وقد استمر كُره ماركس للتجارة حتى النهاية. ولهذا، فإن رؤيته للمجتمعالمثالي (الشيوعي) تخلو من أية شبكة للتوزيع، فمن كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته، أيأن هناك وجوداً عضوياً كاملاً يلتحم فيه الجزء بالكل والذات بالموضوع، وبالتالييختفي الوسيط التاجر والمموِّل تماماً. ويُقال إن هذا الموقف يضرب بجذوره في العصورالوسطى المسيحية وهو موقف الرفض العميق للأعمال المالية والتجارية بوصفها أعمالاًحقيرة. وعلى كلٍّ، فإن الجماعة العضوية المترابطة التقليدية هي في جوهرها المجتمعالزراعي - في العصور الوسطى ـ الخالي من التنافس والوسطاء.
ولكن، إذا كانتهناك علاقة بنيوية وسببية قوية بين الدين واغتراب الإنسان عن جوهره وبين الدينالمسيحي والبورجوازية، أي تنظيم المجتمع على أسس بورجوازية (وهي علاقة تؤدي إلىالتفتت والذرية)، فإن ثمة ما يشبه الترادف بين اليهودية والبورجوازية بل التوحدالكامل بينهما. فجوهر اليهودية الحقيقي تحقَّق في المجتمع البورجوازي الذي هو فيواقع الأمر علمنة لليهودية. بل يمكن القول بأن اليهودية هي البورجوازية، فكما أنالمجتمع البورجوازي لا يبلغ اكتماله إلا في العالم المسيحي، فإن اليهودية لا تبلغذروتها إلا مع اكتمال المجتمع البورجوازي. فالبورجوازية هي أعلى مراحل المسيحية،واليهودية هي أعلى مراحل البورجوازية (هذا إن أردنا استخدام الخطاب اللينيني فيتوصيف الأمور).
ويتناول ماركس النسق الديني اليهودي من خلال بعض الأفكارالخاطئة، في تصوُّرنا، والتي شاعت في الفكر الألماني عن اليهودية، وهي تعود إلى فكرموسى مندلسون ومنه انتقلت إلى كانط فهيجل. يقول ماركس: شريعة اليهود غير العقلانيةإن هي إلا صورة دينية ممسوخة للأخلاق والقانون بشكل عام. إن هذه الشريعة هي فكرةالحقوق الشكلية الخالصة التي يحيط بها عالم الأنانية نفسه (أي أن المجتمع الذري يحلمحل الجماعة العضوية المتماسكة). إن أسمى أنواع العلاقات الإنسانية داخل اليهوديةهو العلاقة القانونية، علاقة الإنسان بقوانين لا تستمد فعاليتها من كونها قوانيننابعة من إرادته هو نفسه وجوهره وإنما تستمد هذه الفعالية من أن هذه القوانين هيسيده وأن أي انحراف عنها يقابله العقاب. ففكرة الشريعة اليهودية، بشعائرها الكثيرة،تقف (في تصوُّر ماركس) على الطرف النقيض من فكرة الدولة الحقة التي يحقق الإنسانجوهره من خلالها.
لكل هذا، نجد أن نزعات التفتت الذري الناجمة عن الأنانيةوالتي تؤدي إلى اغتراب الإنسان عن جوهره، والتي بدأتها المسيحية، تصل إلى درجةعالية من التبلور في المجتمع البورجوازي، ثم إلى ذروتها في اليهودية. ورغم أنالمسيحية هي التي بدأت هذا الاتجاه إلا أنها ظلت أكثر سمواً وأكثر روحانية مناليهودية. فالأنانية الروحانية عند المسيحي (البحث عن الخلاص الفردي) تصبح فيالحياة العملية الكاملة، وبشكل حتمي، الأنانية المادية عند اليهودي (البحث عنالربح)، وتتحوَّل الحاجة السماوية إلى حاجة دنيوية، وتتحول الذاتية المسيحية إلىأنانية يهودية. ومن ثم، فإن المسيحية هي الفكر السامي واليهودية هي التطبيق السوقيوالعملي لها. ولكن هذا التطبيق لم يصبح عاماً وشاملاً في المجتمع إلا بعد أن توصلتالمسيحية نظرياً، باعتبارها ديناً متكاملاً، إلى جَعْل الإنسان غريباً عن نفسه وعنالطبيعة. وعندئذ فقط استطاعت اليهودية التوصل إلى السيطرة العامة، وإلى إبعادالإنسان والطبيعة إلى خارج ذاتيهما، وجعلت منهما شيئاً تجارياً خاضعاً للحاجةوالأنانية وللمتاجرة. وحتى العلاقات بين الرجل والمرأة تصبح موضوعاً للتجارة،فالمرأة تصبح سلعة يُتاجَر بها. وقد ساهمت المسيحية في نشوء المجتمع البورجوازي. ومن أحشاء هذا المجتمع يتولَّد البورجوازي اليهودي دون انقطاع. ونحن لا نجد اليهوديالمعاصر في التوراة أو التلمود وحسب، بل نجده في المجتمع البورجوازي الحالي، وهوليس جوهراً مجرداً منعزلاً عن حركيات المجتمع وإنما هو جوهر عملي مطلق (وكذلك جوهرالبورجوازية أيضاً). ومن ثم، فلا يمكن الحديث عن حدود اجتماعية لليهودي، وإنما يمكنأن نتحدث عن حدود يهودية للمجتمع، أي عن حدود يهودية بورجوازية للمجتمع الإنساني.
