1 ـ فرويد يهودي غير يهودي:

حينما وُلد فرويد كانت اليهودية كعقيدة تفاقمت أزمتها، والجيتو كان قد تحطمت أسواره، وكان اليهود يندمجون بخطى سريعة متزايدة، ولذا تبخر وهم الخصوصية الإثنية اليهودية. وقد غيَّر سيجموند فرويد اسمه من «سيجسموند»، اسم الملك البولندي الذي دعا اليهود للاستيطان في بولندا وأحسن إليهم وأكرم وفادتهم، إلى «سيجموند» وهو اسم بطل نوردي (تماماً كما فعل هرتزل الذي كان له اسم عبري «بنيامين» وآخر أوروبي وهو «تيودور». أما ماكس «نوردو» فقد تَبنَّى اسمه النوردي بكل وضوح). وقد فكر فرويد في التنصر في إحدى مراحل حياته، شـأنه في هـذا شـأنه نصف يهود برلين، على سبيل المثال. فاليهود كانوا قد ابتعدوا تماماً عن عقائدهم الدينية وموروثاتهم الإثنية (التي أتوا بها من المجتمعات التي هاجروا منها)، وكان المثقفون بينهم قد ازدادوا ابتعاداً بعد انتشار مُثُل التنوير وتَزايُد معدلات الاندماج والعلم.

ومع هذا واكب عمليات العلمنة والدمج تزايد ملحوظ في حدة العنصرية والعداء لليهود وانتشار مفاهيم مثل النقاء العرْقي والشعب العضوي التي فرضت على اليهود تصنيفاً لم تَعُد له أية علاقة بواقعهم، الأمر الذي يدل على غباء العنصريين، وأنهم غير قادرين على قراءة الواقع. كل هذا نتجت عنه ظاهرة اليهودي غير اليهودي، فهو يهودي اسـماً، إما لأنه يتصـور ذلك أو لأن المجتمع فرض عليه هذا الاسم، ولكنه فعلاً ابن عصره ومجتمعه، بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات.

وقد عبَّر هذا الإبهام عن نفسه في كتابات فرويد مثل موسى والتوحيد. فموسى نبي اليهود هو في واقع الأمر من الأغيار، ورغم أنه أتى بالتوراة إلا أن التوراة هي في واقع الأمر عقيدة التوحيد المصرية.

وقد اختلط يهوه إله اليهود بآتون إله المصريين وهكذا. وهذه التهويمات هي في الواقع تعـبير عن محـاولة فرويـد أن يتعامل مع قضية « اليهودي غير اليهودي »، ولكنها طُرحت هنا على هيئة « غير اليهودي اليهودي » وهما شيء واحد. فكأن موسى هو فرويد غير اليهودي الذي فُرض عليه أن يكون يهودياً.

ويبدو أن فرويد لم يكن مدركاً لهذا الوضع على المستوى الواعي. وثمة تعبير مدهش عن هذا الإخفاق في الفهم في المقدمة التي كتبها فرويد للترجمة العبرية لكتاب الطوطم والتحريم. فقد أشار أحد أصدقائه إلى درجة ابتعاده عن « دين آبائه » بل عن كل دين آخر، وإلى أنه نبذ كل الخصائص المشتركة مع « قومه »، ثم سأله: « أي شيء تَبقَّى لك من اليهودية؟ » (وهو سؤال شديد الوجاهة، لم تتمكن الدولة الصهيونية حتى وقتنا هذا من الإجابة عليه: من اليهودي؟). وكان رد فرويد مبهماً إلى أقصى حد: "لم يبق لي الكثير منها، ولكن ما تَبقَّى على الأرجح هو الجوهر". ولكن يظل السؤال هو: ما هذا الجوهر اليهودي، الذي بقي بعد أن تساقط كل شيء آخر؟ لم يستطع فرويد الإجابة على هذا السؤال إذ أكد: "أنه يعجز عن تفسير هذا الجوهر"، وهي إجابة أقل ما توصف به أنها غريبة خصوصاً أنها صادرة عن مفكر جعل همه تفكيك كل ما هو إنساني وطوَّر آليات لفك شفرة الأحلام وزلات اللسان والنكت وتفسير أعماق الإنسان المظلمة، كيف يعجز مثل هذا المفكر عن فهم هذا الجوهر اليهودي (الذي كان الطاقة المحركة لفكره كما قال). لكـن فرويد تدارك الأمـر وقال: "ولكن اليوم سيجئ، دون ثمة ريب، حين يصبح ذلك [أي تفسير الجوهر اليهودي] ميسوراً للعقل العلمي".

