الـــتراث اليهـــودي
The Jewish Heritage
يتواتر مُصطلَح «التراث اليهودي» في الكتابات التي تصف الجماعات اليهودية. وهو مُصطلَح يفترض أن تراث أعضاء الجماعات اليهودية هو تراث يهودي منفصل عن تراث المجتمع الذي يعيش اليهود بين ظهرانيه. ونحن نذهب إلى أنه لا تُوجَد ثقافة يهودية مستقلة، ومن ثم لا يُوجَد تراث يهودي مستقل.

وقد يكون ما يدفع البعض للحديث عن «تراث يهودي مستقل» و«ثقافة يهودية مستقلة» هو انفصال اليهود النسبي عن محيطهم الحضاري. فيهود بولندا كانوا يتحدثون اليديشية التي تبدو كأنها لغة يهودية خالصة، كما كانوا يبدعون الأدب اليديشي الذي يبدو كأنه جزء من تراث يديشي يهودي مستقل. ولكن اليديشية، كما هو معروف، هي ألمانية العصور الوسطى، دخلت عليها كلمات سلافية وعبرية، وتُكتَب بحروف عـبرية. أما الأدب اليديشـي، فهـو نتاج التقاليد الأدبية السلافية. ولا يمكن فهم فتراته وحركاته إلا بالعودة إلى التراث الأدبي الغربي، خصوصاً في روسيا وألمانيا. ثم يحمل المهاجرون اليهود معهم هذه اللغة وهذه الثقافة إلى البلاد التي هاجروا إليها، فيبدو كما لو أن هذا هو تراثهم الخاص بهم، المقصور عليهم، الذي يحملونه معهم أينما ذهبوا في كل زمان ومكان. ومما يزيد الأمر حدة أن هؤلاء المهاجرين يُظهرون ولاءً شديداً لهذه الثقافة التي أحضروها معهم فهي تراثهم الوحيد، يتمسكون بها، ويدافعون عنها، تماماً مثلما يتمسك أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة بانتمائهم إلى وطنهم القومي الوهمي أو بيهوديتهم الإثنية الخالصة المستمدة - في واقع الأمر - من محيطهم الحضاري السابق أو الحالي. ويتمسك المهاجرون بتراثهم باعتباره تراث الأجداد وباعتباره تراثاً يهودياً خالصاً وعاماً. وقد تجتمع عدة أقليات يهودية لكل تراثها في بلد واحد. ومع هذا، تستمر كل أقلية في الحفاظ على موروثها اليهودي الذي أتت به رغم أنه مختلف عن موروث الجماعات اليهودية الأخرى. وتجربة الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية مثال جيد على ذلك، فكل جماعة تحافظ على تراثها بتعصُّب شديد وهو تراث ألماني بالنسبة للألمان وسوري حلبي بالنسبة ليهود حلب وسوري دمشقي بالنسبة ليهود دمشق! ومهما يكن من أمر تمسُّك المهاجرين اليهود بموروثهم، فإن هذا الموروث عادةً ما يأخذ في الاختفاء كما حدث مع اليديشية التي لم يعد لها سوى صدى خافت في وعي المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة أو جنوب أفريقيا وفي رؤيتهم لأنفسهم وللواقع.

تـــــراث الجماعــــات اليهوديــــة الدينـــــي
Religious Heritage of the Jewish Communities
يذهب بعض الباحثين (في الغرب) إلى أن الإبداع الحضاري الأساسي لليهود يكمُن في تراثهم أو موروثهم أو رؤيتهم الدينية وفي الثقافة الدينية التي أشاعوها، أي أن عبقرية اليهود الثقافية عبقرية دينية. وهذه رؤية سادت أوربا في القرن التاسع عشر. ومع هذا، كان مفكرو أوربا حتى نهاية ذلك القرن يرون اليهودية باعتبارها مسيحية ناقصة. ومهما يكن من أمر، يمكننا القول بأن التراث الديني لأعضاء الجماعات اليهودية يتسم بقدر من الاستقلال غير موجود على مستوى التراث الحضاري،. فالتراث الديني له سماته وإشكالاته الخاصة، وأحياناً لغته.