في إطار هذا، يمكننا أن نفهم عبارات ماركس عن أن جوهر اليهودية هو المتاجرةوأساسها المنفعة العملية والأنانية، وأن المال هو إله إسرائيل الطماع ولا إله سواه،وأن « التبادل التجاري هو إله اليهود الحقيقي، وأمامه لا ينبغي لأي إله أن يعيش ». ويتضمن الدين اليهودي « ازدراءً للفن والتاريخ والإنسان كغاية في ذاتها ». و« تحتوياليهودية على عنصر عام ومناهض للمجتمع ». فاليهودية هنا ليست مجرد نسق ديني وإنماهي البورجوازية المتبلورة، وقد وصلت اليهودية إلى ذروة تحقُّقها في المجتمع المدنيالبورجوازي من خلال التطور التاريخي. فاليهودية، إذن، استمرت بسبب التاريخ لابالرغم منه. وعناد اليهود وبقاؤهم لا يمكن تفسيرهما عن طريق دينهم وإنما يمكنتفسيرهما بالأسـاس الإنسـاني (أي التاريخي) لدينهم، وهو الحـاجة العملية والأنانية. اليهودية، إذن، ليست مجرد بناء فوقي ونظام معرفي وإنما هي أيضاً جزء من نظاماقتصادي تحتي هو البورجوازية، ترتبط به ارتباطاً عضوياً يَصعُب معه فَصْل الواحد عنالآخر، فالبورجوازية تلد اليهودي دائماً من أحشائها بشكل حتميعضوي.
ويمكننا الآن أن نتحدث عن عملية تهويد المجتمع، أي سيادة النظمالمعرفية والاقتصادية البورجوازية والتي يلعب اليهود دوراً أساسياً فيها رغم أنهمليسوا وحدهم المضطلعين بها. ويتناول ماركس إشكالية أصول الرأسمالية ويرى، مثلسومبارت، أن اليهود لعبوا دوراً أساسياً في تغيير النظام الاجتماعي الزراعي عن طريقتفتيته، ولكنه لا يوافقه على أنهم مسئولون عن ظهور الرأسمالية الحقة أو الرشيدة. فهو يتفق مع فيبر في أن هـذه عملية ضخـمة لم يلعـب فيها اليهود غير دور ثانوي سلبي. ومع هذا، يختلف ماركس مع فيبر ويتفق مع سومبارت في أن روح الرأسمالية مُستمدَّة مناليهودية لا البروتستانتية. وربما كان ما يريد ماركس قوله هو أن النموذج المعرفيالذري المُتفتَّت الأناني يُوجَد في اليهودية بشكل أكثر تبلوراً منه في المسيحية. وهكذا، ورغم أن اليهود لم يلعبوا دوراً أساسياً في بناء الرأسمالية الرشيدة كجماعةبشرية إثنية، فإن اليهودية (كنسق ديني) لعبت دوراً فعالاً فيها. كما أن سيادة النمطالمعرفي المتمثل في اليهودية يعني في واقع الأمر انتصار الرأسمالية الكامل.