2 ـ الحلولية اليهودية والحلولية العلمانية الشاملة:

لاحظ الناقد الروسي باختين حلولية فرويد حين أشار إلى المنظومة الفرويدية باعتبارها « واحدية روحية ». كما أشار بعض النقاد إلى النظرية الفرويدية بأنها النظرية « الجنسية الشاملة ». والواحدية هي الأرضية التي تلتقي عندها كل الحلوليات.

ولعل فرويد ذاته قد أدرك ذلك (بشكل غير واع). فحينما غيَّر اسمه من «سيجسموند» اختار اسم «سيجموند»، وسيجموند في الميثولوجيا النوردية هو ذلك الكائن البشري الذي تحدَّى الآلهة وهزمها، وهو معادل يسرائيل في التراث العبري، فيعقوب صارع الإله وهزمه فسُمِّي «يسرائيل». فكأن فرويد أدرك تَماثُل الأساطير الوثنية الحلولية، وحينما كان فرويد يُطوِّر منظومته اختار أسماء لاتينية مثل «إيجو» و«سوبر إيجو» و«إيد»، ويُقال إن كلمة «إيد» صدى لكلمة «ييد» حسب رأي بعض المفكرين، وهي ليست بعيدة عن كلمة «يسود» التي تكاد تكون مساوية «للبيدو».

وتتبدَّى حلولية فرويد وواحديته في ذلك التماثل المدهش بين المنظومة الفرويدية والمنظومة الغنوصية، والتي يمكن إيجاز بعض جوانبها فيما يلي:

أ ) كل من الغنوصية والفرويدية رؤية واحدية مغلقة ومنظومة حلولية تَرُد كل الظواهر إلى مبدأ واحد هو الأصل النوراني للإنسان في المنظومة الغنوصية، وهو اللبيدو في المنظومة الفرويدية.

ب) تنطلق كل من الغنوصية والفرويدية من نقطة تماسك عضوي كامل قد تكون صلبة أو سائلة، ولكنها تخلو من أية ثغرات أو حدود بين الأشياء، هي حالة البليروما الأولى في النظام الغنوصي، وهي الحالة المحيطية للطفل أو حالة الطبيعة حيث يلتصق الطفل بأمه تماماً. وتظل هذه اللحظة الأولى مسيطرة على الإنسان ويقضي حياته بمحاولة العودة إليها (تماماً كما يفعل الإنسان الروحاني في المنظومة الغنوصية).

جـ) كل من الغنوصية والفرويدية محاولة لتفسير الكون والإنسان والطبيعة والتاريخ من خلال مجموعة من الأساطير والصور المجازية، حيث نجد أن العلاقات السببية يُعبَّر عنها من خلال أحداث الأسطورة.

د ) تعود جاذبية كل من الغنوصية والفرويدية (في شكلها الشعبي الترخيصي) إلى أنهما يقدمان حلولاً واحدية بسيطة لكل المشاكل.

هـ) كل من المنظومة الغنوصية والفرويدية يُسقطان تماماً عنصر التاريخ والزمان والبنية فهما منظومتان كونيتان تتعاملان مع عناصر كونية متجاوزة للزمان والمكان وحدود الإنسان الفرد.

و ) يُلاحَظ أن كلاً من الغنوصية والفرويدية ينطلقان من صورة مجازية جنسية أساسية، ويلعب الجماع في النظام الغنوصي دوراً أساسياً، فالأيونات ثمرة الجماع الجنسي بين الإله الأب والأم. ويلعب الجماع دوراً مماثلاً في المنظومة الفرويدية. كما يُلاحَظ أن الأيونات في المنظومة الغنوصية تحمل أحياناً أسماء الأعضاء التناسلية، وهذا ليس بعيداً عن استخدام فرويد للأعضاء التناسلية كمقولات تحليلية تفسيرية.

ز ) يُلاحَظ أن الثنائية الجنسية مفهوم أساسي في كل من الغنوصية والفرويدية.