ومع هذا، فلابد أن نلاحظ ما يلي:

1 ـ لم يكن التراث الديني اليهودي القديم مستقلاًّ تماماً بأي حال عن التقاليد والأفكار الدينية السائدة في الشرق الأدنى القديم، وخصوصاً في بلاد الرافدين، كما لا يمكن فصله عن الإرهاصات الدينية التوحيدية في مصر، وعبادة يهوه في سيناء. وفي الحقيقة، فإن تطوُّر اليهودية من عبادة يسرائيل شبه الوثنية، التي تخلو من أي مفهوم لليوم الآخر والثواب والعقاب، إلى اليهودية التي تُعَدُّ نسقاً دينياً توحيدياً متكاملاً، أو التي تحوي داخلها عنصراً توحيدياً قوياً، هو أكبر دليل على تأثير الحضارات المصرية والبابلية والآشورية، ثم الفارسية والهيلينية، في المعتقدات الدينية اليهودية. هذا لا يعني بطبيعة الحال تبنِّي نموذج تراكمي، فالتوحيد، تماماً مثل الشرك، أمر كامن في نفس الإنسان التي ألهمها الله فجورها وتقواها.

2 ـ يمكن الحديث بشكل ما عن موروث ديني يهودي عام حتى بداية العصور الوسطى. ولكن مع اختفاء السلطة المركزية اليهودية، ومع دخول اليهودية في فلكي حضارتين توحيديتين مختلفتين، ظهرت تقاليد دينية مختلفة متناقضة وموروثات دينية متباينة. كما ظهرت، في إثيوبيا والهند والصين، مراكز يهودية مختلفة بعيدة تماماً عن تأثير السلطات الحاخامية وتتأثر بالموروث الديني لكل بلد. ومع تصاعُد معدلات العلمنة الشاملة حدث تفجُّر كامل، وخصوصاً بعد عصر الإعتاق والانعتاق، إذ تصاعدت معدلات العلمنة والاندماج وازداد تأثر أعضاء الجماعات اليهودية كما تأثر الدين اليهودي بالسياقات الحضارية المحيطة. وأصبح من المستحيل الحديث عن موروث ديني يهودي واحد، بل لم يَعُد هناك أي تأثير للموروثات الدينية في الأجيال الجديدة. وقد سمينا هذه الظاهرة «الخاصية الجيولوجية لليهودية.«

3 ـ يُلاحَظ أن التراث التلمودي وكتب التفسيرات الضخمة (الشريعة الشفوية) التي تحاول أن تحتفظ لليهودية بهويتها، لم تكن معروفة عملياً للعامة من أعضاء الجماعات اليهودية. وكانت هذه الكتب، أو على الأقل الرؤى التي تتجسد من خلالها، تؤثر بغير شك في سلوك اليهودي. لكن هذا التأثير لم يكن يماثل، بأية حال، أثر التراث الحضاري لبلدهم الذي يتفاعلون معه ويبدعون من خلاله ويدورون في إطاره ويدركون العالم ككل من خلاله. وعلى كلٍّ، لا يمكن فصل الشريعة الشفوية ذاتها عن سياقها الحضاري، وقد ازداد اليهود جهلاً بهذه الكتب في العصر الحديث.

4 ـ يُلاحَظ أن جوانب كثيرة من الرسالات العامة للعهد القديم من تعظيم للخالق الواحد الذي لا تدركه الأبصار والمتجاوز للطبيعة والتاريخ المتعالي عليهما، والوصايا العشر، والروح العامة للأنبياء العبرانيين، والأمثال والمزامير، أصبحت جزءاً من التراث الديني المسيحي، أي أنها لم تَعُد مقصورة على اليهود حيث تداخل الموروثان اليهودي والمسيحي. ويمكن هنا أن نطرح ما يمكن تسميته «إشكالية فيلون»، فقد كان يهودياً منبت الصلة إلى حدٍّ كبير بالثقافة العبرية الآرامية، وحاول صبغ العقيدة اليهودية بصبغة إغريقية، ولكنه لم يترك أي أثر في تطور اليهودية اللاحق في حين تأثرت به العقيدة المسيحية أيما تأثر، فهل يُعَدُّ فيلون، إذن، جزءاً من الموروث المسيحي أم يُعَدُّ جزءاً من الموروث اليهودي؟

