جيكـوب إبشتاين (1880-1959(
Jacob Epestien
نحَّات بريطاني يهودي من أهم النحاتين في القرن العشرين. وُلد في نيويورك في الحي الشرقي (إيست سايد). بدأ حياته الفنية حين طلب منه المؤلف (غير اليهودي) هتشينس هابجود أن يرسم صوراً لكتاب كان يُعدُّه عن الحي الشرقي يُسمَّى روح الجيتو، وكانت اللوحات التي أعدها إبشتاين على مستوى رفيع. ونجح في الاستمرار في دراسته (في باريس) من عائد هذا الكتاب، ومنها ذهب إلى لندن عام 1905 حيث استقر فيها بقية حياته، وأصبح من طلائع الحداثيين في عالم الرسم، كما أصبح عضواً في جماعة الدوامة (بالإنجليزية: فورتيسيتس Vorticists) بحماسها النيتشوي الفائق لحركيات عالم الآلة.
تأثر إبشتاين أيضاً بالنحت القديم وفنون ما قبل التاريخ والنحت الإفريقي والبولونيزي وفنون الأمريكتين قبل وصول كولومبوس. وكما أن جذوره الفنية متنوعة، نجد أن مصطلحه الفني أيضاً متميِّز ومرَّ بعدة مراحل، ففي بداية حياته الفنية أعد إبشتاين نحتاً بارزاً بعنوان « مولد الطاقة » لتزيين واجهة رابطة الطب في بريطانيا، واستخدم فيه أسلوباً طبيعياً كلاسيكياً مباشراً. وكان النحت يتضمن شخصيات عارية تم إبراز أعضائها الجنسية بشكل واضح الأمر الذي سبَّب احتجاج الكثيرين.
وفي عام 1913، أعد إبشتاين تمثالاً تجريدياً يُسمَّى « الحفر في الصخر» وهو تمثال يمجِّد قوة الآلة. وبعد تجربتين أخريين (فينوس Iوفينوس II) ترك إبشتاين التجريد لأنه (على حد قوله) لا فائدة منه في حد ذاته، ولكنه مع هذا يساعد الفنان على أن يعمِّق إحساسه بالشكل ويطوِّره. أما مقبرة أوسكار وايلد في باريس فكانت مختلفة تماماً، فهي شكل مركب له وجه إنسان وأجنحة تجعله يشبه الثيران المجنحة في النحت الآشوري، وقد تُوِّج وجهه بتاج يحمل الخطايا السبع المميتة.
وبعد الحرب العالمية الأولى، تبنَّى إبشتاين الأسلوب التعبيري الأمر الذي أثار مرة أخرى ضيق الناس بسبب تشويهه لكثير من الأشكال وتناوله لكثير من الموضوعات الدينية والمقدسة بطريقة كانوا يرون أنها فظَّة وبدائية. وكان هو يرى أن هذه هي الطريقة المُثلى للتعبير عن القوى الكونية، فتمثال « التكوين » (1931) هو صورة امرأة عارية بدائية حامل، فهي ليست فينوس اليونانية ولا ملكة من ملكات الفراعنة، فبطنها ممتلئة وشفتاها غليظتان ووجهها مستطيل يشبه الأقنعة الإفريقية وعيونها متجهة نحو اللاشيء، وأعضاء التأنيث، رغم محاولة تجريدها، واضحة، وفخذاها كتلتان سميكتان.
أما تمثال « آدم» فهو كتلة متماسكة رأسها غير واضح محني إلى الخلف واليدان مرفوعتان إلى أعلى ويشكلان جزءاً من الصدر والقدمان غليظتان والأعضاء التناسلية مرة أخرى واضحة. هذا هو الإنسان الكوني، الآدم قدمون.
أما « جيكوب والملاك » (1940 ـ 1941) فتُذكِّرنا بموضوع صراع هرقل مع أنتايوس أو صراع بروميثوس مع النسر. وهكذا تتحوَّل الرموز الدينية اليهودية في يدي إبشتاين إلى رموز وثنية من خلال لغة التأيقن الحلولي (ولم يكن تناول إبشتاين للموضوعات المسيحية يختلف كثيراً عن تناوله لموضوعات العهد القديم).