ح) الخلاص الغنوصي يتم من خلال المعرفة، معرفة الإنسان لذاته، والصيغة السحرية الشاملة التي يمكن من خلالها فك شفرة الكون ومعرفة اسم الإله الأعظم. والخلاص الفرويدي يتم أيضاً من خلال فك شفرة أحلام المريض ومعرفة سبب عصابه ومن خلال هذه المعرفة يمكنه أن يصل إلى الخلاص.

ط) لا يمكن أن يتم الخلاص والعودة إلى الأصل النوراني إلا من خلال خداع الأركون، حكام السماوات السبعة، الذين يمنعون الإنسان من العودة لأصله، والشيء نفسه يوجد في المنظومة الفرويدية. فعملية العلاج هي في جوهرها محاولة لمغافلة الرقيب حتى يُفصح المريض عن مكنونات نفسه ومن خلال فهمها يصل المريض إلى المعرفة التي ستيسر له سُبل الخلاص.

ي) لا توجد منظومة أخلاقية غنوصية، والأمر نفسه ينطبق على المنظـومة الفـرويدية. فهما متجــاوزتان للأخـلاق ولفكرة الخير والشر.

ك) لا يوجد مفهوم للخطيئة في كل من الغنوصية والفرويدية، فالشر خلل كوني والعصاب فشل في تسريب الطاقة الجنسية.

ل) ثمة ثنائية صلبة تسم النظام الغنوصي هي ثنائية الروحانيين والجسمانيين (السوبرمن والسبمن) وهي لا تختلف كثيراً عن ثنائية المفسر (النوراني) والمريض (الجسماني).

م ) يمكن أن نجد عناصر مختلفة أخرى مثل التشابه بين الإله الصانع وحالة الحضارة عند فرويد، فكلاهما معاد للإنسان، والتشابه بين سقوط الإنسان النوراني في المنظومة الغنوصية ثم عودته ومراحل حياة الإنسان في النظام الفرويدي (سقوطه وخوفه من الخصي وعودته وتصالحه مع الأب ـ سقوطه وعصابه وعودته من خلال العلاج). وقد لعب المفكرون اليهود دوراً أساسياً في كل من الغنوصية والفرويدية. كما أن موقف الغنوصية والفرويدية من اليهود ليس إيجابياً، فيهوه هو الإله الصانع في المنظومة الغنوصية، وقد بيَّنا موقف فرويد المبهم من اليهودية ويهوه.

وتجب الإشارة إلى أن الفرويدية غنوصية تشاؤمية، من النمط النيتشوي، وليست غنوصية تفاؤلية، من النمط الماركسي. فإذا كانت الماركسية تبدأ من حالة البليروما (الشيوعية البدائية) وتنتهي نهاية سعيدة في المجتمع الشيوعي، فإن الفرويدية تبدأ في حالة البليروما، ولكن العودة مستحيلة، فحالة الحضارة، بكل ما تؤدي إليه من عصاب، هي مصير المجتمع.

ولنا أن نلاحظ أن المنظومة القبَّالية اليهودية التي تأثر بها فرويد هي الأخرى منظومة غنوصية في عناصرها الأساسية فهي تؤله الإنسان والمادة والجسد وأخيراً الجنس.

ولا يهم إذا كان مصدر رؤية فرويد الحلولية يهودية أم لا، فقد تداخلت القبَّالاه اليهودية والقبَّالاه المسيحية بحيث لم يعد هناك فرق واضح بينهما. وقد تحول الاثنان باعتبارهما وحدة وجود روحية إلى وحدة وجود مادية، أي علمانية شاملة. ويظهر هذا في حلولية بومه وشبتاي تسفي وسويدنبرج الروحية، التي لا تختلف كثيراً عن حلولية إسـبينوزا أو لايبنتز أو هيـجل، الروحية المادية، التي هي في واقع الأمر وحـدة وجـود مادية ذات ديباجات روحية. فلا يوجد تناقض جوهري بين الحلوليتين، ويستطيع المثقف أن يكون حلولياً يهودياً مغرقاً في يهوديته أو حلولياً مسيحياً مغرقاً في مسيحيته. ولا يتناقض هذا مع كونه واحدياً مادياً (أي علمانياً شاملاً) مغرقاً في واحديته وماديته التي تُفصح عن نفسها من خلال ديباجات روحية.