مــــيراث الجماعــــات اليهوديــــة الاقتصــادي
Economic Heritage of the Jewish Communities
»الميراث أو التراث أو الموروث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية»، عبارات تتواتر في كثير من الكتابات التي تتناول أعضاء الجماعات اليهودية. ومناقشة هذا الموضوع ستتطلب منا أن نخفض من مستوى تعميمنا قليلاً فنتحدث عن يهود العالم الغربي بمعزل عن بقية يهود العالم لأننا لو ضممنا كل يهود العالم في إطار واحد لأصبح التعميم، أياً كان مستواه، مستحيلاً. ولعل الدور الذي لعبه اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة هو الحقيقة الأساسية في هذا الميراث الاقتصادي، وقد اكتسبوا مجموعة من الخبرات حملوها معهم أينما هاجروا استمرت في تحديد نشاطاتهم الاقتصادية حتى بعد أن زالت الوظيفة. فعلى سبيل المثال يُلاحَظ أن ميراث أعضاء الجماعة اليهودية الاقتصادي في الغرب (باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة تقف دائماً على الهامش) يجعلهم يتخصصون في الصناعات القريبة من المستهلك ويبتعدون عن الصناعات الثقيلة، إذ أن عضو الجماعة الوسيطة كان لا يحب الاستثمار في المنقولات الثابتة (مثل الأرض والصناعات الثقيلة). وكان يفضل الاستثمار في الصناعات الخفيفة وفي المشاريع التجارية التي تتطلب قدراً عالياً من المهارة الإدارية، ونتج عن ذلك هامشية اليهود، أي أن نشاطاتهم الاقتصادية ليست في قلب العملية الإنتاجية.

وهذا الوضع يُفسِّر ظاهرة الرأسمالية المنبوذة التي تحدث عنها ماكس فيبر، وهي النشاط الرأسمالي في المجتمع الإقطاعي، الذي ليس له علاقة كبيرة بالرأسمالية الرشيدة (أي الرأسمالية الحديثة). وينتج عن ميراث اليهود الاقتصادي في العالم الغربي أنهم كثيراً ما يكونون عرضة للتأميم والتصفية، وربما يصلح تركُّزهم في صناعة النسيج والملابس مثلاً على ذلك. فقد قامت كوبا بتأميم هذه الصناعات، الأمر الذي نتج عنه تصفية الأساس الاقتصادي للوجود اليهودي في كوبا، فهاجروا منها. ويمكن القول بأن تركُّز بعض أعضاء الجماعات اليهودية في تجارة الرقيق الأبيض ـ قوادين وبغايا ـ هو نتيجة ميراثهم كجماعة وظيفية وسيطة. فالجماعة الوظيفية الوسيطة عادةً ما تتحرك بسرعة لسد حاجة نشأت في المجتمع. ويبدو أنه، في أواخر القرن التاسع عشر، نشأت في العالم الغربي حاجة للخدمات الجنسية خارج مؤسسة الزواج بسبب ضعف الأسرة وتصاعُد معدلات العلمنة.
وفي المجتمعات الاستيطانية مثل أمريكا اللاتينية كان الأمر أكثر حدة حيث كان عدد الإناث أقل بكثير من عدد الذكور. وتزامن ذلك مع ضعف التجارة اليهودية الصغيرة ودور اليهود كباعة متجولين. ومن ثم، تحولت أعداد كبيرة من اليهود إلى التجارة الجديدة. ومما يجدر ذكره أن ميراث المهاجرين اليهود الاقتصادي، شأنه شأن الميراث اللغوي والثقافي والديني، يؤثر بشكل واضح في الجيل الأول ثم يفقد فعاليته بالتدريج إلى أن يفقدها كلها تقريباً بعد جيلين أو ثلاثة.

ولكن هناك جانباً مهماً في الميراث الوظيفي ليهود العالم الغربي حدَّد بشكل جوهري طبيعة وجودهم في القرن العشرين، وهو رؤية الغرب لهم كمادة استيطانية نافعة، وتوظيفهم في هذا المجال. ولعل أهم تجارب الجماعات اليهودية مع الاستيطان هي تجربة يهود بولندا (يهود أوكرانيا على وجه التحديد) مع نظام الأرندا إذ كان اليهود يُشكِّلون عنصراً استيطانياً مالياً. ومما يَجدُر ذكره أن يهود العالم الغربي كافة في العصر الحديث من نسل يهود بولندا. ومما لا شك فيه أن هذا الجانب من الموروث الاقتصادي اليهودي في الغرب هو الذي رشحهم للعب دور الجيب الاستيطاني في الغرب والشرق والذي أخذ شكل الدولة الصهيونية الوظيفية التي حوَّلت عدة ملايين من يهود العالم إلى جماعة استيطانية قتالية.

