتاريخية تنحو نحو العام والمجرد تختلف عن النزعةالحسية والتجريبية والنزعة الرومانسية التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر والتيتؤكد الخاص والمحلي والمتعيِّن واللاعقلاني. ويُلاحَظ كذلك أن تأكيد مندلسون أهميةالشعائر الدينية اليهودية، وكذلك إسقاطه أهمية العقائد، يقف في مواجهة تطوُّراليهودية اللاحقة إذ أن الاتجاه التنويري في اليهودية ركز على العقائد باعتبارهاالجزء العقلاني من اليهودية والجزء المشترك مع بقية البشر، وأهمل الشعائر باعتبارأنها مصدر العزلة والخصوصية. ثم تطوَّر هذا الاتجاه في اليهودية المحافظة بحيث أصبحما يميِّز اليهودية عقائدها الخاصة والفريدة، ولعل هذا يُفـسِّر سـبب تجاوز فلسـفتهالدينية بعد موته.
وتأثر كل من كانط، وهيجل، في رؤيتهما لليهودية، بآراءمندلسون، إذ نظرا إليها باعتبارها ديناً شعائرياً عقلانياً عقلياً بارداً لا يتطلبالإيمان وإنما الممارسة الدينية وحسب مقابل المسيحية التي تؤكد عالم الباطن والروح. وخلص هيجل في مقدماته إلى أن اليهودية قد أصبحت مجرد حفرية مقابل المسيحية التي لاتزال ديناً حياً.

وذاع صيت مندلسون لدرجة أن اليهود أطلقوا عليه لقب «موسىالثالث»، (باعتبار أن النبي موسى هو الأول، أما الثاني فهو موسى بن ميمون). ورغم أنمندلسون هو الأب الحقيقي لحركة التنوير، فإنه كان من بعض النواحي شخصية انتقالية إذكانت تسيطر عليه أحياناً تحفظات كثيرة بشأن ترجمة كل العلوم الدينية. كما كان يعارضالتعليم المشترك بين اليهود والأغيار خشية أن يؤدي مثل هذا التعليم إلى تحوُّلاليهود عن دينهم. وقد هاجمه المفكر الصهيوني بيريتس سمولنسكين لأنه طالب بفصل الدينعن القومية، ولأنه أعلن أن اليهودية لا يمكنها الاستمرار إلا بوصفها ديناً وحسب،وهو الأمر الذي يتنافى مع جوهر اليهودية كما يراها سمولنسكين، فهي دين وقومية في آنواحد.

وقد تنصَّر أبناء مندلسون كلهم إلا واحداً، وهذه حقيقة يسوقها بعضاليهود الأرثوذكس والصهاينة دليلاً على أن حركة التنوير كانت حتماً ستؤدي إلىاختفاء اليهودية وإلى انصهار اليهود. ولكنهم لو نظروا إلى مصير عائلة هرتزلوأبنائه، حيث تنصَّر أحدهم وجُنَّ الآخر وانتحر، أما ابنته فكان سلوكها الجنسيشائناً إذ يُقال إنها احترفت البغاء، نقول لو نظروا إلى مصير عائلة هرتزل لاكتشفواأن ما يحدث لأبناء زعيم حركة سياسية أو فكرية ما، خصوصاً بعد وفاته، لا يصلح لأنيكون معياراً وحيداً للحكم على هذه الحركة.