وفي مدخل «التحديث كتفكيك» بيَّنا النزعة التفكيكية في المشروع التحديثي في الإطار الحلولي الواحدي المادي، وفي المداخل الخاصة باليهودية وما بعد الحداثة تناولنا تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة بين المثقفين من أعضاء الجماعات اليهودية، وكيف أن المثقف اليهودي يمكن أن يكون تفكيكياً بسبب علمانيته ويهوديته، فلا يوجد تناقض بين الواحد والآخر. والحلول هو الحلول والتفكيك هو التفكيك سواء كانت الديباجات علمانية مادية أم قبَّالية « روحية ».

كل هذا يعني أن حلولية فرويد وماديته تنبع من الأرضية الحلولية الغنوصية الصلبة التي تنطلق منها كل الأيديولوجيات العلمانية، والديباجات اليهـودية إن هـي إلا ديباجات، فالبنيـة الحلوليـة الواحدية واحدة.

ولعل أكبر دليل على أن الحلولية الواحدية هي المنظومة الأساسية ذات المقدرة التفسيرية الأشمل وأن المنظومة الفرويدية إن هي إلا تعبير عن هذه الحلولية المادية (العلمانية الشاملة)، أن هذه المنظومة انتشرت في كل أرجاء العالم بين اليهود وغير اليهود، وأصبحت عالمية غير مقصورة على وطن أو جماعة دينية أو إثنية بعينها. والمنظومة الفرويدية لا تختلف في هذا عن فكر تشارلز داروين أو مدرسة هلمهولتز، وهي مدارس أسسها مسيحيون، يُقال إن بعضهم كان معادياً لليهودية.

ولعل حالة يونج الذي عارض فرويد وأصبح من أهم أعدائه تُلقي كثيراً من الضوء على هذه القضية. فيونج المسيحي كان يعرف القبَّالاه اليهودية اللوريانية وكان معجباً بشكل خاص بفكرة أن الإنسان يساعد الإله في عملية رأب الصدع الذي نشأ أثناء عملية الخلق (تَهشُّم الأوعية). وهذه العملية هي التي يُطلَق عليها في التراث القبَّالي اصطلاح «الإصلاح الكوني (تيقون)». وكان يونج معجباً أيضاً بالمنظومة الغنوصية وتأثر بها ونشر بعض أهم النصوص الغنوصية واكتشف أن الأفكار الغنوصية هي في واقع الأمر الأفكار التي كد معظم حياته للوصول إليها. وتحمل منظومته كثيراً من ملامح المنظومات الغنوصية. وفكرة الرموز الأولية عنده تمثل السيولة الكونية حيث الإنسان واحد في كل زمان (الإنسان القديم) وكذلك تظهر الثنائية الجنسية في أفكاره عن الأنيما والأنيموس أو القرين الذكري للمرأة والقرينة الأنثوية للذكر. فرغم معارضته لفرويد ورغم العداء بينهما فإن الإطار المعرفي العام واحد، وهو الحلولية الكمونية الواحدية ذات الديباجات الروحية.

فرويد إذن مفكر حلولي واحدي مادي يستخدم ديباجات يهودية لا تؤثر بشكل جوهري في بنية منظومته أو مكوناتها. ومع هذا لابد من تأكيد أن فرويد، شأنه شأن ماركس، مفكر عظيم لا يمكن أن يذعن لهذه الواحدية أو الاختزالية ولذا نجد كثيراً من الإبهام في موقفه من الحلولية الواحدية. وقد أشرنا إلى صورة « الحصان الجامح » الذي يركبه الإنسان باعتبارها تعبيراً مأساوياً ملهاوياً عن هذا الإبهام، وعن التركيبية الكامنة خلف الاختزالية الجنسية، كما أشرنا إلى كتابه الحضارة ومنغصاتها وتأرجحه الشديد بين تأكيد ضرورة الكبت والإعلاء من أجل خَلْق الحضارة ثم إعلانه فشل المحاولة.