الموقف الصهيوني من تراث أعضاء الجماعات اليهودية والتناقض بين القول والفعل في إسرائيل والعالم
Zionist Attitude to the Heritage of the Jewish Communities and the Contradictions between Theory and Practice in Israel and the World
تنطلق الصهيونية من افتراض وجود ثقافة يهودية مستقلة وتراث يهودي مستقل، بل تجعلهما من ركائزها الأساسية. والصهيونية في هذا وليدة العصر الإمبريالي الغربي الذي ظهرت فيه فكرة الشعب العضوي (فولك) ذي الثقافة العضوية التي تُعبِّر عن هويته. وهذه الثقافة العضوية يفترض فيها أنها ذات امتداد في الماضي (أي ذات تراث)، ويجب أن تكون ذات امتداد في المستقبل. ومن ثم، دعا الصهاينة إلى بعث الثقافة العبرية واللغة العبرية تعبيراً عن كونهم شعباً عضوياً. وازدادت هذه الدعوة قوة بعد أن انضم إلى صفوفها يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) من دعاة الصهيونية الثقافية الذين كانوا ينادون بأن اليهودية هي بالدرجة الأولى هوية إثنية ذات تراث ثقافي مستقل وشخصية ثقافية مستقلة ولغة مستقلة (العبرية). واكتسبت الدعوة للتراث ركيزة دينية داخل اليهودية المحافظة التي خلعت صفة الإطلاق على الشعب العضوي بحيث حل محل الخالق، فالتراث هو محور اليهودية المحافظـة، ويكـاد يصبح الركيزة النهائية والنقطة المرجعية للنسـق الفكري. وفي اليهودية التجديدية، يصبح التراث، دون مواربة أو حرج، مصدر الإطلاق وموضع القداسة.

وقد عارضت ثلاثة اتجاهات يهودية هذا المفهوم:

1 ـ اليهود المتدينون: وهؤلاء يؤمنون بأن اليهودية ليست مجرد تراث ثقافي وإنما هي انتماء ديني، وبأن اللغة العبرية لغة مقدَّسة (بالعبرية: ليشون هاقدوش) لا يصح استخدامها في الحياة اليومية أو في شئون الدنيا.

2 ـ اليهود الاندماجيون: وكانوا يتركزون أساساً في فرنسا وإنجلترا وألمانيا (أي في غرب أوربا)، وبعد ذلك في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الاستيطانية (باستثناء إسرائيل)، وهؤلاء يرون أن اليهود يكتسبون هويتهم الثقافية من الثقافات القومية المختلفة التي يتفق وجودهم فيها. وقد استبعد معظم هؤلاء كل الإشارات القومية والمُصطلَحات العبرية حتى من الصلوات اليهودية ذاتها.

3 ـ دعاة الثقافة اليديشية. وكانوا مركزين في شرق أوربا التي كانت تضم أغلبية يهود العالم آنذاك (في روسيا وبولندا أساساً). وكان دعاة هذا التيار يرون أن يهود شرق أوربا من يهود اليديشية يشكلون جماعة بشرية ذات شخصية ثقافية قومية مستقلة، ولكن هذه الشخصية ليست يهودية بشكل عام وإنما هي شرق أوربية تتحدث وتفكر وتكتب باليديشية وليس لها أية علاقة بالعبرية (ولذا، يمكن إطلاق اصطلاح «القومية اليديشية» عليها). وقد كان حزب البوند أكبر تنظيم اشتراكي في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر يضم أعضاء الطبقة العاملة اليهودية في شرق أوربا من أهم المدافعين عن هذا الاتجاه.

واحتدم الصراع بين ممثلي هذه التيارات، ولكن كان من المحتم أن ينتصر التيار الصهيوني بين الجماعات اليهودية، وذلك لسبب بسيط وهو أن كلاًّ من دعاة اليديشية والاندماج لا يؤمنون بضرورة التوجه إلى الجماعات اليهودية كافة، فكلاهما ينكر أساساً وجود ثقافة يهودية عالمية مستقلة ويعترف بانتماء أعضاء الجماعات إلى تشكيلات حضارية قومية مختلفة. أما التيار الديني المناوئ للدعوة الصهيونية، وهو تيار عالمي بمعنى أنه يرى أن اليهودية انتماء ديني (مثل الإسلام والمسيحية) لا تحده الحدود القومية، فقد انحسر بالتدريج وتحوَّل إلى جيب صغير معارض بسبب تزايُد معدلات العلمنة في الغرب. هذا إلى جانب صهينة الدين اليهودي ذاته، أي فرض الأطروحات الصهيونية عليه.