وقد كرَّس إبشتاين طاقته الفنية بعض الوقت لرسم صُوَر لشخصيات على هيئة نحت بارز لتماثيل نصفية تُصَب في البرونز (وهو يُعَدُّ من أهم الفنانين في هذا المضمار). ومن أهم خصائص هذه الصور/التماثيل البرونزية أن سطحها خشن ليوحي بالقالب الفخاري الذي صُبَّ فيه البرونز. ورغم أن هذه الصور الشخصية البرونزية لم تكن تتسم بالحيوية نفسها التي تتسم بها تماثيله الأولى، إلا أنها تبيِّن مقدرة إبشتاين على الغوص في ثنايا النفس البشرية والإحساس بها والتعبير عنها، من خلال قَدْر من المبالغة المقبولة مع تجاهل نسبي للملامح الجسمانية المباشرة. وهو بذلك يتبع تقاليد الصورة الشخصية في عصر النهضة في الغرب، حيث يقوم الفنان بتصوير الشخصية لا الوجه. وقد رسم صوراً من هذا النوع لبرناردشو وجوزيف كونراد وأينشتاين.
وفي نهاية حياته، تلقَّى إبشتاين عدداً من التكليفات المهمة من الكنائس المسيحية، ومن أهم أعماله تمثال « أليعازر» ويوجد في كنيسة نيوكوليدج في أكسفورد (1947) و« العذراء والطفل » (1953) في ميدان كافنـدش في لنـدن، و« المسـيح في جلاله » (1957) في كاتدرائية لانداف، و« القديس ميخائيل والشيطان » (1959) في كاتدرائية كوفنتري.
ويُعلـِّق دليل بلاكويل للثقافة اليهودية على هذا بقوله: « لا شك أنه لو قُدِّر للمعابد اليهودية أن تستفيد من موهبته، لكان هذا من أكبر مصادر غبطته » وهي جملة تهدف إلى اختلاق بُعد يهودي حيث لا يوجد مثل هذا البُعد. ولكن هذا البُعد ليس سوى تعبير عن أمل أو رغبة، لا علاقة له بمصادر إبشتاين الفنية ولا إمكانياته ولا الطريقة التي تحققت بها هذه الإمكانيات، ولا حتى تأثيره في غيره من الفنانين (ترك إبشتاين أثراً عميقاً في إريك جيل وهنري مور)، فإبشتاين لم يكن يهودياً متديناً أو إثنياً مع أن تجربته في الحي الشرقي تركت أثراً عميقاً فيه. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، تقبَّل المجتمع البريطاني إبشتاين ومُنح لقب «سير».
أماديـــو موديليـــاني(1884-1920)
Amadeo Modigliani
رسَّام ونحَّات إيطالي يهودي، وشقيق فيتوريو موديلياني الزعيم الاشتراكي الإيطالي. وُلد لأسرة يهودية سفاردية، وكان عليلاً منذ طفولته. درس الفن في فلورنسة والبندقية قبل أن يستقر في باريس عام 1906 حيث انضم لرواد الحداثة.
قام جاك لبشيتس بتقديم حاييم سوتن له وأصبحا صديقين حميمين. وكانت حياته الشخصية عاصفة، إذ أدمن الكحوليات والمخدرات وكان وضعه المالي غير مستقر بشكل دائم، وأصيب في نهاية الأمر بالسل ومات في إحدى المستشفيات الخيرية (وانتحرت عشيقته التي كان يعيش معها في اليوم التالي).
يقف فن موديلياني على الطرف النقيض من حياته، فقد كان فناً خصباً (20 تمثالاً ـ 500 لوحة ـ آلاف اللوحات بالألوان المائية)، يتسم بالحسيَّة يسري فيها حزن هادئ وقَدْر من الصفاء. ويتضح هذا أكثر ما يتضح في صور الأشخاص (البورتريهات) التي رسمها. وفي البورتريه النماذجـي عنـد موديلياني، يظهر رأس الشـخص أمـام خلفية غير محدَّدة، مائلاً قليلاً وفي حالة إعياء كامل وعزلة عما حوله وإحساس بالغربة، وأيدي الشخصيات، إن ظهرت، تكون متدلية منهكة. أما العيون، فهي عيون شاخصة لا ترى شيئاً وتُعبِّر عن فتور الهمة. وتتسم صور النساء عنده بأنها تشبه النبات الطويل الرأسي، والرقبة طويلة أسطوانية تربط الرأس بالجسد الذي يتسم بأكتاف عريضة.