واليهودي، بالنسبة إلى ماركس، هو سيِّد السوق المالية، وبواسطته أصبح المال (إله إسرائيل الطماع) قوة عالمية، وأصبحت الروح العملية اليهودية هي الروح العمليةللشعوب المسيحية. وتاريخ المجتمع البورجوازي هو تاريخ تهويد أوربا، وهو أيضاً تاريخعلمنة إله إسرائيل وتحويله إلى إله العالم، فالبنكنوت (الرب العملي لإسرائيل) أصبحرب العالم الغربي الرأسمالي (انظر: «تهويد المجتمع»).
ولذا، فإن ماركس يرىأن الحديث عن الإعتاق السياسي لليهود أمر غير ذي موضوع في الواقع إذ أن اليهودتحرَّروا بالفعل ولكن على الطريقة اليهودية. « فاليهودي الذي لا يُحسَب له حساب فيفيينا (مثلاً) هو الذي يقرِّر بقوته المالية مصير المملكة كلها. واليهودي الذي قديكون في أصغر الدول الألمانية محروماً من الحقوق، هو الذي يقرر مصير أوربا ». لقدتحرَّر اليهود بالنسبة نفسها التي بها تحوَّل المسيحيون إلى يهود، أي أن إعتاقاليهود تم على الطريقة البورجوازية ومن داخل المجتمع البورجوازي حينما تم تفتيتالمجتمع تماماً وهيمنت قيم المنفعة والأنانية عليه. والحديث عن الإعتاق السياسيلليهود هو تعبير عن تناقض أساسي في المجتمع البورجوازي، وهو التناقض القائم بينالسياسة وقوة المال « فالسياسة نظرياً،فوق قوة المال.ولكنها، عملياً، أصبحت مجردسجينة له».
ثم نصل إلى الحلول التي يطرحها ماركس. ولقد سبق أن بيَّنا أناغتراب الإنسان عن جوهره يعود أساساً - في تصوُّر ماركس - إلى ظاهرة الدين الذييجعل الإله موضوعاً يواجه الذات الإنسانية كشيء غريب عنها. ومن ثم، فإن إلغاء الدينشرط ضروري للتحـرر. فالدولة التي تفـترض الدين مسـبقاً ليسـت بعـد دولة حقيقية، أيأنها لا تُعبِّر عن جوهر الإنسان. وأي دولة تفترض الدين مقولة أو إطاراً، لابد أنتُولِّد استلاباً للإنسان. ويقتبس ماركس، باستحسان، رأي باور في استحالة إعتاقاليهود داخل إطار الدولة (الدينية المسيحية)، إذ يُولِّد ذلك تعارضاً لا تنفصم عراهبين اليهودي والمسيحي. ولكن كيف يمكن حل مثل هذا التعارض؟ يرى ماركس أن حل أيةمشكلة إنما يكون بنفيها وإلغائها، ومن هنا كان ترحيبه بحل باور، أي حل المشكلة بجعلالتعارض الديني مستحيلاً بإلغاء الدين ذاته بحيث لا يرى اليهودي أو المسيحي، أيٌّمنهما، في دين الآخر، إلا درجات مختلفة من الروح الإنسانية.
وفي مقاله « حول نقد فلسفة الحق عند هيجل » يقول ماركس: « إن إلغاء الدين، باعتباره السعادةالبشرية الوهمية، دعوة إلى السعادة الحقيقية. فدعوة البشر إلى التخلي عن أوهامهمبشأن أحوالهم هي دعوة إلى التخلي عن الحالة التي تتطلب الأوهام » (ويبدو أنالموازنات اللفظية داء مزمن في كتابات ماركس الأولى). وعندئذ سيكتشف الإنسان « أنالدين ليس إلا مجرد جلود أفاع مختلفة نَزعَها التاريخ عنه وألقى بها، وأنه هوالأفعى التي استخدمت الجلد كمجرد غطاء». وحينذاك « لن يجد، المسيحي واليهودي،نفسيهما في حالة تعارض ديني وإنما في علاقة نقدية بحتة، علاقة تَعارُض علمية بشرية. وعنـدئذ يؤلف العلم وحدتهما ولا تُحَل التناقضات في العالم إلا عن طريق العلم ». وهكذا يصبح العلم، أو العقل العام أو العقل المادي، هو المطلق الوحيد بدلاً منالإله، وهذا هو جوهر