وقد تم الاستيطان الصهيوني تحت راية الإمبريالية الغربية ومن خلال ديباجات الثقافة اليهودية العالمية العبرية الوهمية. وكان المستوطنون الأوائل يرفضون أن يُسمَّوا «اليهود»، إذ كانوا يعتبرون أنفسهم عبرانيين يهدفون إلى إنشاء دولة عبرية أو عبرانية تقطع علاقتها تماماً بالتراث اليهودي باعتباره تراث المنفى. وظل هذا الوضع قائماً حتى منتصف الثلاثينيات، ثم تم تبنِّي مُصطلَح «الدولة اليهودية» بسبب إمكاناته التعبوية الواضحة. ولكن، بعد إنشاء الدولة، لا تزال قضية الثقافة اليهودية تلاحق الصهاينة داخل المستوطَن الصهيوني وخارجه. فكل مهاجر صهيوني يستوطن فلسطين يحضر معه من وطنه الأصلي ثقافته الحقيقية التي تعلمها ونشأ عليها، وتراثه الذي تغلغل في وجدانه وفي عقيدته الدينية، بحيث تحوَّلت إسرائيل إلى ساحة صراع بين هذه الحضارات المختلفة، وظهرت الطبيعة الجيولوجية للهوية اليهودية. وقد تفاقم هذا الوضع، وبحدة، حينما وصلت مؤخراً أعداد كبيرة من إثيوبيا من يهود الفلاشاه الذين يتحدثون الأمهرية (لغة معظم أهل إثيوبيا) ويصلون باللغة الجعزية (لغة الكنيسة القبطية هناك). وتذكر إحدى الصحف الإسرائيلية أن معلقاً إذاعياً إسرائيلياً سأل أحد المهاجرين عن اللغة التي يتحدث بها، ويبدو أنه لم يكن قد سمع عنها قط من قبل، فلقد طلب إليه أن يكرر الإجابة ثلاث مرات قبل أن يستوعب كلمة «أمهرية»، ثم طلب إليه أن يشرح معنى الكلمة!

ولكن الصراع الأكبر هو الصراع الدائر بين ثقافة مؤسسي الدولة من الإشكناز من جهة، وثقافة السفارد (من المتحدثين باللادينو) وثقافة يهود العالم العربي من جهة أخرى. فالثقافة المهيمنة في المُستوطَن الصهيوني والتي تسم المؤسسات الثقافية في إسرائيل بميسمها هي ثقافة ذات طابع إشكنازي. أما ثقافة السفارد، فقد استُبعدت قدر المستطاع، فلا تذكر الكتب المدرسية شيئاً عن إنجازات العرب اليهود داخل التشكيل الحضاري العربي، ولا عن إسهامات السفارد داخل تشكيل البحر الأبيض المتوسط بشكل عام. ورغم أن اليهود السفارد والعرب يشكلون الآن أكثر من نصف سكان التجمع الصهيوني، فإن التوجه العام لا يزال إشكنازياً غربياً.

ورغم زعم الصهاينة أن الثقافة اليهودية مستقلة عن الثقافات الأخرى، فإنهم لا يكفون عن تأكيد أن إسرائيل هي امتداد للحضارة الغربية وأنها لا تنتمي إلى الشرق الأوسط إلا بمعنى جغرافي. بل إن المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون يرى أن الثقافة اليهودية بأسرها إنما هي ثقافة غربية، وهو أمر يصعب قبوله من جانب يهود بني إسرائيل في الهند أو يهود الفلاشاه الذين انقطعت علاقتهم بالعالم الخارجي منذ مئات السنين.

ويرى بعض دارسي المُستوطَن الصهيوني أن ثمة ثقافة جديدة متميِّزة آخذة في الظهور هناك وعاؤها اللغة العبرية الجديدة، وأن هذه الثقافة تتخطى الانقسامات القديمة وتتجاوز الثقافات المختلفة التي حملها المهاجرون معهم، فهي ثقافة تعبِّر عن وضع المستوطنين الإسرائيليين. ورغم أن مثل هذه الثقافة الجديدة لا تزال في طور التكوين، باعتبار أن الاختلافات والانقسامات الثقافية لا تزال واضحة، فإن بإمكان هذه الثقافة، من الناحية النظرية والمنطقية إن لم يكن من الناحية الفعلية أيضاً، أن تظهر وتكتمل معالمها بمرور الزمن. ومع هذا، يمكن أن نضيف التحفظات التالية:

1 ـ هذه الثقافة الجديدة (ثقافة الصابرا)، أي ثقافة الإسرائيليين المولودين على أرض فلسطين، ستكون ذات صبغة إشكنازية واضحة، وذلك نظراً لاستبعاد اليهود السفارد والعرب من مؤسسات صنع القرّار، ذلك لأن صورة الذات في إسرائيل إشكنازية، ولأن أجهزة الإعلام يديرها أسـاساً إشـكناز ينظرون إلى العالم بعيون إشكنازية، وفي النهاية، نظراً لأن الأشكال الأولى لهذه الثقافة تمت صياغتها في غياب السفارد واليهود العرب.

