ويمكننا الآن أن نحاول إصداربعض التعميمات على تناول ماركس وإنجلز للمسألة اليهودية. ويمكننا أن نقول إنهمانتاج (أو سجينا) تجربتهما الغربية على وجه العموم والألمانية على وجه الخصوص، وهذاأمر طبيعي ومُتوقَّع. ويظهر هذا الجانب من فكرهما، أكثر ما يظهر، في فشلهما الكاملفي التمييز بين اليهودية واليهود وفي تصوُّرهما أن النسق الديني اليهودي المتنوع هونسق واحد له جوهر واحد، يُعبِّر عن نفسـه من خـلال اليهـود، يظهـر في عبارات مثل: « إله إسرائيل الطماع »، و« جوهر اليهود هو كذا »... إلخ. ولكن التناول العلمي لهذهالقضية لابد أن يؤكد تنوُّع اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً ويؤكد في الوقتنفسـه عدم تجانُس الجماعات اليهودية المختلفة. ولابد أن هناك علاقة ما بين الأنساقالعقائدية اليهودية المختلفة والجماعات اليهودية المختلفة، ولكنها على أية حال ليستعلاقة عضوية سببية كاملة صلبة كما يتخيل ماركس وإنما علاقة تتسم بالسببية الفضفاضةوتختلف من بلد إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى.


ومن الواضح أن ماركسوإنجلز لم تكن لديهما أدنى معرفة بيهود العالم الشرقي والإسلامي. كما أن معرفتهمبالجماعات اليهودية في أوربا ذاتها لم تكن قوية بما فيه الكفاية. ولذا، لا تُوجَدعندهما إشارات إلى الفروق الحضارية والطبقية بين السفارد والإشكناز داخل أوربا. كمالا يوجد لديهما إدراك للفروق الحضارية بين مختلف الجماعات اليهودية إذ يبدو أنتجربتهم كانت مركَّزة أساساً على يهود ألمانيا مع معرفة سطحية بيهود شرق أوربا. كماأنهما لم يتعرضا للدور الخاص الذي لعبـه يهـود المارانو في نشأة الرأسماليةالغربية. وبسبب قصور معرفتهما، فإنهما يشيران إلى اليهود بشكل عام وإلى المسألةاليهودية بشكل مجرد بدلاً من الحديث عن مسائل يهودية مختلفة. وقد تمادى الماركسيونبعد ذلك وزادوا درجة التعميم والتجريد وأصبحت كتابات ماركس وإنجلز العابرة مصدراًللتعميم العالمي والشامل (والذي يُقال له علمي!) على اليهود.

ولعل جَهْلماركس وإنجلز بما كان يدور في شرق أوربا الذي كان يضم أغلبية يهود العالم، وبثقافةالجماعة اليهودية فيها (فاليديشية بالنسبة إلى إنجلز هي مجرد ألمانية فاسدة)، معالرغبة في الوصول إلى مستوى تعميمي مرتفع لا يستند إلى معطيات مادية وحضارية كافية،هو الذي جعلهما يتبنىان رؤية استقطابية للموضوع. فاليهود إما أنهم قومية عالميةوإما أنهم ليسوا بقومية على الإطلاق، ولم يطرأ لهما على بال وجود قومية شرق أوربية (نسميها «القومية اليديشية») مثل العديد من القوميات الأخرى هناك. وتصوَّر ماركسوإنجلز أن هناك حلين لا ثالث لهما: إما الصهيونية أو الاندماج الكامل. وهذا الموقفالاستقطابي هو الذي سقط فيه البلاشفة بعد ذلك فلم يتمكنوا من فهم طرح البوند للقضيةوظلوا يتخبطون إلى أن تبنُّوا حل بيروبيجان وهو حل يَصدُر عن قَدْر من التقبل لفكرةالقومية اليديشية.

أما النقطة الأخيرة، فهي الخاصة بتناول ماركس وإنجلزلأصول الرأسمالية. فبرغم الإسهام التاريخي لكل من ماركس وإنجلز في عملية دراسة أصولوتطوُّر ومصير الرأسمالية، فإنهما لم يدركا دور الدين في هذه العملية إلا بشكلبدائي وبسيط للغاية. وهذا ميراث فكر عصر الاستنارة وثمرة النموذج الفلسفي الماديالذي تبنياه والذي يحوِّل كل الأفكار، وضمنها العقائد الدينية، إلى مادة اقتصاديةفي نهاية الأمر وفي التحليل الأخير!