الفكر الإنساني العلماني الغربي. وهو حل باور، وهو حل قد يؤديبالفعل إلى تحرُّر سياسي ولكن غير كاف برغم أهميته. فهو تحرُّر على المستوى السياسيوعلى مستوى الأفكار فقط. ولكن، كما بيَّن ماركس، يوجد جانب اقتصادي مادي صلبيَجُبُّ الجانب السياسي ويجعل المساواة في الحقوق السياسية أمراً مزعوماً. وهذاالجانب، يجسِّد الأنانية الكامنة في الإنسان وكل نزعات التفتت. والدولة، مجال حريةالإنسان ووسيلة تحقيق تكامله، تخضع هي نفسها لسطوة المموِّلين. ولأن حل أية قضية،بالنسبة إلى ماركس، لا يمكن أن يتم إلا بنفيها وإلغائها، فإننا نجده يرى أن المجتمع « لن يحرِّر نفسـه إلا بتـحرره من المتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية ». و« حين ينجح المجتمع في إلغاء الجوهر العملي لليهودية، المتاجرة وشروطها، عندئذيصبح وجود اليهودي مستحيلاً »، وذلك لأن رؤية اليهودي للعالم، أي النموذج المعرفيالذي يحمله، لم يَعُد لها ما يجسِّدها، ولأن أساس اليهودية نفسها، أي الحاجةالعملية، قد اختفت (تمت أنسنتها) وتم تجاوُز الصراع بين وجود الإنسان الفردي ووجودهالمادي بوجوده كعضو في النوع البشري. وهكذا، فإن « إعتاق اليهود في معناه الأخيريعني إعتاق الإنسانية من اليهودية ».
ولتلخيص الأمور، يمكن القول بأنالتحرر الإنساني من منظور ماركس لا يتم في المحيط السياسي، أي داخل الدولةالبورجوازية القائمة، وإنما يتم خارجها (الدولة الليبرالية الحقة الكاملة). فالتحرُّر سيكون تحرُّراً من الظروف الموضوعية التي تؤدي إلى الأنانية أي المتاجرةوالمبادلة، ومن الأفكار التي تُنمي الأنانية مثل التراث اليهودي المسيحي ومن الدينبشكل عام. ولا يمكن إنجاز مثل هذا التحرر الكامل إلا من خلال تحرير الدولة ذاتها منتلك الظروف ومن هذه الأفكار بحيث تصبح مجالاً لحرية الإنسان.
وإذا كانماركس قد كتب كتيباً، فإن إنجلز لم يكتب سوى ملاحظات عابرة، ويُقال إنه تُوجَدمخطوطة ضمن أوراقه الموجودة في موسكو بعنوان «يهود ألمانيا» ولكنها لم تُنشَر لسببغير معروف. ويمكن تقسيم ملاحظات إنجلز بشأن المسألة اليهودية إلى قسمين: ما قبلعــام 1878، وما بعده. وهذا التاريخ هو تاريخ نشر كتابه ضد دوهرنج. ويُلاحَظ أن فكرإنجلز بشأن اليهود واليهودية في فترة ما قبل عام 1878 لا يختلف كثيراً عن الخطابالاشتراكي السائد الذي يرى اليهود كجزء عضوي من الرأسمالية التجارية والتي سميناها «جماعة وظيفية وسيطة». وقد لاحظ إنجلز أن اليهودي إما تاجر وإما مراب، وأن التجاراليهود احتكروا تَبادُل السلع المصنوعة في أوربا بالمحاصيل الزراعية في بولندا،وربما تكون هذه إشارة إلى يهود البلاط في علاقتهم بيهود الأرندا. ويرى إنجلز (فيمقال له في نيويورك تربيون 5 مارس 1852) أن هذا هو الوضع السائد في كل شرق أوربا بلوفي الدولة العثمانية. فالحرفي والتاجر الصغير والصانع الصغير، في روسيا وألمانياوالقسطنطينية، ألماني، في حين نجد أن المرابي وصاحب الحانة وجابي الضرائب والبائعالجوال هو عادةً يهودي يتحدث الألمانية الفاسدة (هذه هي طريقة إنجلز في الإشارة إلىاليديشية)! والواقع أن الصورة كانت أكثر تركيباً مما تصوره إنجلز عن الدولةالعثمانية.