ورغم تحرُّك موديلياني في أوساط رواد الحداثة الفنية، إلا أنه لم يتأثر بها كثيراً، وإن كان قد تأثَّر بمدرسة ما بعد الانطباعية (سيزان ـ جوجان ـ تولوز لوتراك). كما تأثَّر بفن عصر النهضة في الغرب، بخاصة البساطة الكلاسيكية للشكل. ومن المصادر الأخرى لفن موديلياني الفنون غير الغربية مثل النحت الإفريقي. ويظهر هذا في الوجوه المستطيلة لدى بعض نسائه التي تشبه الأقنعة البولينيزية أو الإفريقية. ولكن بعض النقاد يرون أن مثل هذه التشوهات مشتقة من التماثيل القوطية في العصور الوسطى المسيحية.
ولا يوجد أي أثر ليهودية موديلياني في فنه مع أنه كان دائماً معتزاً بإثنيته. وقد حاول بعض النقاد تفسير إحساسه العميق والمأساوي بالغربة على أساس يهوديته. ولكن هذا الإحساس بالغربة هو سمة عامة في الفن الحداثي ولا يوجد فارق في ذلك بين الفنانين اليهود والفنانين غير اليهود. ومصادر لغته الفنية إما مسيحية أو إفريقية أو بولينيزية.
مـارك شــاجال (1887-1985)
Marc Chagall
رسَّام روسي فرنسي، وُلد لأسرة حسيدية تقية (عائلة سيجال، ولكن شاجال غيَّر اسمه أو غيَّر طريقة نُطقه) في قرية فايتبسك في روسيا داخل منطقة الاستيطان، وهي القرية التي خلَّدها في أعماله والتي تشكِّل خلفية معظم هذه الأعمال. درس في عدة مدارس فنية في روسيا القيصرية، من بينها المدرسة الإمبراطورية لحماية الفنون ومدرسة سفانسيفا. ويُلاحَظ أن قراره بتعلُّم الرسم كان يُعَدُّ تحدياً صارماً للتقاليد الدينية اليهودية آنذاك.
انتقل إلى باريس عام 1910 حيث درس في عدة مدارس للفنون بشكل متقطِّع، ثم انتقل إلى لاروش. وبدأت تتحدَّد، في هذه المرحلة، ملامح فنه، إذ بدأت تظهر الألوان الفاقعة (متأثراً بالمدرسة الوحشية وجوجان) والمساحات الهندسية (متأثراً بالمدرسة التكعيبية)، لكن تكعيبيته لم تكن من النوع الهندسي الصارم، إذ أن المضمون يظل واضحاً والألوان تحتفظ بحيويتها على عكس التكعيبيين الذين ترجموا كل شيء إلى مكعبات وأشكال هندسية، بما في ذلك الأشكال منحنية الأضلاع، مع الابتعاد عن الألوان الطبيعية. كما بدأت تظهر موضوعات الطفولة، وعالم الأحلام المبهم والأشخاص الذين يطيرون في الهواء والرموز والوجوه والأجساد المقلوبة، وعالم الأساطير الذي يتحدَّى المنطق العملي المادي. كما تحدَّدت النغمة الأساسية لأعماله، وهي نغمة طفولية فلاحية تحاول أن تَنقُل عالم الباطن والأحلام وكأنه العالم الحقيقي الوحيد. وفي عام 1914، سافر شاجال إلى برلين لأول معرض منفرد له، ومن هناك سافر إلى قريته فايتبسك حيث اضطر إلى البقاء فيها بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1915، تزوج من بيلا روزنولد التي ظلت مصدر وحي له في فنه. وعُيِّن شـاجال قوميساراً للفنون في فايتبسك عام 1918. ولكن سرعان ما نشبت الخلافات بينه وبين الثورة، فانتقل هو وزوجته وابنته إلى موسكو عام 1920 حيث رسم عدة جداريات لمسارح الدولة التي تقدِّم مسرحيات يديشية، كما رسم جدارياته المشهورة لمسرحيات جوجول وتشيكوف.