وهذا الإبهـام نفسه نجده في موقفه من العداء لليهود واليهودية. وقد حكى أبو فرويد له عن حادثة وقعت له، إذ أن شخصاً غير يهـودي أسـقط قبعته في بالوعة الشـارع المجاورة للرصـيف وصرخ فيـه « أيها اليهودي ابتعد عن الرصيف ». وهنا سأل فرويد الابن أباه عن طريقة استجابته لهذا الموقف فقال الأب: « نزلت إلى الشارع والتقطت قبعتي من البالوعة ». ويبدو أن فرويد شعر بالاحتقار نحو أبيه، ولكنه ولا شك كان احتقاراً مشوباً بالحزن وبقدر من التعاطف.

وفي محاولته تفسير ظاهرة العداء لليهود يسوق فرويد عدة أسباب تجعل من اليهود الضحية، وهذا هو الموقف الصهيوني التقليدي. ولكن فرويد في الوقت نفسه يجعل الضحية هي السبب فيما يلحق بها من أذى (وهذا هو الموقف التقليدي للمعادين لليهود)، فالعداء لليهود ـ حسب تصوره ـ غيرة لاشعورية يثيرها اليهود في غيرهم من الشعوب بادعائهم أنهم أول أبناء الإله وآثرهم عنده، أي أنهم شعب الله المختار. وقد فصل اليهود أنفسهم عن بقية العالمين بسبب إحساسـهم بالتـميز. وأخـيراً يرى فرويد أن اليهـود يمثلون ضمير الإنسان. ولكن موقف فرويد من الضمير مبهم للغاية. فاليهود هم الذين أعطوا المسيحية الوصايا العشرة بكل ما تحوي من حدود وقيود. والحدود والقيود أساس الحضارة، ولكنها أيضاً آلية الكبت والقمع. فمن ثم فاليهودي هو رمز الضمير الذي يأتي بالحضارة للناس، ومن ثم فهو أيضاً رمز هذا الكبت والإحساس بالذنب والعصاب الذي يصيب الإنسان في المجتمعات المتحضرة.

ونلاحظ أن فرويد ربط في هذا السياق بين اليهود والضمير (والكبت والحضارة). ولكن الأمر لم يكن كذلك دائماً، بل إن العكس هو الأغلب، فاليهود يرتبطون في الوجدان الغربي باللبيدو (اليهودي التائه ـ اليهودي كشيطان ـ اليهودي كقوة مكبوتة ـ قاتل المسيح ـ اليهودي كمتآمر أزلي ضد الشرائع المسيحية). وقد أسلفنا الإشارة إلى أن كلمة «إيد Id» التي اختارها فرويد للإشارة إلى الهو هي في واقع الأمر اختصار لكلمة «ييد» الألمانية والتي تعني «يهودي» وتومئ لكلمة «يسود» بمعنى الأساس الجنسي، أي اللبيدو. وقد أثار أحد الباحثين قضية أن كلمة Id ليست من اختيار فرويد، فقد استخدم التعبير الألماني داس. إس Das-es. ولكن هذا لا يغيِّر من الأمر شيئاً لأن الكلمة الألمانية نفسها ليست بعيدة عن كلمتي «ييد» و«يسود». ويبدو أن مثل هذا الاتجاه نحو التوحيد بين اليهود واللبيدو أمر شائع في الخطاب الحضاري الغربي، فأوتو رانك يتحدث عن اليهود باعتبارهم القوة المظلمة المحصنة ضد الحضارة والتي حافظت على علاقتها المباشرة والنشيطة مع الطبيعة. ونجد أدورنو وهوركهايمر يتحدثان أيضاً عن تلك العلاقة التلقائية المباشرة بين اليهود وحالة الطبيعة. في هذه المعادلة الجديدة سنجد أن اليهود هم اللبيدو وأن الحضارة (الغربية أو غير اليهودية) هي الضمير والأنا الأعلى والمقدرة على الكبت والتعالي والتجاوز.

ويبدو أن فرويد أدرك أن الإفصاح عن اللبيدو دون حدود أو سدود أو قيود يعني تَقبُّل الرؤية الحلولية المادية والوثنية القَبلية، وأن رفضها وتأكيد التجاوز هو قبول للرؤية التوحيدية. فالإنسان يصبح سوياً (يصبح إنساناً) حين ينجح في التحكم في الحصان الجامح وفي إعلاء مشاعره وتجاوزها ونقلها من الأم ومن الجنس نفسه إلى الجنس الآخر، داخل حدود اجتماعية (أي أنه يتجاوز المرحلة الرَحمية في مصطلحنا). ومع هذا كان فرويد يرى أن عملية القمع هذه محكوم عليها بالفشل بالنسبة للأغلبية الساحقة، رغم أنها عملية جوهرية لتأسيس الحضارة.