كما أنهما لم يسـتفيدا بالدراسـاتالاجتماعية والأنثروبولوجية العامة، التي لم تظهر بشكل مكثف إلا في نهاية القرنالتاسع عشر، عن الأديان المختلفة ودورها في النظم الحضارية الاجتماعية. ولذا، وبرغمالإشارات المهمة في كتاباتهما عن المسيحية واليهودية فإن هذه الإشارات لا تصل بأيةحال لعُمْق كتابات فيبر أو سومبارت.

وقد ورث البلاشفة كل نقاط القصور لدىماركس وإنجلز. ورغم توافر المعطيات المادية والمعلومات اللازمة بشأن الجماعةاليهودية في منطقة الاستيطان، فإن الرؤية الماركسية شكلت الإطار المعرفي للبلاشفة،فتحركوا من خلالها ومن خلالها وحدها.

رؤية ماكس فيبر (1864-1920) للعلاقة بين الرأســمالية والجماعات اليهودية
Max Weber on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities

ساهم عالم الاجتماع الألماني ماكسفيبر (1864 ـ 1920) في دراسة اليهود واليهودية من عدة جوانب. وأهم مفهوم في كتاباتههو مفهوم «الترشيد»، أي توظيف الوسائل بأعلى درجة من الكفاءة في خدمة الأهداف، وذلكعن طريق إخضاع الظواهر بشكل متزايد للمنطق الرياضي والهيمنة المنهجية المنظمة علىكل جوانب الحياة على أساس قوانين عامة ومبادئ تستبعد الالتفات إلى المعاييرالتقليدية أو الحماسة الكاريزمية، أو الالتفات إلى أية قيم أخلاقية أو عاطفية أوإنسانية. وهو يرى أن الترشيد هو السمة الأساسية لتاريخ البشرية المعاصرة، بل وتاريخالبشرية العام، فتاريخ الحضارة هو التقدم المستمر نحو مزيد من الترشيد.

والترشيد ـ حسب رأيه ـ ليس سمة معزولة من سمات الحضارة الغربية، بل هوالسمة الأساسية، وهو مصدر خصوصيتها. ويربط فيبر هذه السمة بظواهر أخرى، مثل معمارالكاتدرائيات القوطية وظهور العلم الطبيعي المبني على التحليل الرياضي، ويرى أنهاعملية كامنة في الحضارة الغربية، فهي كامنة في القانون الروماني، وفي مفهوم الملكيةباعتباره حقاً مطلقاً، وفي انفصال الكنيسة في الغرب عن العالم الدنيوي بحيث تركت مالقيصر لقيصر وما لله لله، ثم في بنية المدينة الغربية واستقلالها عن التشكيلالإقطاعي.

ولعبت اليهودية بوصفها ديانة توحيدية دوراً أساسياً في عمليةالترشيد هذه. إذ تضع الديانات التوحيدية مسافة بين الخالق والمخلوق. ولذا، لم يَعُدهدف المؤمن هو الاتزان مع الدنيا (عالم الطبيعة) كما هو الحال في الديانات الحلوليةوإنما التحكم فيها. هذه المحاولة للتحكم في كل العالم بكل تفاصيله، باسم مثل أعلىمُوحَّد، هي خطوة أولى نحو الترشيد، إذ لا يتعامل المرء مع الواقع على أساس ارتجاليوإنما يتعامل معه بشكل متكامل. وهذا ترشيد تقليدي مُتوجِّه نحو القيمة التي تحددهاالمعايير الأخلاقية المطلقة، ولكن هذا النوع من الترشيد حل محله الترشيد الحديث،وهو الترشيد المتحرِّر من القيم، والمتوجه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التيتروقه أو حسبما تمليه عليه رغباته أو مصلحته. فالترشـيد التقلـيدي كان يتم في إطـارالمطلق الديني، أما الترشيد الحديث فلا علاقة له بأيِّ مطلق ويتم في إطار نسبيكامل، ولذا نسميه «الترشيد الإجرائي» (ويُسمَّى أيضاً «الترشيد الأداتي»).

ولكن فيبر يرى أن اليهودية لم تصل بعملية الترشيد إلى نهايتها المنطقية،ومن ثم لم يلعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً مهماً ومركزياً في تطوُّرالرأسمالية. أي أن فيبر ـ على عكس سومبارت ـ يقول إن الجماعات اليهودية لم تساهمبشكل مباشر وأساسي في نشوء الرأسمالية الرشيدة حتى وإن كان لها إسهامها غير المباشرمن خلال عناصر الترشـيد الموجـودة في النسـق الديني (وبخـاصة كتب الأنبياء) ومنخلال تقويضها دعائم المجتمع التقليدي بإدخال عناصر اقتصاد التبادل. ويعود ذلك إلىالأسباب التالية:

1
ـ لم يكن تَوجُّه اليهود إلى هذه الحياة الدنيا بحدةتَوجُّه الجماعات البيوريتانية البروتستانتية التي جعلت هزيمة العالم وتَراكُمالثروة شاهداً على الرضا الإلهي، وهو تَوجُّه أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهورالمجتمع العلماني الرأسمالي.