2 ـ حينما تكتمل هذه الثقافة بأشكالها المختلفة، لن تكون «ثقافة يهودية» وإنما ستكون «ثقافة إسرائيلية» تُعبِّر عن تجربة المستوطنين الصهاينة في فلسطين، ولن تكون ذات علاقة كبيرة بثقافات أعضاء الجماعات، إذ سيظل هؤلاء داخل تشكيلاتهم الثقافية المختلفة يتفاعلون معها ويؤثرون فيها ويتأثرون بها. ومن المعروف أن أعضاء جيل الصابرا لا يكنون كثيراً من مشاعر الاحترام والمودة لأعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين الذين تصفهم الأدبيات الصهيونية بأنهم شـخصيات مريضـة هامشـية خانعـة قابلة لحالة النفي كحالة نهائية. وقد حدا هذا بعالم الاجتماع الفرنسي اليهودي جورج فريدمان إلى أن يصف الإسرائيليين بأنهم « أغيار يتحدثون العبرية »، أي أن مواقفهم ورؤاهم لا تختلف كثيرا عن مواقف ورؤى غير اليهود إلا في الوعاء اللغوي. وقد أُعلن مؤخراً أنه سيُكَّرس شهراً في كل عام يُسمَّى «شهر التراث اليهودي» ليتعلم الإسرائيليون هذا التراث بعدما اكتُشف جهلهم العميق به.

3 ـ ولكن، حتى الوعاء اللغوي، أي العبرية التي ارتبطت دائماً بأعضاء الجماعات اليهودية من الناحية الدينية وبأعضاء المُستوطَن في نشاطات حياتهم كافة، بدأت تحيط به المشاكل. فقد كتب مواطن عربي من إسرائيل (أنطون شماس) رواية بالعبرية تُسمَّى آرابيسك أثنى عليها الناقد الإسرائيلي يائيل لوتان. وعبَّر الروائي الإسرائيلي يهوشاوا عن إعجابه بها، وشبَّه كاتبها بالروائي الروسي نابوكوف الذي يكتب بالإنجليزية. ويبدو أن الرواية باعتبارها عملاً فنياً جيداً ستفرض نفسها على الأدب العبري، ولكن كاتبها عربي فلسطيني غير يهودي، أي شخص «لا يحمل عبء الوعي اليهودي»، وليس «عضواً في القبيلة اليهودية»، على حد قول لوتان. أي أن العبرية نفسها، كوعاء يهودي، قد انكسر على يد هذا الروائي العربي. ومن قبل، كتبت الشاعـرة الروسـية (المسـيحية) اليشيفا قصائد بالعبرية، وهي تُعَد من شعراء العبرية.

هذا هو وضع «الثقافة اليهودية» بالنسبة للمستوطن الصهيوني. أما بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فمن الممكن تقسيمهم إلى قسمين أساسيين: أعضاء الجماعات اليهودية ممن احتفظوا بثقافتهم المحلية (وعلى رأسهم يهود اليديشية)، ويهود العالم الغربي المندمجين حضارياً في مجتمعاتهم وبقية اليهود في العالم. ولنبدأ بالقسم الأول. أسهم النازيون وكذلك الحرب العالمية الثانية في تصفية المراكز السكانية اليهودية في بولندا (وغيرها) والتي كانت تزدهر فيها الثقافة اليديشية. ويُلاحَظ كذلك أن اليديشية آخذة في الضمور في روسيا وأوكرانيا، رغم اعتراف الاتحاد السوفيتي بها كلغة قومية، وذلك بسبب معدلات الاندماج السريع وإحجام أعضاء الجماعة اليهودية عن الهجرة إلى مقاطعـة بيروبيجان التي أعلنت أن لغتها القوميـة هي اليديشية، وفي نهاية الأمر بسبب إحساسهم بأن هذه اللغة لا مستقبل لها (ولذا، فإنهم لا يشجعون أولادهم على تعلُّمها). والوضع نفسه يسري على الولايات المتحدة حيث حمل إليها المهاجرون اليهود اليديشية. فالصحف والجرائد اليديشية آخذة في الانقرّاض ولم يبق منها سوى صحيفة واحدة ومجلة أو مجلتين يتناقص عدد قرّائها. كما أن معهد الدراسات اليديشية (ييفو) في نيويورك يعاني من أزمة مالية دائمة لا يخرجه منها سوى معونات الحكومة الأمريكية. ويعود هذا إلى أن أبناء المهاجرين يفهمون اليديشية ولكنهم لا يتحدثونها في العادة. أما أبناء الجيل الثالث فهم ينسونها تماماً ولا يبقى منها سوى ذكرى، إذ أن الجميع يود الاندماج بسرعة في المجتمع الجديد ويود تحقيق حراك اجتــماعي أهم شـروطه، في مجـتمع تعـاقدي مثل المجـتمع الأمريكي، هو تملُّك ناصية اللغة مثل أهلها. وأعضاء الجماعة اليهودية لا يختلفون في هذا عن بقية جماعات المهاجرين (الإيطاليين أو البولنديين أو الألمان أو الروس) وإن كان من الملاحَظ أنهم كانوا من أوائل الجماعات المهاجرة التي فقدت اللغة التي أحضرتها معها.