ترك شاجال الاتحاد السوفيتي عام 1922، واستقر في باريس حيث انضم إلى جماعة الفنانين الروس اليهود المهاجرين فيما يُسمَّى «مدرسة باريس» أو «المدرسة اليهودية»، وكانت أعماله، في الفترة التي قضاها في روسيا، ذات طابع غنائي رقيق، وحسِّية إلى حدٍّ ما، ولكن أعماله بدأت في الثلاثينيات تأخذ شكلاً أكثر ظلمة بسبب الأحداث في أوربا، وقد استقر في الولايات المتحدة في الفترة من عام 1941 حتى عام 1948، ثم عاد واستقر في فرنسا، وعادت أعماله للغنائية القديمة. وبعد هذا التاريخ اتسع نطاق الموضوعات التي يتناولها والمواد والخامات التي يستخدمها، فرسم بألوان الماء والجواش والزيت والطباعة وأقام بعض التماثيل واستخدم السيراميك. ونفَّذ العديد من الأعمال بمعاونة الحرفيين، غير أن طفولته ظلت المصدر الأساسي لأعماله.
وعلاقة شاجال باليهودية مُركَّبة إلى أقصى حد، فهو لم ينكر قط أهـمية خلفيته اليديشـية، ولكنه صرَّح أكثر من مـرة بأنه ليس فناناً يهودياً، وإنما فنان يرسم لكل البشر. ولذا، فقد عارض شاجال محاولة بعض الفنانين اليهود المهاجرين (من روسيا إلى باريس) تأسيس مدرسة فنية يهودية. وعادةً ما كانت تصريحاته هذه تُقابَل باستهجان شديد من النقاد الفنيين اليهود. ولحسم القضية، يمكن العودة لأعمال شاجال ذاتها. فالمؤثرات الفنية في رسمه غربية، ولا يمكن فهمها إلا في إطار التطورات الفنية في العالم الغربي. بل نجد أنه، حتى على مستوى الموضوعات، يستخدم موضوعات وصوراً مسيحية، خصوصاً واقعة الصلب. ولعله، في هذا، تأثَّر بعمق بالمسيحية الأرثوذكسية التي تؤكد واقعة الصلب على حساب واقعة القيام، كما أنه يستخدم الصور المسيحية للتعبير عن الموضوعات اليهودية. فالمسيح المصلوب يصبح هو اليهودي المعذَّب. ولعل هذا يلقي ضوءاً على طريقة تناوله ليهوديته أو للموضوع اليهودي، فهو تناول لا يستبعد الأغيار، ولا يَسقُط في ثنائيات التفكير الحلولي الحادة، بل هو تناول يحوِّل اليهودي إلى نموذج إنساني يستطيع أي فرد أن يتعاطف معه لا أن يقف ضده. ولوحاته عن الزواج والحب تعبِّر عن احتفائه الشديد بهذه المواضيع الإنسانية. وقد أشار أحد النقاد إلى أن رسومات شاجال تشبه من بعض الوجوه الرسومات التركية أو الفارسية، وهو ما قد يشي بالأصول التركية (الخزرية) لفنه.
قام شاجال بتنفيذ الشبابيك الملونة (بالزجاج المعشق) لمعبد يهودي واحد (معبد مستشفى الهاداساه في القدس)، ولعدد كبير من الكنائس المسيحية (من بينها الكاتدرائية الكاثوليكية في متز، والكنيسة الكاثوليكية في آس في الألب الفرنسية، ونافذة ملونة ضخمة في الفاتيكان). ومن بين أعماله الأخرى، سقف أوبرا باريس، وجداريات دار الأوبرا التابعة للنكولن سنتر في نيويورك، وجدارية ولوحات قماشية وأرضية فسيفسائية للكنيست، ونافذة ملونة ضخمة في مبنى سكرتارية هيئة الأمم. وقد عاد شاجال إلى موسكو عام 1973 حيث قُدِّم له أول معرض منفرد. كما أُسِّس متحف لأعماله في جنوب فرنسا.
المفضلات