2
ـ يرى فيبر أن المثل الأعلى اليهودي هوالعالم التلمودي الذي يدرس النصوص المقدَّسة وليس التاجر الذي يراكم الثروات. والعالم التلمودي كان في معظم الأحيان تاجراً أو مرابياً، ولكنه كان يعمل بالتجارةوالربا بعض الوقت وحسب، ولذا لم يكن بوسعه الوصول بعملية الترشيد إلى منتهاها.

3
ـ ولكن أهم الأسباب هو وجود عناصر غير رشيدة في الرؤية اليهودية للخلاص (مثل خصوصية يهوه وفكرة الشعب المختار والأخلاقيات المزدوجة) أدَّت إلى عزلة اليهودالنفسية، التي عمقتها العزلة الشعائرية. وحينما حضر اليهود إلى أوربا احتفظوابالوضع نفسه.

وقد حلَّ اليهود غرباءً أو ضيوفاً على المجتمع المضيف لا حقوقلهم بل يتحدَّد وضعهم من خلال المواثيق المحددة بزمن، والتي تمنحهم المزاياوتزوِّدهم بالحماية. ولم يتمكَّن اليهود من الانضمام إلى نقابات الحرفيين ولميعملـوا في عـدد كبير من المهن، ولذا أصبحوا شـعباً منبوذاً. ولأنهم شعب منبوذ،كانت الأشكال الرأسمالية التي ظهرت بينهم هي رأسمالية المنبوذين؛ رأسمالية تستندإلى المعايير المزدوجة ومرتبطة بالجماعة اليهودية وشعائرها الدينية وتستفيد منأواصر القرابة وتنمو في أحضان الحاكم والنظام الإقطاعي وتتركز في المضارباتوالمشاريع الرأسمالية المضمونة التي تضمنها الحكومة، وهي كلها عمليات غير رشيدة ولاتؤثر في كل مجالات الحياة (كما هو الحال مع الرأسمالية الرشيدة). ووصف فيبرلرأسمالية المنبوذين والرأسمالية التقليدية هو وصف دقيق لنشاط أعضاء الجماعاتالوظيفية المالية الوسيطة. ولم يظهر بين اليهود حب للعمل في ذاته أو حب للثروة كهدففي ذاته، وإنما كان الهدف من العمل ومراكمة الثروة هو تحقيق الراحة لليهود حتىيمكنهم دراسة التوراة. وهم لم يقيموا استثمارات بعيدة الأمد، بل ظلت استثماراتهمتهدف لتحقيق الربح السريع. ولذا، فإنهم لم يساهموا في إنشاء الصناعة الغربيةالحديثة. كما لم يكن أمامهم مجال للتجريب، فالمؤسسات القائمة كانت تحقِّق لهم مايريدون من ثروة. ولم يكن بوسعهم، كغرباء، أن يجربوا إلا بإذن السلطة الحاكمة أوالقوي التي يتبعونها (وقد كان البيوريتان يحتقرون هذا النوع من الرأسمالية الذييركز على العقود الحكومية واحتكارات الدولة ومشاريع الأمراء والمضاربات).

ويُبيِّن فيبر كذلك أن اليهودي لا يشعر بانعدام الأمن الداخلي الذي يشعر بهالمؤمن بتعاليم كالفن. فانعدام الأمن الذي يشعر به اليهودي كان خارجياً، أي الخوفمن عالم الأغيار. أما في داخل الجيتو، بين جماعته الوظيفية الوسيطة، فقد كاناليهودي يشعر بالأمن تماماً لأنه داخل الجيتو يعرف أنه فرد من الشعب المختار ولايخطر بباله أنه قد لا يُكتَب له الخلاص حتى بعد تنفيذ الوصايا التي وردت فيالتوراة. فالعلاقة التعاقدية تؤكد له إمكانية الخلاص. وهو لم يكن في حاجة لعلامة منالخالق ليفهم الإرادة الربانية الغامضة، فقد كانت لديه الشريعة التي يمكنه أنيدرسها ويعرف كل شيء فيها. ورغم أن النشاط الاقتصادي لليهودي كان يتم في عالمالأغيار، فقد كان هناك عالمه المقدَّس الذي يعود إليه. ومن هنا ظهرت هوة بين النشاطالتجاري والقيم الدينية، فالعمل التجاري لا يصب في الموقف الديني، والعمل لكسبالرزق لا يُعَدُّ في اليهودية نهاية في ذاته ولا هو وسيلة لتمجيد الخالق. ويمكنالقول بأن تراكم الثروة هو دليل على عدالة الخالق، ولكن الهدف الأساسي والنقطةالمرجعية يظلان بالنسبة إلى اليهودي الحياة التقية بحسب الوصايا والأوامر والنواهي،بل إن فكرة غزو العالم ذاتها تم الاستغناء عنها عن طـريق فكرة انتظار المـاشيَّح،وعدم الانغماس في التعجيل بالنهاية. وكان ضرورياً لليهودي أن ينتظر في صبر وأناةحتى يعود الماشيَّح، وهو ما يعني موقفاً انسحابياً من الدنيا.