وغني عن الذكر أن الثقافات اليهودية المحلية الأخرى قد اختفت هـي الأخرى. فاللادينو (الرطانة التي يتحدث بها السـفارد) اختفت تماماً، كما أن أية جيوب ثقافية أخرى انتهت بتصفية الجماعات اليهودية في الهند وإثيوبيا وفي كل أرجاء العالم العربي الإسلامي. ولا شك في أن الحركة الصهيونية حاربت بلا هـوادة، قبل بعد إنشــاء الدولة، ضد اليديشية (الوعاء الأساسي لثقافة يهود شرق أوربا) في مختلف أنحاء العالم وضد كل لهجات وثقافات الجماعات اليهودية. ولكن الإنصاف يتطلب منا أن نقرر أنه رغم شراسة الهجمة الصهيونية ضد الثقافة اليديشية وغيرها من الثقافات اليهودية المحلية، ورغم أن هذه الهجمة ساهمت ولا شك في سرعة ضمور واختفاء هذه الثقافة، إلا أن ظاهرة الاختفاء ذاتها لا يمكن تفسيرها إلا على أساس حركيات المجتمعات الحديثة التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية في كنفها، وهي حركيات تقضي على مختلف الخصوصيات الدينية والإثنية، أو على الأقل تهِّمشها.

أما يهود الغرب المندمجون، فقد تبنَّت الصهوينية تجاههم إستراتيجية مختلفة بسبب طبيعة العلاقة الخاصة مع حكومات الدول الغربية التي لا يمكن اتهامها بالاضطهاد والإبادة وبسبب حاجة الصهيونية إلى يهود الغرب، وخصوصاً يهود الولايات المتحدة باعتبارهم عنصر ضغط سياسي ودعم مالي. وأخذت هذه الإستراتيجية شكل محاصرة إعلامية تؤكد أطروحة الهـوية اليهـودية والثقافـة اليهـودية المستقلة، ومهاجمة كل كاتب أو مؤلف يهودي يحاول أن يُعبِّر عن هويته القومية المتعينة كأمريكي أو إنجليزي أو فرنسي، باعتبار أنه يتسم بالجبن، وأنه منقسم على نفسه. كما تأخذ هذه الحملة شكل تأكيد أية جوانب يهودية كامنة أو واضحة في كتابات أي مؤلف يهودي. وقد أنكر شـاجال ذات مرة، في مجـلة تايم، أن رسـومه يهودية بالمعنى العام للكلمة، وأصر على هويته الروسية الفرنسية، فانهالت عليه عشرات الخطـابات تؤكد يهوديته، مع أن من المعـروف أن اليهودية تُحرِّم التصوير، وأن الفنون التشكيلية لم تزدهر بين أعضاء الجماعات اليهودية عبر تواريخهم إلا في داخل التشكيل الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر بعد علمنة اليهود وبعد اندماجهم في الحضارة الغربية الحديثة. وتُنظَّم حملات شرسة ضد كاتب أمريكي، مثل فيليب روث، تتهمه بأنه يعامل هويته اليهودية باستخفاف شديد، بل يخضعها للنقد والتمحيص والتشريح (كما يفعل الكُتَّاب الأمريكيون مع كل شيء). وقد وصف الكاتب الأمريكي اليهودي سول بلو نفسه بأنه أمريكي وفيٌّ لتجربته ولثقافته الأمريكية، كما ذكر أن لغته هي الإنجليزية وتربيته أمريكية وأنه لا يمكن أن يرفض ستين عاماً من حياته في الولايات المتحدة. وأضاف قائلاً: « إن اصطلاح «كاتب يهودي» هو اصطلاح سوقي ومُبتذَل من الناحية الفكرية، ويفرض قيوداً ضيقة دون جدوى، ولا فائدة منه على الإطلاق ». وتعبِّر روايات بلو عن هذه التجربة الأمريكية (ولكنه، مع هذا، كان عليه أن يكتب كتيباً عنصرياً صهيونياً عن الصراع العربي الإسرائيلي عنوانه إلى القدس مع العودة وذلك قبل أن يحصل على جائزة نوبل في الآداب).