اليهود، إذن، جماعة وظيفية وسيطة (الرأسمالية الشكلية). ومعأن إنجلز يُلاحظ وجـود أثرياء اليهود في الغرب، فإنه لا يربط بين ذلك وبينالرأسـمالية الصناعية « الرشيدة » بحسب مصطلح فيبر، أو « الحقيقية » بحسب مصطلحماركس، وإنما يربط بينهم وبين البورصة وحسب. ويرى أن ثمة علاقة قوية تربط أعضاءالجماعات اليهودية بعضهم بالبعض ولكنها علاقة وظيفية وليست قومية (وفق مفهوم قوميةاليهود الوهمية عند ماركس ومفهوم الطبقة/الأمة عند ليون). فالمموِّل الألمانياليهودي يرفع قبعته بالتحية للمصرفي اليهودي الفرنسي، وسوق الأوراق المالية مؤسسةطفيلية لا علاقة لها بالإنتاج، فما هي إلا مؤسسة يقوم فيها المموِّلون اليهودبتوزيع فائض القيمة الذي سرقوه من العمال. وبرغم طفيلية هذا الدور الذي يلعبهالمموِّلون اليهود، فإن له أبعاده الثورية إذ ساعد على سرعة تركيز رأس المالوبالتالي ساعد على بلورة المجتمع واستقطابه.
وانطلاقاً من مثل هذهالأطروحات، كتب إنجلز مقالاً في مجلة النجم الشمالي (إنجليزية) يدافع فيه عن كتيِّبمعاد لليهود صدر في باريس عام 1846. فذهب إلى أن الكتيب لا يهاجم لويس فيليب وإنمايهاجم في واقع الأمر روتشيلد الأول، ملك اليهود، وأنه بذلك أخذ الاتجاه الصحيح. ومما عمق من هجوم إنجلز على اليهود أنه كان يؤيد نضال بولندا من أجل الاستقلالوالحفاظ على هويتها القومية، وبالتالي كان معـارضاً لليهود والألمان (في بوزنان) الذين كانوا يؤيدون ضمها إلى ألمانيا وصبغها بالصبغة الألمانية. وكان اليهود،بوصفهم عنصراً ألمانياً، يقفون إلى جانب الألمان في هذه المعركة. وقد هاجم إنجلزيهود بولندا، الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم، بطريقة تنم عن كراهيته لهم،فنعتهم بأنهم صورة مضحكة لكل اليهود، ووصف اليديشية مرة أخرى بأنها ألمانية فاسدة. بل إنه كان يرى أن اضطهاد الروس لليهود في عام 1848 إن هو إلا جزء من عملية تحوُّلاجتماعي تحاول البورجوازية (الطبقة المحلية الصاعدة) من خلالها أن تحمي نفسها منالباعة الجائلين (اليهود) الذين يفسدون كل الأمور، ويمنعون عملية التبلور الثورية.
ويُلاحَظ في كتابات إنجلز في هذه المرحلة أن ثمة ترادفاً بين كلمات «يهودي» و«مُضارب» و«مالي». وقد ترجم إنجلز بعض أعمال فورييه، دون أن يستبعد هجومه الشرسعلى اليهود. بل إنه هاجم هس ولاسال بهذه الطريقة العنصرية الشرسة، فأطلق على لاسالصفة «اليهودي السخيف» و«إفراييم النبيه» وأشار إليه باعتباره نموذجاً ليهود شرقأوربا الذين هم على أتم استعداد لاستغلال أي شخص لأهدافهم. وتحدَّث باشمئزاز شديدعن هذا اليهودي «المدهنن» (من الدهن) الذي يرغب في زخرفة نفسه ويرغب في الانتماءإلى الطبقات الأرستقراطية.
وظلت هذه هي الملامح الأساسية لفكر إنجلز حتىعام 1878 حين نُشر كتاب ضد دوهرنج الذي نلاحظ فيه نغمة مختلفة تماماً. فهو يشنهجوماً على معاداة اليهود، ويحاول أن يفسر الظاهرة بغضب بعض الطبقات الهابطة على مايحدث لها نتيجة تغيرات اجتماعية لا يتحكم فيها اليهود. وهو يرى أن هذه الظاهرةتتحقق في بلاد متخلفة مثل روسيا والنمسا وبروسيا وليس في إنجلترا أو الولاياتالمتحدة.