ثمة إبهام مأساوي هنا بين إعجابه بالتوحيد والتجاوز والحضارة (ولنسمها «النزعة الربانية»)، يواكبه إحساس عميق بفشل المحاولة وحتمية السقوط في الحلولية والنزعة الرَحمية. وقد عبَّر هذا الإبهام عن نفسه بشكل مثير واضح في آخر كتب فرويد موسى والتوحيد. فموسى هو الذي أتى بالشريعة والحدود وهو الذي علَّم اليهود عقيدة التوحيد (والإعلاء والتجاوز) فتحولوا من برابرة أجلاف (شعب اللبيدو) إلى شعب موحِّد، مختار من الإله. ولكن هل يخضع اللبيدو للكبت وقيود الحضارة والضمير (هل ينتصر التوحـيد على الحلول؟) إجـابة فرويـد ـ كما أسـلفنا ـ إجابة سلبية، ولكنه لم يكن بوسعه أن يقبلها بسبب عدميتها وسذاجتها. ولذا يحل فرويد هذه الإشكالية بأن يجعل عقيدة التوحيد عقيدة مصرية، ويجعل موسـى نفسـه مصرياً، ويجعل أصلـه اليهـودي أصلاً مُتخيَّلاً.

ويستند فرويد في أطروحته هذه إلى أسانيد واهية للغاية (يبدو أن فرويد لم يكن يفرق بين الإبداع الأدبي والنظرية العلمية. ولذا كان العنوان الأصلي لكتاب موسى والتوحيد هو الرجل موسى: رواية تاريخية The Man Moses: A Historical Novel). ويرى فرويد أن «موسى» كلمة هيروغليفية تعني «الابن المحبوب» ونجدها في كلمة «رع موسى» (رمسيس) و«تحوت موسى» (تحتمس). واستنتج من ذلك أن الأمير المصري قد أزال الصدر الوثني من اسمه واستبقى العَجُز الذي لا يدل على اسم إله في ذاته. وقد قارن فرويد أيضاً بين اسمي الإله المستخدمين في التوراة «يهوه» و«أدوناي»، واسترعى انتباهه أن يهوه دموي ومقاتل وعنصري (إله الحلولية)، وهو ما يجعله إلهاً قَبلياً وثنياً، بينما أدوناي رقيق وكوني وإنساني (منزَّه عن الطبيعة والتاريخ وعالم المادة)، وهي صفات تجعل الرسالة عالمية وكونية. ولذا رجَّح فرويد أن أدوناي من أصل مصري وأن اسم «أدون» هو تحريف لكلمة «آتون».

حاول موسى المصري (الضمير ـ الحضارة ـ الكبت ـ التجاوز ـ التوحيد) أن يُدخل المدنية على العبرانيين الأجلاف (اللبيدو ـ الحلولية ـ الوثنية) ولكنه فشل في ذلك، بل انتهى به الأمر إلى أن قتله العبرانيون. وهكذا انتصرت الوثنية والبربرية والحلولية على التوحيد. ولكن كما هو الحال دائماً بعد جريمة قتل الأب (أو المعلم الذي يقوم مقامه) شعر العبرانيون بالخطيئة والإثم (والرغبة في التجــاوز) فجـمعوا بين إلاهـهم الوثني يهـوه وأدوناي/آتون التوحيدي، إله موسـى، ونسـبوا إليه الأصل اليهودي، وكان فرويـد يقـول «كان موسى مصرياً، شاء قوم أن يجعلوا منه يهودياً » (وهذا ما نعبِّر نحن عنه بعبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي»).

وهذه ليست نهاية سعيدة أو حزينة وإنما هي نهاية مأساوية/ ملهاوية، منفتحة، نهاية لم يُحسَم فيها شيء، فنحن أمام « موسى المصري » نبي اليهود، صاحب رسالة التوحيد في وسط حلولي!