وقد نجح الصهاينة في الولايات المتحدة في أن يضعوا مفهوماً للثقافة اليهودية داخل إطار أمريكي. فالعقد الاجتماعي يسمح للمواطن الأمريكي أن يعتز بتراثه الإثني مادام ذلك لا يتناقض مع انتمائه الأمريكي أو التزامه الوطني. فالأمريكي من أصل إيطالي يعتز بإثنيته الإيطالية، ويقيم الاحتفالات الراقصة القومية، وقد يطلق أسماء إيطالية على أولاده، ويتناول الأطعمة الإيطالية بحماس قومي زائد. وقد نمَّى الصهاينة في يهود أمريكا، بغض النظر عن أوطانهم الأصلية، الإحساس بأن وطنهم القومي الأصلي هو إسرائيل وأن ثقافتهم هي الثقافة اليهودية. ولكن إذا نظرنا إلى مضمون هذه الثقافة اليهودية بين اليهود العاديين، فإننا نجد أنها تتكون أولاً من ذكريات الإبادة النازية، ثم تأخذ شكل تعلُّم الرقص الشعبي الإسرائيلي الذي هو في واقع الأمر رقص شعبي من شرق أوربا، والاحتفال ببعض الأعياد اليهودية (وليس كلها) وعلى الطريقة الأمريكية، والإبقاء على بعض الشعائر الدينية بعد تفريغها من أي مضمون أخلاقي، وتناول بعض الأطعمة اليهودية التي أحضرها أعضاء الجماعة اليهودية من بولندا (تماماً كما يتناول الأمريكيين، من اليهود وغير اليهود، الفلافل المصرية باعتبارها طعاماً إسرائيلياً!).

وكما قال أحد المفكرين الأمريكيين اليهود، فإن هؤلاء اليهود الأمريكيين (بثقافتهم اليهودية المزعومة) لا يعرفون إلا أقل القليل عن دينهم اليهودي، ولم يسمعوا قط بموسى بن ميمون (العربي). وهم، بلا شك، لم يسمعوا بالحاخام راشي (الفرنسي). وكثيرون منهم لا يعرفون أن التلمود يتكون من عدة أجزاء، لأن أحدهم لم ير نسخة واحدة منه طيلة حياته، وكل نصيبهم من العبرية هو بضع كلمات يتفوهونها بصعوبة بالغة، على طريقة تيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897). ومن المؤكد أنهم هم وأولادهم يعرفون والت ويتمان شاعر الديموقرّاطية الأمريكية، ومارك توين المؤلف الأمريكي، وأسماء رؤساء الولايات المتحدة، والتاريخ الذي نشبت فيه الحرب الأهلية الأمريكية، والبرامج السياسية للأحزاب الأمريكية. ولا شك في أنهم يرتدون البنطلون الجينز والقمصان المعروفة باسم «تي شيرت T.Shirt»، ويلتهمون الهامبورجر وفطيرة التفاح الأمريكية الشهيرة بشراهة أمريكية معهودة.

وربما كان اليهـود الأمريكيون محقـين في جهلهم بموسـى بن ميمون، فهذا المفكر جزء من التشكيل الثقافي العربي، وهو ليس ذا أهمية ثقافية عالمية. أما إسهامه في صياغة الأطروحات الأساسية أو أصول الدين اليهودي، فهو أمر لا يعنيهم لأنهم علمانيون كبقية المجتمع الأمريكي وأغلبيتهم العظمى لا أدرية. وإن كانت لدى أحد منهم بقايا انتماء ديني، فهي تأخذ شكل صياغة مخفَّفة للغاية، مثل اليهودية الإصلاحية، ولا يشغل هذا الانتماء سوى حيِّز صغير من وجدانه. ويمكننا أن نقول إن اليهودي الأمريكي، رغم كل الادعاءات الصهيونية، أمريكي عادي غارق حتى أذنيه في الثقافة الأمريكية بكل محاسنها ومساوئها. وهو حينما يدافع عن إسرائيل، فإنه لا يختلف كثيراً عن أي مواطن أمريكي آخر إلا في نبرته العالية. فإسرائيل هي الحليف الإستراتيجي لبلده. وكما قال القاضي الأمريكي والزعيم الصهيوني برانديز، فإن صهيونية اليهودي الأمريكي تنبع من أمريكيته. ولذا، فإننا نجد أن هذا اليهودي الأمريكي لا يمانع في حمل لواء الثقافة اليهودية الوهمية التي لا يعرف عنها شيئاً. وهو يفعل ذلك لأن الأمر لا يكلفه شيئاً، ولا يتناقض البتة مع ولاءاته القومية الأمريكية الحقة.