ويضيف فيبرعنصراً آخر في دراساته عن المدينة، فهو يفسر عدم نشوء الرأسمالية الرشيدة بين أعضاءالجماعات اليهودية بأنها نشأت في المدينة المسيحية، حيث كانت هذه المدينة في العصرالوسيط مؤسسة دنيوية مستقلة عن الكنيسة وعن الدولة، وكانت تضم أفراداً يقسمون يمينالولاء كأفراد لا كأعضاء في قبيلة أو عائلة، وهذا يعني ضمور وتهميش علاقات القرابةالتي ترتبط بشعائر محددة (مثل عبادة الأسلاف). ورغم أن نقابات الحرفيين والتجاركانت أساساً مسيحية ورموزها مسيحية، فإنها ظلت مؤسسات دنيوية يمكن لأي غريب أنينتمي إليها بعد أن يقسم يمين الولاء لها. وقد ساهمت المدينة بهذه الطريقة في فصلشئون العمل والتجارة عن شئون الأسرة والعشيرة. وكان من شأن هذا كله أن يساهم فيعملية الترشيد الآنفة الذكر. ومن المعروف أن اليهود لم يصبحوا قط جزءاً من المدينة. ورغم أنهم كانوا يحصـلون على حـق الإقامة فيـها، فإنهم ظلوا غرباء عنـها لا ينتمونإليها، بل كانوا أعدى أعدائها في بعض المناطق نظراً لتبعيتهم للنخب الإقطاعيةالحاكمة.

وانطلاقاً من هذا، يرى فيبر أن الرأسمالية الرشيدة (أي التيتستند إلى أسس عامة موضوعية رشيدة بالمعنى الإجرائي والتي يهدف الإنتاج فيها إلىتعظيم الأرباح وليس إشباع الرغبات) لم تُولَد بين اليهود وإنما وُلدت في صفوفالبروتستانت، خصوصاً البيوريتان (المستوطنين البروتستانت في الساحل الشرقي منالولايات المتحدة) وغيرهم من أتباع المفكر الديني البروتستانتي كالفن، فهم الذينلعبوا الدور الأساسي في ظهور الرأسمالية الرشيدة. فالأخلاقيات البروتستانتية التيهيمنت عليهم جعلتهم يؤمنون بالعمل كغاية في ذاته وخلقت فيهم إحساساً عميقاً بعدمالطمأنينة (لأن الإله بعيد تماماً لا يمكن فهمه أو الوصول إليه أو التواصل معه). وبسبب هذا الإحساس بالبُعد والعزلة،يجعل المؤمن الهدف من حياته هو غزو العالم وغزوذاته وتوظيفهما لخدمة الإله (بما ينتج عن ذلك من عملية ترشيد كاملة) والهيمنة علىالعالم لإدخال الإحساس بالطمأنينة على ذاته.ومراكمة الثروة في هذه الدنيا هي أهمالنشاطات باعتبارها علامة على الاختيار والنجاح الذي سيؤدي إلى النعيم فيالآخرة.ولأن الثروة علامة من الإله، فإن على المؤمن ألا يبددها بل عليه أنيراكمها،أي أن الإنسان البروتسـتانتي ينكر على نفسـه المتعة ويقـوم بمراكمة الثروةكغاية في ذاتها.

وأطروحة فيبر بشأن علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بعمليةالترشيد أو بنشأة الرأسمالية خصبة للغاية ولها مقدرة تفسيرية عالية، فهي لا تحاولفقط تفسير جانب مهم في التاريخ الاقتصادي لأوربا، بل تحاول أيضاً تفسير تطوُّراليهودية كنسق ديني وتطوُّر وضع اليهود داخل الحضارة الغربية، وهي بذلك أكثرتركيبية من كتيب ماركس المسألة اليهودية الذي كتبه في شبابه قبل نضوجه.