وهنا يظهر تحيُّز إنجلز للعملية التاريخية الكبرى التي كان يرىأنها الاتجاه الحتمي للتاريخ الذي سيحسم كل الخلافات والتناقضات الاجتماعية بحيثتصبح تناقضاً واحداً بسيطاً: التناقض بين الرأسماليين والعمال. فالطبقات، مثل: اليونكرز (صغار الملاك الزراعيين الألمان) والبورجوازية الصغيرة والحرفيين وصغارالتجار، كلها طبقات رجعية تَسقُط بسبب منافسة الرأسمالية الجديدة الصاعدة. ويلعبالمموِّلون والتجار اليهود دوراً أساسياً في هذه العملية، فلا يهم إن كانت هذهالرأسمالية الجديدة وهذه القوى الصاعدة سامية أو آرية، مُعمَّدة أو مُختَّنة، فهيتنجز وظيفتها التاريخية وتساعد الأمم المتخلفة مثل البروسيين والنمساويين على أنيصلوا إلى مرحلة أعلى من التقدم وتبسيط التناقضات.
ولكن، في غياب رأسماليةقوية صاعدة لا تستأثر بالناتج القومي، فإن مسرح النشاط المالي الأساسي يصبح هوالبورصة التي يتركز فيها اليهود، ويظل الإنتاج في أيدي بعض الفلاحين وملاك الأراضيوالحرفيين. لكن أعضاء هذه الطبقات هم من بقايا العصور الوسطى الذين يهاجمون اليهودبعنف ويعتقدون أنهم هم الرأسمالية الصاعدة. وتشن هذه الطبقات الهجوم تحت عباءةالاشتراكية (ومن ثم سماها إنجلز «الاشتراكية الإقطاعية»). وأشار إنجلز إلى أناليهود ليسوا حقاً من كبار المموِّلين، وبيَّن أنه لا يوجد يهودي واحد بينمليونيرات أمريكا الشمالية الذين يملكون من الثروات ما يجعل روتشيلد يبدو كما لوكان شحاذاً.
وفي إطار هذا التحليل، يتخلى إنجلز عن كثير من مقولاتهالعنصرية، فهو يتحدث عن روتشيلد باعتباره رأسمالياً وحسب ويقرن بينه وبين رأسماليمسيحي آخر. فالإطار المرجعي هنا هو الوظيفة التي يضطلع بها كل منهما وليس انتماؤهماالديني أو الإثني. وهو يشير إلى يهود شرق أوربا باعتبارهم ممثلي أدنى مراحل التجارةفي أوربا، ولكنه يتحدث عن حيلهم التجارية الوضيعة لا باعتبارها خاصية يهودية وإنماباعتبارها سمة من سمات الإنتاج الرأسمالي في مراحله المتدنية. وقد أشار إنجلز إلىأعضاء الطبقة العاملة من اليهود في إنجلترا بل وفي شرق أوربا (وهم من يهوداليديشية)، وهذا يعني أن يهود أوربا ما عادوا يوجدون في شقوق المجتمع ومسامه وإنماأصبحوا جزءاً منه، أي جزءاً من العملية التاريخـية الكـبرى، عملية اسـتقطابالمجـتمع إلى عـمال ورأسماليين. وربما يُفسِّر هذا تصريحه الإيجابي عام 1890 عناليهود: "إننا مدينون لهم، فمنهم هايني وماركس وغيرهما".
ومع هذا، لم يعلقإنجلز بتاتاً على المشروع الصهيوني، ولا على كتاب هس روما والقدس. ومن المعروف أنإنجلز لم يكن يُبدي اهتماماً كبيراً بالأمم الصغيرة. ولذا، فمن الممكن تصوُّر أنهلم يكن لديه أيُّ تعاطف مع هذا المشروع. كما أن الصهيونية لا تنتمي إلى العمليةالتاريخية الكبرى وإنما هي محاولة لتحاشيها وتعطيلها. ولكن بالإمكان النظر إلىالمشروع الصهيوني باعتباره أداة لخلق حالة من عدم الاتزان في المنطقة العربيةوتفتيت المجتمعات الرجعية القائمة فيها، أي أن الدولة الصهيونية يمكن أن تلعب فيالمنطقة العربية الدور نفسه الذي لعبه المموِّلون اليهود مقابل اليونكرزوالبورجوازيات الصغيرة، وبالتالي فإن دورها سيكون تقدمياً. وقد أيَّد إنجلزالاستعمار الفرنسي للجزائر من هذا المنظور.
المفضلات